المهدي بن بركة *
( الحرية أولاً ) ينشر على حلقات كتاب «الاختيار الثوري في المغرب» للشهيد ’’المهدي بن بركة‘‘.. وهذه الحلقة الثالثــة
أ- نتائج السياسة الاقتصادية والاجتماعية:
حاول النظام الهروب من المشاكل الفلاحية بالبوادي بما سماه مشروع الإنعاش الوطني. وقد كانت نتيجة هذا المشروع هي سخرية كل الاخصائيين في ميدان التشغيل الجماعي للفلاحين. لأن الكل يعلم أنه لم يستطع أحد قط تجنيد الجماهير القروية قبل البدء بكسب ثقتها، ودون إعطائها وسائل الرقابة التي تمكنها من الشعور بأن المشروع في صالحها وفي خدمة أغراضها.
ومن الوجهة الاقتصادية البحتة، فإن مشروع الإنعاش الوطني ليس سوى مجموعة أوراش لتشغيل العاطلين مؤقتا، حسب إمكانيات تمويله بالقمح الأمريكي المقروض. وأن اسم المشروع وحده ليذكر بأشباهه من مشاريع الرجعية المعروفة في عهد «فيشي» أيام المارشال بيتان بفرنسا. على أنه ما لبث أن فقد كل مدلول اقتصادي، وتحول في النهاية إلى أسلوب «التويزة» المستعمل أيام الحماية الفرنسية، لتنظيم الخدمة الإجبارية لصالح الحكام والاقطاعيين.
وقد سجل معنا بعض الاخصائيين الأجانب فشل هذا المشروع الدعائي بل وكذلك بعض المشرفين عليه أنفسهم.
وتتوالى الاجتماعات تلو الاجتماعات تحاول عبثا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكل ما تنتهي إليه هذه الاجتماعات هو شرح جديد لأهداف المشروع في الزراعة، وكان أربابه ما يزالون في طور تعريف وتمهيد ولادته. غير أن أبلغ دلالة على فشل النظام هي عُدولهُ النهائي عن كل محاولة تخطيط اقتصادية بعد تبنيه مشروعنا لخطة الخمس سنوات الذي كان جاهزاً سنة 1959، بعد أن عمل على إفراغه من مدلولاته الثورية، لاسيما ما يتعلق بالإصلاح الزراعي.
وبعد سنة ونصف من إعلان الخطة، يمكن القول بأنها لن تتحقق حتى في أهدافها الجزئية، ولو أن المسؤولين ما يزالون ينتبهون للمفعول السحري التي تحدثه عبارة «خطة الخمس سنوات» فهم لذلك لا يغفلون عن حشرها في خطبهم وتصريحاتهم من حين لآخر.
ومن بين هذه الأهداف الجزئية التي عجزت الحكومة الملكية عن تحقيقها، نورد مثالا واحدا يتعلق بميدان التعليم. فقد كانت الخطة قد حددت الأهداف المطلوب تحقيقها في كل سنة، مع بيان عدد الأقسام المنتظر بناؤها وعدد المعلمين الواجب تكوينهم. ولم تنتبه الحكومة أنه لم ينفذ شيء للاستعداد لحاجيات السنة الدراسية 1961-1962 إلاّ خلال عطلة صيف 1961، بحيث كان يستحيل عليها أن تواجه طلبات الالتحاق الجديدة المترتبة على زيادة المواليد وحدها، بقطع النظر عن الذين تجاوزوا سن الدخول في المرحلة الابتدائية، وليس لنصفهم أي مقعد بالمدارس. نعم، لقد ارتجلت الإدارة إذ ذاك ما سمي «بمشروع المدارس« لبناء عدد من الأقسام الجديدة خلال أشهر العطلة. ولكن مثل هذه «العمليات» ولو تم إنجازها- وهذا أمر مشكوك فيه- لا يمكنها أن تكرر كل سنة بهذا الشكل المرتجل. هذا مع العلم أنه يستحيل ارتجال مشروع تكوين المعلمين، كما يرتجل بناء الأقسام الدراسية.
ولم نتحدث في هذا المثال إلاّ من ناحية الكم، إذ المصيبة أدهى وأمر لو نظرنا لتنفيذ خطة التعليم من ناحية الكيف. ويكفي للدلالة على ذلك أن المغرب التجأ مرة أخرى هذه السنة إلى فرنسا برجاء إرسال ألفي مستشار من رجال التعليم، ومن بينهم 1200 للمرحلة الابتدائية، مما يجعل المغرب أكثر البلاد احتياجا للأجانب في التعليم حتى في المدارس الابتدائية.
والحقيقة المرة هي أنه، ولو أن أهداف الخطة في ميدان التعليم قد تحققت، فلن يكون لذلك أي معنى ما دامت الأهداف الاقتصادية بعيدة عن الدخول في مجال التحقيق. إذ ما الفائدة من أفواج المتخرجين الجدد إذا لم تتوفر لهم ظروف العمل في اقتصاد مزدهر.
ذلك أن نتائج سياسة النظام في الميدان الاقتصادي متجلية في الحالة السيئة التي يعرفها الجميع، من غلاء في الأسعار يمس على الخصوص جماهيرنا الكادحة، واستفحال في الضرائب يهدد مصير صغار التجار والحرفيين. وإذا كان النظام قد استطاع حتى الآن أن يتلافى أزمة اقتصادية خطيرة، بفضل الرصيد الذي تركناه في الخزينة عند مغادرتنا للحكم، وكذلك بفضل المساعدات والقروض الفرنسية والأمريكية، وإذا كان النظام ينتظر مهلة لأخذ نفس جديد من وراء المحصول الفلاحي الجديد المترقب هذه السنة، فإن تصرفاته الحالية في الميدان الاقتصادي والمالي، لو استمرت على ما هي عليه، فإنه لا يمكنها أن تؤذي إلاّ لنتيجة حتمية واحدة وهي العجز الفادح في ميزان المدفوعات الخارجية.
ولذلك نرى اليوم وزير الاقتصاد السيد محمد الدويري، وهو من حزب الاستقلال، يوجه النداء تلو النداء لجلب الاستثمارات المالية الأجنبية لمواجهة هذا العجز في ميزان المدفوعات، ولمحاولة الحصول على حقنة إنعاش الاقتصاد. فهو لا يكتفي بإعطاء كل التطمينات من أجل استرجاع المستثمرين لأرباحهم ولرؤوس أموال، بل ويطلب من الحكومة الفرنسية أن تمنح لرؤوس الأموال الفرنسية ضمانات استثنائية عن طريق قروض خاصة. وفوق ذلك كله فهو يمنح لرأس المال الأجنبي امتيازات جديدة في بلادنا، تحت ستار ما سماه «الصندوق الوطني للاستثمار».
وحتى إذا كتب النجاح لهذه السياسة – وهذا بعيد الاحتمال- فإنها لن تؤدي إلى تنمية اقتصادية سريعة ومنسجمة، وإنما ستكون نتيجتها تركيز طبقة من السماسرة غير المنتجين الذين سيكونون الوسيط بين الاستغلال الاستعماري في أسلوبه الجديد وبين الشعب المغربي، وسيصبحون العدو الألد لمغربة الاقتصاد القومي.
كل هذه المحاولات لتلافي الفشل، لا يمكن أن يكتب لها النجاح، لأنها مشكوك فيها من الناحية الفنية، ولأنها رجعية من الوجهة الاجتماعية.
فليس للنظام أدنى وسيلة لتحقيق ما يتبجح به، بالرغم من سرقته لشعاراتنا وبعض من برامجنا، لأنه عاجز عن ذلك. ومرجع هذا العجز وهذا الفشل هو أن الشعب ابقي مبعدا عن سائر المشاريع، وهذا ما لا يريد النظام إدراكه رغم ما يمكن أن يتعلمه عند غيرنا من دروس التجارب المتعددة.
ب – دعائم النظام:
وحيث أن هذا النظام لا يمكنه أن يعتمد على ثقة الجماهير الشعبية والتفافها الإرادي حوله، فإنه محكوم عليه بأن يبقى تحت رحمة العون الخارجي، وأن يظل معتمدا في الداخل على عناصر أقل ما يقال عنها أنها فاقدة لكل فعالية، وهي الأجهزة الإدارية العليا والمتوسطة إلى جانب الجيش والشرطة.
أمّا فيما يخص الجهاز الإداري فقد عمد النظام إلى شراء موظفيه بكل ما في هذه الكلمة من معنى، منعما عليهم بامتيازات غير متناسبة البتة مع كفاءتهم وانتاجيتهم. ولكن لسوء حظ هذا الأسلوب من الحكم، فإن الامتيازات بالطبع محدودة، بينما شره بعض الناس لا حد له. مع العلم أن الجهاز الإداري يقوم بالفعل على جمهور صغار الموظفين لا على الفئة الصغيرة من كبار الموظفين. وما دامت أغلبية الموظفين تجد أن وضعيتها تستفحل كما وكيفا، فإنها لا ترى وازعا يحثها على التضحية، بينما رؤسائهم غير متورعين عن ارتكاب الفضائح لتكديس الثروات الطائلة بحكم وظائفهم.
ولذلك لم يلبث الجهاز الإداري أن سرت فيه روح الاهمال واللامبالاة وتفشى فيه التعفن والفساد، كنتيجة حتمية لفقدان الرقابة الشعبية. وإن خطب الرسميين لا تجدي فتيلا لتغيير الأوضاع المتردية التي آلت إليها الإدارة فغدت أداة متعفنة ومشلولة.
فأي فائدة تُرجى والحالة هذه من إدارة منخورة متغنغرة؟
أضف إلى ذلك التنافس المستحكم بين الفئات التي تؤلف زبائن النظام، والتي تتسابق على المناصب الإدارية، بعضها يريد وظائف وزارة العدل والبعض الآخر وظائف وزارة الداخلية، وفئة ثالثة ترشح نفسها لاحتلال مناصب إدارة القطاع العام. وقد بلغ الأمر إلى حد أقلق المسؤولين وحلفائهم الأجانب وبعض المتعاونين مع النظام.
أما الجيش والشرطة فإنهما جهازان يستمدان قاعدة المشتغلين فيهما من أبناء الشعب، فإن الجنود والضباط الذين كانوا يشتغلون في فرق عهد الحماية الأجنبية، والذين تشكلت منهم القوات الملكية المسلحة غداة الاستقلال، ما كان يدفعهم للانخراط في الجيش الفرنسي أو الإسباني سوى الهروب من سياسة الظلم أو عامل البطالة. بحيث أننا نجد في نفوسهم كما نجد عند فرق جيش التحرير التي حلت وأدمجت في صفوف القوات الملكية المسلحة في غشت 1956، نفس المطامح الشعبية التي تجيش بها نفوس عائلاتهم التي ما تزال مقيمة بالقرى، أو التي نزحت للأحياء الفقيرة بضواحي المدن الصناعية. هذه حقيقة يجب ألا نغفل عنها أبدا.
ولكن هناك حقيقة أخرى يتعين علينا كشفها هنا، وهي أننا باعتبارنا الجيش والشرطة الدعامتين الأساسيتين للنظام القائم، فلأن هذا النظام لم يسمح لهما قط بأدنى ارتباط مع الشعب، وظل يمانع في إصرار قبول أي شكل من أشكال التجنيد الشعبي للخدمة المدنية أو العسكرية التي من شأنها أن تخلق الرابطة الضرورية بين الجيش المحترف، وبين الشعب الذي وجد هذا الجيش مبدئيا لخدمته.
وكانت نتيجة هذا الحرص الذي يبديه القصر الملكي، في احتكاره للجيش كملكية خاصة به معزولة عن الشعب وفي إطار مغلق، أن تكونت شبه إقطاعية قوية التسليح، ومهددة بشتى أنواع المؤثرات الأجنبية والمصالح المشبوهة، دون أية وسيلة لحماية هذه القوات المسلحة من الأخطار، أو لإخضاعها لرقابة شعبية. فأصبح يخشى على النظام نفسه بسبب سياسته العمياء اللاشعبية أن يفقد سلطته على تسيير هذه الأداة. وقد كشفت تجربة الكونغو أن بعض المسؤولين على رأس القوات الملكية المسلحة، قد ينهجون سلوكا مناقضا للسياسة التي يعلن عنها النظام.
فالاحتمال قائم إذن في أن الدعامة التي يظن النظام أنه مرتكز عليها، لا اتفلت من يده فقط، بل إنها قد تصبح تهديدا خطيرا لبقائه.
ونحن عندما كنا نطالب بتأميم الجيش، فلأننا لم نكن نقصد الأشخاص المشتغلين في هذا الجيش، وإنما كان يعنينا كشف المهام التي يشغلونها والإدارة السياسية لجيش وما يحيط بها من الشبهات والأخطار المهددة لسلامة الأمة.
وليست هذه الأخطار سوى ما سبق أن تحدثنا عنه من نتائج سياسة الاستعمار الجديد في القارة الإفريقية بأسرها. وأن الظروف التي تسهل خضوع النظام لمناورات الاستعمار الجديد، لهي بقاء المؤسسات الاستعمارية التي خلفها نظام الحماية، والتي يشخصها مليون هكتار من الأراضي الزراعية المملكة للأجانب كما تعبر عنها سيطرة الاحتكارات الأجنبية على وسائل الإنتاج الأساسية ونظام التسليف والتجارة. ومما يزيد خضوع النظام القائم للرغبات الأجنبية، ضعفه وعجزه اللذان يضطرانه لاستجداء المساعدة المالية والفنية، تلك المساعدة التي تصبح والحالة هذه وسيلة لتركيز مصالح الاستعمار الجديد، ومصالح حلفائه الإقطاعيين والسماسرة البرجوازيين.
ثالثا – التناقضات الاجتماعية:
لم تكن التناقضات الاجتماعية سنة 1955، أي قبيل اعلان الاستقلال السياسي قد برزت حدتها في شكل صراع طبقي، لكنها ما فتئت بعد ذلك أن تبلورت فأدت إلى تحول في الحركة الوطنية، انتهى سنة 1959 بظهور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي فصل قيادة حزب الاستقلال الرجعية عن قاعدة التحرير الشعبية وقد تبع هذا التحول تحول مواز في الحكم بحدوث الانقلاب الرجعي سنة 1960.
فإن البرجوازية الكبرى الفلاحية والتجارية، مع نسبة ضئيلة منها في النشاط الصناعي، قد ربطت مصيرها منذ الاستقلال مع عناصر الاقطاعيين، ومع المؤسسات الاقتصادية الموروثة من عهد الاستعمار، بل انها وقفت دون ما كان الرأسمال الليبرالي الأجنبي مستعدا لمنحه اياها من مراكز بحكم سياسة الاستعمار الجديد. وكان هذا الموقف المتقاعس للبرجوازية ناشئا عن ضعفها كما وكيفا، وعن خوفها من الحركة العمالية وزحف الجماهير الشعبية.
فوضعها الراهن اليوم هو استسلامها المطلق للإقطاع والاستعمار الجديد. ونحن نرى نتيجة لذلك الموقف المتخاذل للمتكلمين باسمها في المسألة الدستورية، مع أن مصلحتها الطبقية كانت تفرض عليها الوقوف في وجه سيطرة القوى الحاكمة، وبذاك فقد حكمت على نفسها بالعبودية والتبعية بدون قيد ولا شرط.
نعم، مقابل هذه التبعية تستفيد البرجوازية الكبرى من السياسة الاقتصادية الحالية. فمما لا شك فيه أن مصالحها الأساسية في المدن والقرى قد امتدت وتحصنت بفضل الإجراءات القانونية المتعلقة بنظام التجارة والجمرك والضرائب. ولكنها لن تلبث أن تجد نفسها في النهاية- بحكم هذه السياسة- أمام أحد احتمالين لا مفر لها من اختيار أحدهما.
فإما أن تصبح برجوازية أعمال وإنتاج فتضطر لوضع مسألة تحقيق تحرر الاقتصاد الوطني.
وإما أن تكتفي بدورها الطفيلي كسيدها الإقطاع، تاركة كل الامتيازات الرئيسية بيد الأجانب المستغلين للبلاد.
ومهما يكن، فإن هذا السلوك المتميز للبرجوازية الكبرى الطبقية، وضع فاصلا بينهما وبين البرجوازية الوطنية، المتوسطة والصغيرة. التي يزداد فقرها يوما بعد يوم بسبب السياسة الاقتصادية القائمة وتتسع الهوة بين هذه الطبقة الوسطى وبين حفنة المنتفعين بالامتيازات التي يمنحها لهم النظام، بقدر ما يربطون مصالحهم بمصالح المستوطنين الأجانب، وبالرأسمالية الدولية في الميادين التجارية والصناعية والبنكية والفلاحية. وبهذا نفهم الوضعية الغريبة التي أشرنا إليها، وهي أن هذه البرجوازية الكبرى عاجزة عن احتلال المواقع التي يستطيع الاستعمار الجديد السماح بها وتسليمها.
فمن الخطأ إذن أن ننتظر من هذه الطبقة أن تكون وفية، ولو حتى لمطلبها الطبيعي في تحقيق الديموقراطية، فأحرى أن تتولى مهمة تحقيق التحرر الاقتصادي. ومن هنا يتجلى الدور الجسيم الذي ينتظر الطبقة العاملة لتحمل مسؤولية المعركة الاقتصادية.
وأن هذه المعركة الاقتصادية لابد لها أن تتخذ بطبيعة الحال صبغة سياسية حتمية، مادام الحكم القائم هو الوصي على البرجوازية الكبرى، والوكيل المنصرف لخدمة مصالح الاستعمار الجديد، ولرعاية التحالف بين الرأسمالية الدولية والبرجوازية المستغلة. وقد أدركنا هذه الحقيقة بالتجربة المباشرة طيلة سنوات مشاركتنا في الحكومة.
لذلك نرى أن خطة النظام الحالية تجاه كل اصطدام اجتماعي بمناسبة مطلب عمالي جزئي، هي ألا يتجاوز الصدام نطاقه المحدود، علما منه أنه لن يلبث حتما حتى يفضي إلى معركة جوهرية تهدد الأسس الاقتصادية والاجتماعية للوضع بأكمله. فالحكم يتظاهر بالتنازل في معركة عمالية تهم القطاع العام، أو هو على الأقل يجزل في الوعود مثلما حدث عند إضراب عمال البريد في نهاية سنة 1961. ولكن إلى أي حد يستطيع أن يسير في خطة الوعود والتنازلات الشكلية؟ وهل يستطيع أن يسلك نفس الخطة في النزاعات العمالية المتعلقة بالقطاع الخاص؟
وإن هذه التساؤلات هي التي ترسم الإطار الذي يتعين علينا أن نبحث فيه حقيقة ومغزى مظاهر بعض الاعتدال في نضالية القيادة النقابية.
وإن ما يخشاه النظام هو أن تصبح الطبقة العاملة، وهي مجندة في طليعة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومنتظمة في الاتحاد المغربي للشغل، الأداة الصالحة لتحقيق التحرر الاقتصادي والثورة الاجتماعية. وهو لذلك يبذل قصارى الجهد لفصل النشاط النقابي العمالي عن حركة التحرر الوطني، بعد أن باءت محاولات تقسيم النقابات بالفشل.
أما طبقة البرجوازية الصغيرة في المدن والقرى، فإنها تشمل قطاعات مهمة من الموظفين وأصحاب المهن الحرة، وكذلك الحرفيين والتجار والفلاحين الموسرين. وقد لعبت هذه الفئات من البرجوازية الوطنية دورا مهما في حركة التحرر الوطني، وهي تزداد مع الأيام شعورا منذ إعلان الاستقلال الشكلي باستمرار الأنظمة الاستعمارية والإقطاعية. كما تتعمق خيبتها نتيجة لسياسة الحكم السيئة والوخيمة العواقب. فنراها تسترجع روح التمرد والنقد، وتقتنع أن حل المشاكل التي تتخبط فيها، وتحقيق مطامحها، لن يتأتى شيء منه إلاّ عن طريق سياسة تحررية حقيقية، وإقامة نظام ديموقراطي كضمان لازدهار البلاد في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والنقابية.
غير أن هذه الطبقة كما هو معروف عنها، قد تميل إلى اختيار الدفاع عن مصالحها في إطار النظم القائمة، مما يجعل موقفها غامضا وغير مستقر، كما تثبت ذلك التجارب في سائر البلاد المتخلفة. فلا غرابة إذا وجدنا بعض العناصر من هذه الطبقة تحاول معالجة مشاكلها بصفة فردية وجزئية خارج الإطار الجماعي الشامل، وحتى في حالة انتظامها على الصعيد المهني، فإنها أميل إلى التعاون مع السلطات المحلية منها إلى دفع نشاطها للمستوى الوطني.
ومع ذلك فإن هذا القطاع الهام من مجتمعنا، يتوفر على طاقات ثورية كامنة، استطاعت أن تتفجر في فترة فيما بين 1953-1955، كما هبت لإعلان تضامنها مع العمال والدفاع عن وحدتهم النقابية بمناسبة إضرابات 1959-1960، وبفضلها حققنا إلى الآن انتصاراتنا الانتخابية البلدية والقروية.
وبقدر ما نكون مخطئين ومجحفين في حق هذه القوة بإهمالها والتنقيص من قيمتها، فإننا نكون واهمين إذا نحن قصرنا كل اعتمادنا عليها من النشاط الثوري لحزبنا.
على أن النظام لا يعير اهتماما كبيرا لهذه الفئات في المجتمع من الوجهة السياسية، اللهم إلاّ ما كان من استغلال رخيص لعواطفها الدينية وتمسكها بالعادات التقليدية، كما أنه لا يكترث لحركة مزاج البرجوازية الكبرى، مثلما هو مهتم على الخصوص بطبقة الفلاحين.
وظاهرة الاهتمام بالفلاحين هذه، جزء من سياسة الاستعمار الجديد الذي استنبط من دروس الثورات الآسيوية والثورة الكوبية على الخصوص بعض الاستنتاجات السطحية التي ينصح بمقتضاها الأنظمة التي تدور في فلكه بألا تكترث بالفئات الحضرية من شعوبها، وأن تجتهد قبل كل شيء في إخماد تذمر الفلاحين والحيلولة بينهم وبين الانزلاق الثوري.
ولا حاجة بنا إلى تحليل جديد لما يسمى بمشروع الإنعاش الوطني الذي استعرضناه من الواجهة الاقتصادية، في القسم الأول من هذا التقرير ولكن من المهم أن نعيد النظر هنا في مغزاه السياسي.
في الواقع أن هذا المشروع يدخل في سلسلة التجارب المتتابعة منذ عهد الحماية الفرنسية، قصد معالجة قضايا المجتمع القروي ومشاكله، دون المساس بنظام الملكية الذي كان يستحيل على الحماية المساس به، دون تهديد وجودها من أساسه، كما كان يستحيل على الحكومات الأولى بعد الاستقلال- ولو مع مشاركتنا فيها- أن تتعرض لهذا المشكل ما لم تحل مشكلة الحكم من أصله.
وكما قلنا فإن مشروع الإنعاش الوطني ليس سوى صورة كاريكاتورية لتعبئة الجماهير القروية. ولكنها قد تؤدي إلى تضليل هذه الجماهير، وقد يستفيد النظام من ورائها ربح بعض الوقت. وهذه هي الغاية التي يعمل من أجلها. لذا وجب علينا اغتنام فرصة تجميع هؤلاء الفلاحين المحرومين من الأرض، وان لم يكن ذلك قصد أصحاب المشروع، لنعرض على أنظارهم الحلول الأجدى لمشكلتهم، وإقناعهم بأن الطريق السليم ليس هو الذي يسوقهم النظام إليه.
* * * * *
ويمكننا أن نستخلص مميزات المجتمع المغربي الحاضر في الظواهر الآتية:
- برجوازية كبرى تنازلت عن مطامحها السياسية، وربطت مصيرها بالإقطاع.
- طبقة عاملة تكون القوة الرئيسية، ولكنها في حاجة لأن تضع بوضوح قواعد العلاقات بين مهامها النقابية وبين أهدافها السياسية.
- برجوازية متوسطة وصغيرة متذمرة ومتوفرة على طاقة ثورية كامنة، ولكنها مترددة في استئناف النضال لاستكمال التحرر الوطني.
- جماهير صغار الفلاحين والمحرومين من الأرض الذين هم في حاجة إلى وضوح الرؤيا لمهامهم، كما هم في حاجة إلى إطار ينظمون فيه نضالهم الخاص إلى جانب نضال الطبقة العاملة.
هذه هي الصورة الموضوعية غير الواضحة المعالم للظروف الاجتماعية التي استطاع معها النظام أن يحافظ على وجوده، متظاهرا ببعض الاستقلال بالنسبة لجميع فئات المجتمع، بينما هو يزداد خضوعا يوما بعد يوم لمصالح الاستعمار الجديد. ومن وراء ذلك صورة خلفية للصراع الهائل الدائر بين الاستعمار وقوى التحرر والتقدم في العالم.
……………………
يتبع.. الحلقة (4/7)؛ ” نقد ذاتي – ثلاثة أخطاء قاتلة “
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مناضل وسياسي مغربي، وقومي عربي، كان قبل اختطافه واغتياله عام 1965 قائداً للمعارضة المغربية ومدافعاً عن قضايا الحرية والسلام في العالم.
……………………
التعليقات مغلقة.