منى فرح *
منذ وقت ليس ببعيد، كان مقرراً أن يكون ولي العهد السعودي هو محمد بن نايف، ابن شقيق العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز. لكن ابن عمه، الشاب الطموح، الأمير محمد بن سلمان كانت لديه خطة للاستحواذ على المنصب وفرض سيطرته على البلاد. كانت خطة لم ترحم أحداً، بحسب “أنوج تشوبرا”، مراسل “الغارديان” من الرياض (عامي2017 و2021).
في 21 حزيران/ يونيو 2017، تم احتجاز الأمير محمد بن نايف طوال الليل. ومع اقتراب ضوء النهار، خرج من القصر الملكي في مكة. كان حُراسه الشخصيون، الذين في العادة يرافقونه في كل مكان، في عداد المفقودين. لقد تم اقتياد الأمير إلى سيارة كانت تنتظره في باحة القصر. كان حراً في مغادرة القصر، لكنه سُرعان ما اكتشف أنها لم تكن حرية مطلقة، ووجد نفسه في وضع لا يختلف كثيراً عن الاحتجاز.
لذلك، وبمجرد أن تحركت السيارة وانطلقت بعيداً عن بوابات القصر، بدأ بن نايف بإرسال سلسلة من الرسائل النصية من هاتفه المحمول، كانت كلها تُعبر عن “الذعر” الذي كان يتملكه في تلك اللحظات.
“كن حذراً جداً! لا تعود!”، كتب بن نايف إلى أقرب مستشاريه وأكثرهم ثقة، والذي كان قد غادر المملكة قبل أسابيع فقط.
وعندما وصل نايف إلى قصره الخاص، في مدينة جدَّة الساحلية، بعد بضع ساعات، وجد حراساً جُدداً يديرون المكان، ولم يجد أحداً من حراسه القُدامى. كان من الواضح أنه قد تم وضعه قيد الإقامة الجبرية.
وفي رسالة نصية ثانية بعث بها إلى مستشاره المقرب ذاته، كتب بن نايف يقول: “الله يكون بعوننا ويوفقنا يا دكتور. الشيء المهم هو أنه يجب عليك توخي الحذر، ولا ينبغي لك أن تعود تحت أي ظرف من الظروف”.
“العرَّاب” على الطراز السعودي:
وفي التفاصيل، أنه في مساء يوم 20 حزيران/ يونيو 2017، أُجبر بن نايف على التنحي عن منصب “وريث العرش السعودي”. جاء ذلك في حلقة من الأحداث وصفها أحد المعنيين بشؤون العائلة المالكة لصحيفة “الغارديان” بأنها “تشبه أحداث فيلم العرَّاب، لكن على الطراز السعودي”.
كان الأمير بن نايف يشرف على الأمن الداخلي للمملكة. وكان يُعد “أقرب حليف سعودي” لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي. أي. إي). حتى أن المدير السابق للوكالة، مايك بومبيو، منحه ميدالية “جورج تينيت” (https://www.independent.co.uk/news/world/middle-east/cia-saudi-arabia-crown-prince-muhammed-bin-naye-medal-counter-terrorism-work-intelligence-a7577221.html) (في وقت سابق من العام 2017)، تقديراً لجهوده في مكافحة الإرهاب التي أنقذت أرواح الكثير من الأميركيين. وفي 29 نيسان/أبريل 2015، أي بعد أن بدأ حكمه، أصدر الملك سلمان أمراً ملكياً باختيار بن نايف ولياً للعهد، وتعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء وزيراً للداخلية ورئيساً لمجلس الشؤون السياسية والأمنية، مما جعله يليه في ترتيب العرش. لكن تنافساً شرساً كان يغلي خلف الكواليس بين بن نايف وابن عمه الأمير محمد بن سلمان (نجل الملك)، المعروف أيضاً باسم MBS، والذي انتقل فجأة من خارج الأضواء ليصبح ولياً لولي العهد.
حصار قطر:
قبل وقت قصير من “انقلاب القصر”، وتحديداً في 5 حزيران/ يونيو 2017، وصلت حالة التوتر بين الأمراء إلى نقطة الغليان بعد أن فرض محمد بن سلمان، وغيره من الزعماء الإقليميين حصاراً عقابياً (https://www.theguardian.com/commentisfree/2017/jun/08/blockade-qatar-against-arab-spring-close-down-al-jazeera) على قطر المجاورة. فلطالما أزعجت هذه الإمارة الصغيرة، الغنية بالغاز، جيرانها العرب الأكبر حجماً من حيث المساحة والتعداد السكاني، بسبب بعض المواقف، مثل إفساح المجال لإسلاميين ومعارضين إقليميين للظهور عبر قناتها الإخبارية المؤثرة “الجزيرة”. كان لدى بن نايف أيضاً مشاكل مع قطر، لكنه فضَّل الدبلوماسية الهادئة على نهج MBS الصدامي. وكان على اتصال دائم مع حاكم قطر الأمير تميم بن حمد آل ثاني، ولكن بشكل سرّي ومن دون علم MBS. وفي ذروة أزمة حصار قطر، أرسل بن نايف رسالة نصية إلى مستشاره يقول فيها: “اتصل بي تميم اليوم، لكنني لم أُجب. أريد أن أرسل له هاتفاً مشفراً لكي أتمكن من الاستمرار في التواصل معه”.
المبايعة تحت تهديد السلاح.. أو المستشفى:
في 20 حزيران/ يونيو 2017، أي في خضم أزمة حصار قطر، دُعي بن نايف لحضور اجتماع في قصر الملك سلمان في مكة؛ وهو عبارة عن مبنى عملاق على شكل مكعب، بجدران رخامية، وله إطلالة على الكعبة. ووفقاً لمصادر مقربة من بن نايف، فإن العناصر الأمنية المرافقة للأمير تلقت تعليمات بالانتظار خارج القصر. وأن حراساً موالين لـ MBS صادروا جميع الهواتف المحمولة، بما في ذلك هواتف موظفي القصر. كما تم إبعاد أحد كبار أفراد العائلة المالكة، كان على أهبة عبور بوابات القصر عقب دخول الأمير محمد بن نايف. ويُزعم أن بن نايف اقتيد إلى غرفة خاصة مع تُركي آل الشيخ، المقرب من MBS بطريقة فظَّة ومخيفة والمعروف عن آل الشيخ ولعه في اقتناء ساعات “ريتشارد ميل” (https://www.instagram.com/accounts/login/?next=%2Fp%2FCG4mQbqg0pa%2F&source=omni_redirect) الباهظة الثمن. {لاحقاً، تمت ترقية الشيخ تُركي لرئاسة الهيئة العامة للترفيه(https://www.theguardian.com/media/2022/feb/01/vice-media-secretly-organised-20m-saudi-government-festival)}.
ويُزعم أن الشيخ تُركي احتجز الأمير بن نايف في الغرفة لساعات، وضغط عليه لكي يوقع خطاب استقالة والتعهد بمبايعة محمد بن سلمان والولاء له. في البداية، رفض بن نايف التوقيع. ووفقاً لمصدر مقرب منه، فقد تبلغ بأنه إذا لم يتنازل عن مطالبته بالعرش، فسوف يتم اغتصاب نساء أسرته. وقال المصدر أيضاً إنه تم إخفاء أدوية ضغط الدم والسكري التي يتناولها بن نايف، وتم تهديده بأنه إذا لم يتنحى عن طيب خاطر، فإن وجهته التالية ستكون المستشفى. وقال مصدر آخر مقرب من العائلة المالكة إن نايف كان خائفاً جداً من التعرض للتسمم في تلك الليلة، لدرجة أنه رفض حتى شرب الماء.
سُمح لنايف بالتحدث مع اثنين فقط من الأمراء في “هيئة البيعة”، وهي الهيئة الملكية التي تُصادق على تسلسل الخلافة. وقد أُصيب بصدمة عندما علم أنهما خضعا بالفعل لمحمد بن سلمان. وبحلول الفجر، كان كل شيء قد انتهى. استسلم نايف بعد أن تمكن منه القلق والإرهاق. تم إجباره على الدخول إلى غرفة مجاورة، حيث كان محمد بن سلمان ينتظره وحوله كاميرات تلفزيون وإلى جانبه حارسٌ شخصي مسلح. فيما بعد، أظهرت لقطات، بثتها محطات تلفزيونية سعودية (https://www.youtube.com/watch?v=39Z_9uom36w)، لمحة موجزة يظهر فيها الشيخ تُركي وهو يزلق على عجل عباءة مزينة بالذهب على ظهر الأمير المُحتجز، بينما كان محمد بن سلمان يقترب من ابن عمه وينحني بطريقة مسرحية لتقبيل يده وركبته.
لاحقاً، كتب بن نايف رسالة نصية إلى مستشاره يقول فيها: “عندما بايعته، كان هناك سلاحٌ في ظهري”.
“الأسوأ لم يأت بعد”!
في الأيام التي تلت تلك الأحداث، أُزيلت كل صور محمد بن نايف من المباني العامة. أصبح محمد بن سلمان الأول على قائمة من سيخلف الملك سلمان في العرش. أصبح الرجل الأقوى في المملكة وهو لم يتجاوز بعد سن الـ31 عاماً. صحيح أن الملك الثمانيني ظلَّ رئيساً للدولة، لكن نجله أصبح هو الحاكم الفعلي للبلاد، مع سيطرة مطلقة على جميع قطاعات الأمن والاقتصاد والنفط السعودي. أما بن نايف، “حبيب أجهزة المخابرات الأميركية”، والذي كان يُفترض أنه هو من كان يجب أن يكون الحاكم المقبل للمملكة العربية السعودية (https://www.theguardian.com/world/saudiarabia)، فقد أصبح سجيناً. وكان لسان حاله يقول: “إن الأسوأ لم يأت بعد”!
تم حجب كل التفاصيل والألعاب التي اتبعتها السلطة لتنفيذ انقلاب القصر عن الرأي العام لفترة من الوقت. لكن، بعد ذلك تم تسريب قصاصات من المعلومات إلى الصحافة. على سبيل المثال، تم تزويد وسائل إعلام دولية بما يسميه شركاء بن نايف “مزاعم كاذبة” (https://www.reuters.com/article/saudi-palace-mbn-idINKBN1A62FD) مفادها أن الأمير تم إبعاده عن المصلحة الوطنية العامة “لأنه كان مدمناً على المورفين والكوكايين”.
إن الوصول إلى حقيقة ما جرى والحصول على معلومات دقيقة وصحيحة أمرٌ صعب للغاية في بلد مثل السعودية، حيث تفرض دولة مراقبة مشدَّدة على كل شيء، لدرجة أن بعض السعوديين يضعون هواتفهم في الثلاجة أثناء مناقشة أمور “حسَّاسة”. كما أن سفارتي السعودية في كل من لندن وواشنطن رفضتا تقديم أي تعليق أو رد على المعلومات التي حصلت عليها “الغارديان”.
سعد الجبري.. “أقوى شخصية غير ملكية”:
لكن سرداً مفصلاً لأحداث عام 2017، وما تلاها من تداعيات مروّعة، أصبح ممكناً الآن، بفضل بعض الأسرار التي سرَّبها عدد من كبار أفراد العائلة المالكة وغيرهم من المصادر ذات الصلة، الذين تم تجريدهم من نفوذهم وثرواتهم في عهد MBS، وبعضهم تعرض للسجن والتعذيب.
من بين هؤلاء رجل يُدعى سعد الجبري (https://www.theguardian.com/world/2021/oct/25/saudi-crown-prince-a-psychopath-says-exiled-intelligence-officer)، أقرب مستشار لمحمد بن نايف، ورئيس جهاز مخابراته. وهو الشخص ذاته الذي كان بن نايف يراسله طوال فترة الأزمة (من لحظة خروجه من القصر الملكي عقب ليلة الاحتجاز ولما بعد إجباره على مبايعة MBS). عمل الجبري (63 عاماً) في الظلّ لفترة طويلة. ومع ذلك، كان كثيرون، ممن عملوا معه، يعتبرونه “أقوى شخصية غير ملكية في السعودية”. حتى أن أحد المسؤولين الأميركيين السابقين، الذين عملوا مع الجبري لسنوات، وصفه بأنه “حلقة الوصل، ومنسق الدولة العميقة” بين الرياض والقوى الغربية.
في السنوات التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، تمَّت ترقية الجبري، وأصبح رئيساً لعمليات مكافحة الإرهاب. معاً، قام الجبري وراعيه محمد بن نايف بتحديث جهاز الأمن والمراقبة في المملكة. وتم اتهامهما بأنهما كانا يستهدفان نشطاء سلميين بحجة مكافحة الإرهاب وإرساء أسس الدولة البوليسية، التي سينقلب عليها MBS لاحقاً.
ظهرت الرسائل النصية، التي تبادلها بن نايف والجبري فيما بينهما، لأول مرة من خلال ملفات قانونية في أميركا الشمالية وكذلك في حكم أصدرته منظمة “الإنتربول” الدولية ترفض فيه طلباً سعودياً باعتقال الجبري في الخارج. وتمَّت المصادقة على الرسائل الواردة في تلك الوثائق من قبل خبير في النظام الرقمي الشرعي، عينته شركة “نورتون روز فولبرايت”، وهي شركة محاماة دولية تمثل الجبري وبحوزتها جهاز الـ”آي فون” الخاص به، وفقاً لإفادات المحكمة. وقد مرَّر أفراد في فريق الجبري لصحيفة “الغارديان” حُفنة من تلك الرسائل النصية التي لم يتم نشرها من قبل.
تدمّير نموذج الخلافة التقليدي:
على مدى عقود، تم تداول العرش في المملكة العربية السعودية “أفقياً“ (https://agsiw.org/all-the-kings-sons/)، أي بين أبناء عبد العزيز آل سعود (مؤسس الدولة السعودية الحديثة)، وبطريقة كانت الغاية الأساسية منها “ضمان توازن دقيق للقوى بين مختلف فروع العائلة المالكة الواسعة”. صحيح أن خلافة الأمير بن نايف للعرش؛ لو تمت؛ كانت لتشهد انتقال الحكم إلى الجيل الأصغر لأول مرة في المملكة (كان بن نايف في سن الـ55)، لكنه انتقال كان ليكون سليماً كونه كان ليحصل من فرع إلى فرع مختلف من العائلة (حسب المُتبع)، مع الحفاظ على التوازن المطلوب بين مختلف فروع عائلة آل سعود. لكن انقلاب القصر أرسى انتقال السلطة داخل فرع واحد من العائلة، ومن الأب إلى الابن بطريقة مباشرة. هكذا عزل MBS منافسه الرئيسي، وفي الوقت نفسه دمَّر نموذج الخلافة التقليدي القديم الذي كان يُقدر الأقدمية ويشترط الموافقة بالإجماع داخل الأسرة،. لقد مكَّن هذا الإنقلاب MBS من اكتساب قدر كبير من السلطة والقوة أكثر من أي حاكم سابق، حتى قبل أن يتولى العرش بشكل رسمي.
جاء الانقلاب تتويجاً لشهور من العداء بين محمد بن سلمان ومحمد بن نايف. كانت إحدى نقاط الصراع الرئيسية بينهما “التنافس على كسب التأييد من الإدارة الجديدة للرئيس الأميركي (السابق) دونالد ترامب”. وفي هذا الخصوص، يقول مقربون من بن نايف “إن الأمير كان يتنصت على مكالمات MBS مع مسؤولين أميركيين مثل جاريد كوشنر”، صهر ترامب ومستشار البيت الأبيض السابق. وإن الحشرية جعلته يتتبع مناورات MBS في واشنطن. وتشير نسخة من مكالمة هاتفية، تم اعتراضها في ربيع عام 2017، وعرضها بن نايف على الجبري، إلى أن MBS كان يناقش موضوع الخلافة الملكية مع جاريد كوشنير. وأنه في تلك المكالمة، حاول MBS إقناع كوشنير بأهمية شبكة العلاقات الوثيقة التي نسجها مع جميع الوكالات الأميركية “باستثناء ثلاث”. وكان رأي الجبري أن الوكالات الثلاث هي: وكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وكالة الأمن القومي. وهي المؤسسات التي طالما فضَّلت العمل مع بن نايف.
في الخُلاصة، كان من الواضح بالنسبة للجبري وراعيه بن نايف أن MBS كان يحاول تعزيز الدعم الأميركي لخلافته.
………………….
(*) النص الأصلي في جريدة “ذا غارديان” الإنكليزية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.