الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

المملكة العربية السعودية وبصمة الملك ‘سلمان’ التي لا تُمحى

فيليب جيرار * 

يقدم المؤرخ الفرنسي “فيليب جيرار” سرديته لمسيرة “سلمان بن عبد العزيز” من إمارة الرياض طوال 60 سنة إلى العرش الملكي عام 2015، يُضمنها أبرز المحطات التي ميّزت أداء أحد أبرز الممسكين بمفاصل العاصمة قبل أن يُصبح ملكاً. يذكر أن النص نشره موقع “أوريان 21” بالفرنسية وترجمه حميد العربي (من أسرة الموقع نفسه) إلى العربية، واليكم أبرز ما تضمنه:

بعد اعتلائه عرش المملكة العربية السعودية في 2015، توارى سلمان بن عبد العزيز تدريجيا منذ 2017 خلف نجله محمد بن سلمان، ولي العهد الرسمي ونائب الملك غير الرسمي. لكن إرث الأب يؤثّر إلى حد كبير على قرارات الابن.

وُلد سلمان سنة 1935. هذا الملك المريض والميال إلى التكتم هو الابن الخامس والعشرين من الأبناء المعروفين لمؤسس المملكة، عبد العزيز بن سعود (المتوفى سنة 1953). ومن المحتمل أن يكون آخر حاكم من جيله. قبل أن يصبح ملكًا، كان أحد أقوى أفراد الأسرة الحاكمة ضمن عائلة آل سعود وفي جهاز الدولة، وكذلك في الحياة الثقافية للمملكة. وإرث سلمان عميق بما يكفي لكي يكون عهد ابنه، محمد بن سلمان، مرسوماً مسبقاً وإلى حد كبير.

لا يزال سلمان يشكل ضمانة لابنه لدى الدوائر الدينية، تماماً كما كان جداراً واقياً له عندما لمّح محمد بن سلمان بأنه لن يجعل من القضايا القومية العربية الرئيسية (مثل مواجهة إسرائيل) أولوية. فعلى الرغم من أنه يبدو متحرراً من تقاليد الأسرة الحاكمة، إلا أن محمد بن سلمان يتبع استراتيجية تحاكي بشكل ملحوظ تلك التي انتهجها والده.

لا تُعتبر حُزم الإصلاحات التي أطلقها الأب والابن ابتداءً من 2015 ثورية، بقدر ما هي عمل تسريعي تم تحت ضغط وضع خطير على العائلة المالكة بشكل عام، وعلى آل سلمان بشكل خاص. فقد طالت موجة الربيع العربي منذ 2011 دولة أضعفها الفتور في العلاقات مع الإدارة الأمريكية لباراك أوباما، ثم انخفاض أسعار النفط ابتداءً من 2014. وفضلاً عن ذلك، أثارت التغييرات التي فرضها سلمان منذ 2015 في ترتيب ولاية العهد امتعاض جزء من العائلة المالكة، وليس فقط من آخر أبناء بن سعود والإخوة غير الأشقاء لسلمان الذين كان بإمكانهم الطموح إلى تولي العرش.

ريبة تجاه حركات الإصلاح المستقلة:

تولى محمد بن سلمان فعليا منصب نائب الملك ابتداءً منذ 2017 بتهميش آخر المنافسين والمعارضين داخل العائلة المالكة. وقد تم إضفاء الطابع الرسمي على هذا الدور، في سبتمبر/ أيلول 2022، عندما أوكل منصب رئيس مجلس الوزراء- الذي هو اختصاص الملك نفسه منذ عهد فيصل- إلى محمد بن سلمان.

قد يتم إبراز الاختلافات بين الملك سلمان الكتوم وابنه ذو الحضور الإعلامي المكثف، عندما حدوث توتر داخلي أو دبلوماسي، لكن ذلك يسهّل في الواقع تمرير سياسة يتفق عليها الرجلان. يغذي الأب والابن قومية مرتابة وريبة تجاه أية حركة إصلاحية مستقلة، كما خبِر ذلك رجال الدين الوهابيين ونظراؤهم الشيعة والمبادِرات بالحركة النسوية.

كل منهما شغوف بالاعتراف الدولي، مع أن كليهما نتاج تعليم محلي بحت، على عكس معظم نظرائهما في الخليج، إذ تعلم الأول في مدرسة الأمراء داخل مجمع المربع (الرياض)، والثاني في جامعة الملك سعود (بالرياض أيضاً) لنيل ليسانس في الحقوق، قبل أن يشتغل في منطقة الرياض والديوان الملكي. وقد تولى الاثنان مقاليد وزارة الدفاع الاستراتيجية لتحضير صعودهما إلى صف ولي العهد، وقاما بحصر التسلسل الهرمي للعائلة المالكة وجهاز الدولة حول الأعضاء الأكثر ولاءً في فرعهما، بتسلط جاف غالباً، وجعلا من الرياض مختبراً وواجهة لعهدهما.

في الدولة الوراثية المؤسسة انطلاقاً من عهدي سعود وفيصل، كان التوازن يرتكز بين الفروع التي أسسها الملك المؤسس على تقسيم إدارة المملكة إلى احتكارات محروسة بغيرة. قليلة هي الهيئات الإدارية التي كانت تفلت من هذا التقسيم القطاعي. وهكذا تعود وزارة الخارجية إلى فيصل وأبنائه، ووزارة الدفاع إلى سلطان وأبنائه، والداخلية إلى نايف وأبنائه. وقبل أن يطيح الأمير سلمان بهذا النظام عند تبوئه سدة الملك والسيطرة على جهاز الدولة بأكمله، كان له نصيبه: منطقة الرياض.

الرياض كواجهة:

كحاكم للعاصمة منذ 1955، وبطريقة مستمرة منذ 1963، صنع سلمان لنفسه تدريجياً دور نائب ملك غير رسمي وغير قابل للعزل، بينما كان أشقاؤه وإخوته غير الأشقاء يتداولون على العرش. دشّن سلمان أول مخططات تنمية للمدينة في نهاية الستينيات، والتي أعادت التصميم الحضري قصد الاستجابة للنمو المتسارع للرياض ودرء أول الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية التي برزت في الضواحي الجديدة. ومن المفارقات بالنسبة لأمير كان يقول عن نفسه بأنه مولع بالتاريخ، أن التنمية الحضرية تمت أولاً على حساب تدمير أحياء تاريخية باستثناء قلعة “المصمك”، التي تُعد أثراً لا يمكن المساس به وشاهداً على “غزو” بن سعود للرياض في 1902.

وميزة هذه التنمية أنها أثّرتْ أصحاب الأراضي والممتلكات العقارية الذين تم إشراكهم في العديد من عقود البناء والأشغال العمومية التي تديرها المنطقة. وقد سمحت لسلمان بأن يكون ليس المُحاور الضروري لجميع الزوار من رؤساء الدول والمسؤولين الأجانب فحسب، بل أيضاً المراقب الدقيق لحياة العائلة المالكة والشائعات والتداولات بين مؤسسات العاصمة. يلعب أمير الرياض دور الميسر والحكم الرئيسي في النزاعات العائلية.

تعطي الشائعات (أكثر من الحقائق الثابتة) إلى سلمان صوتاً حاسماً في مجلس الأسرة الذي تم تأسيسه في عهد الملك فهد (الذي حكم من 1982 إلى 2005) أو في هيئة البيعة التي أسسها الملك عبد الله (الذي حكم من 2005 – 2015) لتسوية المسائل الشائكة للخلافة على العرش. سمح له قربه من شقيقه الملك فهد بكسب دعم مالي وسياسي مطلق، على الأقل حتى السكتة الدماغية التي أصابت فهد سنة 1995 وجعلت من الأمير عبد الله، الأخ غير الشقيق لسلمان، الوصي الفعلي على المملكة.

عقد جديد مع النخب:

دفعت صدمة حرب الخليج (1990- 1991) بالأمير سلمان إلى إعادة النظر، لأول مرة، في البعد السياسي لإدارة منطقة الرياض، وجعلها مختبراً لعقد جديد مع النخب الاقتصادية في المملكة. وقد تزامن التشكيك الخطر في شرعية الأسرة الحاكمة خلال الحرب مع الركود الاقتصادي الذي كانت تمر به البلدان المنتجة للنفط. ففي عامي 1995- 1996، جاءت سلسلة من الهجمات لتقنع الأسرة المالكة بأكملها بضرورة دعم وتوسيع استراتيجية الأمير الجديدة. وقد انتهى الأمر بالأمير الوصي نفسه، الذي صار ملكاً، إلى تأييد التوجهات التي فرضها أخوه غير الشقيق سلمان انطلاقاً من منطقة الرياض. وبعد بدايات حماسية في المملكة، تأثرت ثم تعثرت في سنوات بعد الألفين سياسة الحوار الوطني التي أطلقها الملك عبد الله لمواجهة مخاطر الإرهاب الداخلي والخارجي بسبب نزعة محافظة تهدف إلى حماية الأسرة الحاكمة.

تم وضع مخططات تنموية جديدة للمدينة باللجوء المكثف للمستشارين والمعماريين الأجانب. مخططات تشرف عليها مجموعة من المؤسسات (مؤسسة الملك عبد العزيز، الهيئة الملكية لمدينة الرياض) تسمح بالالتفاف على مختلف الوزارات المعنية، وهي موضوعة تحت الإشراف المباشر للأمير الحاكم ومستشاريه المقربين. تم اللجوء مرة أخرى إلى هذه الوكالات واللجان المهيمنة، والمفروضة على الإدارات التي تعتبر بطيئة للغاية وذات ولاء مشكوك فيه، ابتداء من 2015 عندما تولى محمد بن سلمان إدارة المجلس الجديد للشؤون الاقتصادية والتنمية وأعلن عن “رؤية 2030”، ثم في 2017، عندما حل مكان عمه محمد بن نايف على رأس مجلس الشؤون السياسية والأمنية.

إعادة “مركزة” التاريخ:

في الرياض كما في مكة، وفرت الأشغال الكبرى التي أعيد إطلاقها خلال التسعينيات عقوداً من جميع الأنواع، كان مرحبًّا بها في وقت تميز باضطراب أو حتى بركود نفطي. وقد أدت إلى توطيد روابط العائلة المالكة مع النخب الاقتصادية الأكثر ولاءً للفرع الحاكم من العائلة، على حساب المجموعات العائلية التي فقدت مكانتها. وقد سمحت بترسيخ الرواية الوطنية الجديدة التي صاغها مستشارو الأمير سلمان وعدد هائل من شركات الاستشارة في مجال التنمية والسياحة وعلم الآثار في المجال العام.

تم إسكات الجانب الوهابي تدريجياً في تاريخ الإمارات السعودية قصد نزع الشرعية عن “الصحوة الإسلامية”، (التي حملت معها صعود الحركات الإسلاموية منذ الستينيات) وإعادة مركزة الرواية الرسمية على عائلة آل سعود وحدها. رافق هذه الطريقة في إعادة مركزة التاريخ تحييدٌ لرجال الدين، بمن فيهم أحفاد محمد بن عبد الوهاب، وإعادة التحكم في المؤسسات التي كانوا يسيطرون عليها (مثل شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو وزارتي التربية والعدالة).

لم يكن اعتلاء سلمان العرش في 2015 وتولي نجله نيابة المُلك سوى مرحلة إضافية في هذا التهميش- الذي كان عنيفاً أحياناً- للأعضاء الأكثر انتقاداً من رجال الدين السعوديين. ويعد الإعلان في 2022 عن “يوم التأسيس” الذي حدد إنشاء أول إمارة لآل سعود في سنة 1727، تاريخ تولي محمد بن سعود الحكم في “واحة” الدرعية، وليس في التاريخ المعتمد تقليديا (1744- 1745، سنة إقامة العهد بين بن سعود والداعية محمد بن عبد الوهاب)، تتويجاً لهذا التحول التاريخي..

كانت سمعة سلمان كـ“أمير الأدباء” و“المؤرخين” راسخة عندما أصبح ملكاً. فرعايته المباشرة، في كثير من الأحيان، للمؤسسات الثقافية في الرياض (مؤسسة الملك عبد العزيز، المكتبة الوطنية للملك فهد، لجنة تطوير الرياض وهيئة تطوير الدرعية) لا تشجع فقط على انتشار الملصقات التي تحمل صورته والثناء الذي يوجَه له في كل تدشين متحف أو مكتبة أو ندوة. وإنما تمنح لسلمان دوراً غير رسمي كمشرف على تاريخ آل سعود وبالتالي، بشكل أعم، المشرف على الرواية الوطنية الحديثة للبلاد. ويضفي ذلك شرعية على الأشغال الكبرى التي ما انفكت تغيّر العاصمة باستمرار. وهكذا تم الإعلان عن المخطط الاستراتيجي الشامل لمدينة الرياض (MEDSTAR) في 1996، بالتزامن مع التحضيرات للاحتفال بالذكرى المئوية للغزو السعودي للرياض في 1902، والذي كان لا يزال يعتبر الحدث التأسيسي للمملكة.

تم تسريع بناء المؤسسات العامة وأشغال الترميم الضخمة تحضيرا للاحتفالات التي بدأت في 1999. سمعة سلمان كمتعلّم- والتي مازالت تُنشر على نطاق واسع- وفرّت له ثقلاً موازيا مفيداً، خاصّة أمام السياسة الخارجية المنتهجة من قبل المملكة منذ 2015، لا سيما في اليمن. ففضلاً عن الكراسي البحثية الجامعية التي سبق تأسيسها في المملكة برعاية الأمير سلمان، أضيف مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية المكلَّف بتوفير المساعدة السعودية لسورية وخاصة لليمن.

يرث الابن مفارقات الأب، كما ترث المملكة السياسات التي تم تخطيطها في الرياض. ومع ذلك، تتميز السياسة الزاجرة تجاه رجال الدين بالصبغة المحافظة. وتبقى ترقية شكل من أشكال علمنة الثقافة والسلوكيات حكراً على فرع واحد من العائلة (محمد بن سلمان وأشقائه وإخوانه غير الأشقاء في الأسرة المالكة)، الذي يحدد خطوطها ووتيرتها. ولا يمنع التبني المُعلن لمبادئ النيوليبرالية لتعزيز التنمية الاقتصادية للمملكة انتهاج سياسة التنبيهات العنيفة باسم المصلحة العليا للدولة.

لم يكن لسلمان بن عبد العزيز الوقت الكافي ولا الهامش ليكون ملكاً، غير أن تركته في الرياض وفي العائلة المالكة وفي المملكة كانت قوية بما يكفي لكي تمهّد الطريق واسعاً لابنه محمد.

……………………

– النص الأصلي:

https://orientxxi.info/magazine/arabie-saoudite-l-empreinte-indelebile-du-roi-salman-sur-le-royaume,6012

ــــــــــــــــــــــــــــ

* مؤرّخ فرنسي

المصدر: أوريان 21

التعليقات مغلقة.