علي محمد فخرو *
لا يحتاج الإنسان لأن يدخل في ذكر تفاصيل عوامل البؤس والانحطاط والتشرذم، على كل المستويات، وعلى كل الساحات الحياتية، التي تعصف بجل مجتمعات الوطن العربي، فهي ماثلة أمامنا، ونعيشها يوميا، ونتجرع مراراتها، ونشعر بعار عجزنا عن الوقوف في وجهها. ومما يضاعف من عمق وألم تلك المآسي هيمنة العوامل الخارجية، وتحكمها في مسار العوامل الداخلية وفي عرقلة كل محاولات إصلاحها.
ما نقوله لا يندرج في تجاذبات بكائيات التشاؤم، أو اليأس، وإنما مواجهة موضوعية وصادقة مع النفس، لحالة مجتمعية عربية أصبحت خارج المنطق وخارج معقولية وإمكانية التعايش معها، مهما كانت الذرائع والمبررات التي يتشدق بها أصحاب النفوس الفاقدة لكل كرامة.
ما عاد من الممكن التعايش مع الصراعات والمماحكات العبثية المجنونة، في ما بين بعض أنظمة الحكم العربية، ولا التعايش مع ترك حل كل مشكلة عربية في يد قوى الخارج الاستعمارية والصهيونية أو الإقليمية، ولا التعايش مع الشلل الذي أصاب النظام العربي القومي المشترك، ولا التعايش مع السماح لهذه الدولة العربية، أو تلك لأن تتصرف وتعبث، كما تشاء في القضايا القومية المشتركة، ولا التعايش مع الفشل الذريع، لمواجهة العنف الإرهابي الجهادي التكفيري المفتري على الإسلام، ولا التعايش مع انكشافات الأمن العسكري والغذائي والمائي والتكنولوجي… أصبح التعايش مع كل ذلك، أو حتى بعضا منه، جريمة بحق أنفسنا، وخيانة للأمانة بحق أجيال المستقبل. ومما يزيد من هول المشهد هو عدم وجود دلائل، من أي نوع كان، تشير إلى إدراك الأنظمة الرسمية، والمجتمعات المدنية لفظاعة وحجم المخاطر التي تنتظر الجميع، في ما لو استمرت تلك العوامل، وعشرات غيرها كارثية، تلعب بمقدراتنا وتقودنا إلى خارج التاريخ والعصر الحضاري للإنسانية.
دعنا مؤقتا نضع جانبا الحلول المعروفة والضرورية، من مثل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد، والتجديدات الثقافية والفكرية، والتنمية الاقتصادية وغيرها، ولنطرح هذا السؤال: ما هو العامل الذي إن عجزنا عن تفعيله في واقع الحياة العربية، فستظل كل تلك الحلول علاجات جزئية قابلة لانتكاس من قبل الاستبداد والفساد الداخلي، وللاستباحة من قبل القوى الخارجية الطامعه فينا؟ والجواب، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، هو الاتفاق على، والعمل من أجل نوع ومدى ومحدودية المشترك الضروري اللازم والملزم، في ما بين أجزاء الأمة العربية الواحدة، وفي ما بين الوطن العربي الواحد.
منذ انهيار الخلافة العثمانية وقيام الدولتين الاستعماريتين، بريطانيا وفرنسا، ببلقنة الوطن العربي، وتقسيمه في ما بينهما والقوى الاستعمارية والصهيونية، بكل أشكالها ومسمياتها ومشاريعها وتدخلاتها الاستخباراتية، وألاعيبها وأعوانها في الداخل، تساهم بحيوية في نقل هذا الجزء أو ذاك من الأرض العربية من أزمة إلى أزمة. وهي تفعل ذلك في الغالب من خلال استفراد بالجزء، واستفادة من ضعفه، ومن عدم وقوف مجاله الحيوي العربي القومي معه في محنته ومقاومته. ومن خلال كل ذلك استطاعت تلك القوى أن تخلق العداوات والصراعات في ما بين أجزاء الأمة من جهة، وفي إضعاف أو تدمير كل ما هو تضامني توحيدي مشترك، وفي إيجاد بلبلة فكرية سياسية تمحو الذاكرة العربية الجمعية، وتشكك في كل مقومات الهوية العروبية الواحدة من جهة أخرى، وحتى الدين الإسلامي، الذي كان يلعب دورا أساسيا في الحفاظ على الهوية العروبية، ومقاومة الانسحاق أمام الاستعمار والصهيونية، استطاع الخارج أن يدخله بشتى الأشكال والصور الانتهازية في دوامة العنف والإرهاب، ليحطم أو يشوه سمعة هذا الجانب التاريخي الحضاري من مكونات الأمة.
لقد أدخلنا الاستعمار والصهيونية العالمية، والمغامرون الانتهازيون الفاسدون في الداخل في تلك الحلقة المفرغة التي تدور حول نفسها منذ بدايات القرن العشرين، والتي تحتاج إلى تفكير وتخطيط وتنظيم وخطوات فعل لإيقاف دورانها، من أجل الانتقال إلى رحاب تقديم هذه الأمة للعالم، كمكونات متناغمة، متعاضدة، متوحدة في مجالات الأمن القومي المشترك والتنمية الإنسانية والتعايش السلمي والمساهمات الحضارية. لن يفيدنا في اللحظة الراهنة تحليل واستشراف ما في ذهن القوى المتآمرة علينا، وعلى الأخص قادتها المجرمين، طالما أننا عاجزون عن فعل شيء يصد شرها عن الأمة كلها. المطلوب هو تهيئة ما نصدُ به تلك الرياح العاتية التي تهب علينا من كل صوب، وهذا هو سؤال اللحظة الحالية الذي يجب أن يجيب عليه المفكرون والمثقفون والمناضلون العرب.
* كاتب بحريني
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.