المهدي بن بركة *
( الحرية أولاً ) ينشر على حلقات كتاب «الاختيار الثوري في المغرب» للشهيد ’’المهدي بن بركة‘‘.. وهذه الحلقة الثانيـة
“ تقرير
للسكرتارية العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية
بمناسبة المؤتمر الثاني (أيار/ ماي 1962) ”
اسمحوا لي أن أذكركم بأهمية هذا المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالنسبة لمستقبل بلادنا. لأن هذا المؤتمر سيمكن حركتنا من أن تخرج منه بتنظيم أقوى وأكثر إحكاما، وأفق أشد وضوحا لنكون على مستوى مهامنا التاريخية. وان الغرض من هذا التقرير هو أن أعرض عليكم بعض الملاحظات حول المهام الملحة، والمهام البعيدة المدى التي تنتظرنا، وأن أستعرض الوسائل الكفيلة لتحقيق أهدافنا على أكمل وجه.
إن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بوصفه حزبا ثوريا، سوف يعطي لهذه الصفة مدلولاتها ابتداءً من هذا المؤتمر. وقد كان ولاشك قد حدد أهدافه منذ نشوئه سنة 1959. إذ انبثق من حركة المقاومة المسلحة وجيش التحرير، وقام على الجماهير الكادحة في المدن والقرى، وعلى الشبيبة العاملة والطلابية، وأخذ على نفسه أن يواصل نضال الحركة التحررية في المغرب لكي يعطي الاستقلال مدلوله الحقيقي.
وقد بدا من الضروري أن نبعث في نفوس الجماهير، في إطار نشاط نضالي، ذلك الإيمان، وذلك الحماس اللذين أخذ يضعفهما التهافت على المصالح، والتسابق على الامتيازات عند بعض مسيري الحركة الوطنية، كما أخذت تنال من قوتهما مناورات التقسيم والتفسيخ التي بدأ يحوكها المستعمرون وعملاؤهم غداة إعلان الاستقلال. إلا أن مهمتنا العاجلة الأولى كانت هي الحيلولة دون امتصاص تعبئة الجماهير ومعالجة فقدان الثقة الذي بدأ يتسرب إلى نفوس المناضلين ومسيري الحركة الوطنية، وكذلك قطع الطريق على الخيبة التي أخذت تحل محل آمال فترة النضال.
وكانت دعاية محكمة التوجيه تعمل على تمهيد السبيل لاحتكار السلطة بيد القصر، مدعية أن نظام الأحزاب كأسلوب للتنظيم والبناء الاقتصادي باء بالفشل، رغم أنه أتيحت له كل الفرص. بينما الحقيقة أنه لم تعط أي حزب فرصة ممارسة الحكم. وكانت هذه الدعاية التي جندت لها الصحافة والاذاعة كل يوم، انما تنقل بعض النظريات السياسية الممسوخة أو غير المهضومة والمحرفة تحت دعاوي ضرورة إقامة نظام قوي كطريق لإخراج البلاد من التخلف.
أمام هذه الحملة التي كانت تهدف إلى بلبلة عزائم المناضلين، وتجميد طاقات الجماهير، غدت مهمة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هي إقامة الدليل على أن الشعب يستطيع تجنيد نفسه بنفسه دون الحاجة إلى وصي، كما جند نفسه خلال الأزمة الكبرى من سنة 1952 إلى 1955.
وقد تحقق هذا الهدف الأول حيث أن المغرب اليوم رغم نظام القمع والاستبداد يمتاز في القارة الإفريقية بظاهرة فريدة، كبلاد تفرض فيها الجماهير احترام منظماتها وصحافتها بل وتجعل الحكم يستعير منها شعاراته التي يمسخها بعد ذلك.
على أنه يجب علينا أن نعترف بأننا لم نستطع إيقاف الانقلاب الذي حصل في أيار/ ماي 1960، والذي صفى ما تبقى من مظاهر المشاركة الشعبية في الحكم، ولو أن هذا الإنقلاب كان نتيجة لضغط الجماهير التي فرضت على حكم اتخذ أسلوب القسر والتحكم أن يزيل القناع عن وجهه، وأن يظهر على حقيقته. نعم يمكن أن نجد لهذا الانقلاب جانباً إيجابياً إذ مكن من توضيح الوضع السياسي في البلاد، ومن إبراز القوى المتقابلة، قوى التقدم وقوى الرجعية، أنصار المستقبل المشرق، والمتشبثين بعهود الماضي المظلمة. من جهة القوى الشعبية، ومن جهة أخرى عناصر الإقطاع وفلول القوى التقليدية والأحزاب السياسية المتفسخة، وكذلك السماسرة ذوو المصالح المرتبطة مع الاستعمار.
وإذا أردنا أن نحدد مهامنا الأساسية منها والملحة، تعين علينا أن نقوم بتحليل لتناسب هذه القوى المتقابلة، طبقا لأساليب العلم الموضوعية. وفي مقدمة هذا التحليل يجب توضيح محتوى النظام القائم، وتحديد دوره في المرحلة الحاضرة. إذ لا يمكن الاكتفاء بوصف أسلوب الحكم دون الوقوف على حقيقة القوى التي يستند عليها. وإلى الآن فإنه يظهر أن اقتصارنا على وصف أسلوب الحكم ومواطن ضعفه العديدة جعلنا نستغني عن تحليل سياسي عميق لأصوله. فإذا كان صحيحا أن نظام الحكم في المغرب هو الحكم الفردي، فإن هذا التعريف وحده لا يكفي، ما لم نوضحه بتحليل متطلباته الداخلية والخارجية. فإن الاكتفاء بالحديث عن الحكم الفردي، قد يفيد استقلال هذا الحكم في اختياراته السياسية، بينما نحن نرى مطابقة واضحة وبسيطة لسياسة النظام مع خطة الاستعمار في بلادنا. ومن هنا وجب إلقاء بعض الضوء على المقومات الخفية التي تمكن هذا النظام من البقاء رغم ضعفه وعجزه وتناقضاته.
لا مراء أن النظام القائم يستفيد من ظروف داخلية وخارجية علينا أن نقيمها بموضوعية، إذ كثيرا ما ارتكبت أخطاء في التقدير إمّا بسبب التقليل من أهمية هذه الظروف المساعدة للحكم، وإمّا بسبب المبالغة في مواطن الضعف التي تكون مع ذلك عميقة وحقيقية. وإن تتبع هذا التوازن المتطور مع الزمن بين العوامل الداخلية العميقة المهددة لكيان النظام، وبين العوامل الطارئة المساعدة له سواء كانت داخلية أو خارجية، هذا التتبع هو الذي نستطيع بفضله في كل وقت تحديد استراتيجية نضالنا وتكتيك خطتنا السياسية المرحلية الملائمة.
ولذلك سنتناول في أول الأمر استعراض الظروف الحالية التي تعيشها بلادنا في الداخل والخارج.
————————————-
تحليل الحــالــة الـــراهنـــة:
ما هي الظروف التي ينعقد فيها المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية؟
أولاً: الظروف الخارجية
إن أهم حدث بلا شك هو المد السريع لحركة تحرير الشعوب المستعمرة. فقد اتسعت آفاق بلادنا كإحدى الأقطار التي تحررت حديثا من الحكم الأجنبي. إلاّ أنه يتعين التذكير بأن حركة عظيمة التي تقوض أركان النظام الاستعماري لا يمكنها أن تتخذ شكل موجة عارمة، تحطم كل ما يعترض سبيلها، فهي لا محالة تخضع لقوانين المد والجزر، وتسجل بعض التوقف إثر فترات الزحف والنصر. وفي رأيي ان فترة سنتي 1961 و1962 تميزت برد فعل رجعي من طرف الاستعمار في قارتنا الإفريقية.
أ- الاستعمار الجديد في إفريقيا:
دخلت أفريقيا مع سنوات الستين في مرحلة جديدة من تاريخها، ومن نضالها في سبيل التحرير والتقدم.
ففي ظرف سنتين التحقت أغلبية بلاد القارة بركب الدول القليلة التي كانت قد استرجعت استقلالها الوطني، واحتلت مقعدها في الحياة الدولية. وبدأ يلوح لنا اليوم الذي سينمحي فيه من وجه القارة كلها أثر السيطرة الأجنبية المباشرة، رغم المآسي التي تعانيها شعوب جنوب إفريقيا، ورغم العناد الأخرق الذي تتصرف به حكومتا البرتغال واتحاد جنوب إفريقيا اللتان لن تفلتا من مصيرهما الحتمي. هذه الظاهرة وحدها ذات أهمية خطيرة، إذ أنها تحدث لا محالة تغييرا جوهريا في التوازن الدولي الاستراتيجي والسياسي. ومع نمو حركة التضامن بين القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتضافر الجهود مع سائر القوى التقدمية في العالم، فإن هذا التغيير سوف يؤثر تأثيرا عميقا على تيارات التبادل الاقتصادي الدولي، وبذلك يلغم الاستعمار من أساسه.
وليست حركة الهروب إلى الأمام التي تقوم بها الدول الاستعمارية الأوربية بانتهاجها سياسة الاستقلالات الشكلية الممنوحة، سوى خطة دفاع للاستعمار عن نفسه، تحمل اليوم اسم الاستعمار الجديد.
والاستعمار الجديد عبارة عن سياسة تعمل من جهة على منح الاستقلال السياسي، وعند الاقتضاء إنشاء دول مصطنعة لا حظ لها في وجود ذاتي، ومن جهة أخرى، تعمل على تقديم مساعدات مصحوبة بوعود تحقيق رفاهية تكون قواعدها في الحقيقة خارج القارة الإفريقية.
وليست هذه بالظاهرة الجديدة، لأن هذه السياسة تدخل في صلب مفهوم الاستعمار، وهو نفس الأسلوب الذي كانت تسلكه أكثر الدول الرأسمالية تقدما. إنما الجديد بالنسبة للعلاقات القائمة بين الدول الاستعمارية الأوربية وبين إفريقيا هو العدول عن السيطرة والاستغلال المباشرين، وإعادة النظر في الاستعمار الاستيطاني نفسه.
ولم يكن هذا الاتجاه الجديد مجرد اختيار في السياسة الخارجية للدول الأوربية، بل هو تعبير عن تطور عميق في أسس الرأسمالية الغربية ذاتها نتيجة لما حدث بعد الحرب العالمية الثانية من تغيير في أوروبا تحت تأثير مشروع مارشال، والتدخل المتزايد للاقتصاد الأمريكي مع الاقتصاد الأوربي. مما جعل هذا الأخير يفقد خصائص القرن التاسع عشر التي كانت تميزه، ويحاول التشبه برأسمال الولايات المتحدة. فمن الطبيعي إذن أن ينهج نفس الأسلوب فتبحث أوروبا عن «أمريكا لاتينية» خاصة بها.
ونحن مقتنعون أن ظاهرة الاستعمار الجديد ليست سوى محاولة لتوقيف المد الثوري ولو إلى حين. وهي لذلك لن تفت في عضد القوى الثورية، ولن تمنعنا من أن نواصل مع سائر القوى التقدمية مهمتنا التاريخية لتصفية الاستعمار والقضاء على الإمبريالية.
غير أننا في حاجة إلى جهود متواصلة لتعميق أسس نضالنا الأيديولوجية، ولتسليط الأضواء على كافة مظاهر هذا الاستعمار الجديد، من أجل تشخيص خصائصه واستقصاء علمي لوسائله، وتحقيق دقيق لأدواته وركائزه.
وقد كان الفضل للمؤتمر الثالث لمنظمات الشعوب الإفريقية المنعقد بالقاهرة في آذار/ مارس 1961 في الشروع في هذا التحليل والتشريح واستخلاص نتائجه في قراره الشهير حول الاستعمار الجديد الذي جاء فيه:
« ومتى بدا أنه لا مناص للاستعمار من الاعتراف بالاستقلال القومي، فإن خطة الاستعمار الجديد تسعى إلى إفراغ هذا الاستقلال من مضمونه التحرري الصحيح، إما بفرض اتفاقيات غير متكافئة في الشؤون الاقتصادية العسكرية والفنية، واما بتنصيب حكومات عميلة عن طريق انتخابات مزورة، واما باختراع أشكال دستورية بدعوى تنظيم تعايش القوميات المختلفة، بينما هي في الحقيقة ضمان للسيطرة العنصرية لفائدة المستعمرين ».
«وعندما لا تجدي هذه المناورات في النيل من نضالية المنظمات الشعبية التحررية وتصميم عزمها، فإن الاستعمار وهو في النزع الأخير يعمد إلى التستر وراء الشبه شرعية والتدخل الموجه للأمم المتحدة، أمّأ لبلقنة الدول الحديثة، وأمّا لتقسيم قواها الحية السياسية أو النقابية. وقد يصل به اليأس، كما حدث في الكونغو إلى اللجوء لحبك المؤامرات، وتنظيم القمع البوليسي والعسكري، وتدبير الانقلابات بل وإلى السفك والاغتيال».
ب – الوضع الجديد للقضية الجزائرية:
لا يمكن أن نتصور أن الكفاح المرير والبطولي الذي يخوضه الشعب الجزائري يمكن بأي حال من الأحوال أن ينتهي بالفشل، نظرا للوضع الدولي، وبالأخص نظرا لتصميم الجماهير الجزائرية الباسلة. ولكننا إذا نظرنا إلى توازن القوى المتصارعة، قوى الشعب الجزائري من جهة، ومن جهة أخرى الجالية الاستعمارية والجيش الفرنسي ومن ورائهما منظمة الحلف الأطلسي، فإن نتيجة الصراع لا يمكن أن تخرج عن أحد الأمرين:
إمّا التقسيم بحكم الأمر الواقع ولو مؤقتا، وإمّا النصر الكامل للثورة، وانسحاب كل وجود فرنسي من الأراضي الجزائرية. ولكن أيا من الحلين لم يتحقق، رغم أن كليهما ما يزال ضمن الاحتمالات التي تخبئها أحداث المستقبل القريب.
وإن الاتفاقية التي انتهت إليها مباحثات إيفيان، يمكن اعتبارها حلا وسطا ثوريا، بمعنى أنه يمكن الحصول على مكسب أكيد هو الاعتراف باستقلال الجزائر دون أن يحجب الرؤيا عن آفاق الثورة الجزائرية.
إلاّ أنه رغم الضغط الذي سوف تباشره الجماهير الجزائرية، وفي طليعتها جيش التحرير لاختصار مراحل الاستقلال التام، فإنه لا مناص من انتظار فترة من الوقت لقيام أجهزة الدولة الجديدة، وتصفية مخلفات الاستعمار، كما أن عامل الزمن سيدخل في عملية تحويل الأداة المسلحة إلى حركة سياسية مثلما حصل في كوبا نفسها. وخلال هذه الفترة يجد الاستعمار الجديد فسحة من الوقت لاسترجاع أنفاسه.
لذا فإن المعارك القادمة في الجزائر للاستفتاء من أجل تقرير المصير، ولإقامة حكم ثوري، ولمقاومة نشوء قوة ثالثة قد تستغل كركيزة لتسرب الاستعمار الجديد، وللمحافظة على وحدة الشعب حول قوته المسلحة جيش التحرير الوطني، وحول حزب جبهة التحرر الوطني، كل هذه المعارك تقتضي جهودا متواصلة جبارة ومنتهى العزم والصلابة من طرف إخواننا المناضلين بالجزائر، كما تستلزم منا نحن التضامن المطلق معهم، وبذل كل المساعدة غير المشروطة لهم لتحقيق النجاح.
إن مستقبل الثورة الجزائرية لا يهم الجزائر وحدها، وإنما يهمنا نحن أيضا كمغاربة، ويهم مصير المغرب العربي بأسره.
ومن واجبنا كذلك ألا نتسامح مع أنفسنا فيما ارتكبناه في الماضي من أخطاء وسوء تقدير، حتى نساعد بتجربتنا المتواضعة إخواننا الجزائريين الذين يتوفر لديهم رصيد ثماني سنوات من التجارب ومقومات التماسك الثوري، ذلك الرصيد الذي هو العامل الأهم لنجاحهم في اجتياز مرحلة تصفية الاستعمار وتلافي الفخاخ التي ستنصب في طريقهم لا محالة، مثلما نصبت في طريقنا نحن.
* * * * *
إننا في هذا الاستعراض السريع للظروف الدولية اقتصرنا على عاملين أساسيين، قد يكون لهما تأثير مباشر على المعركة الدائرة عندنا بين القوى الشعبية والمصالح الاستعمارية:
العامل الأول: الصراع بين الاستعمار الجديد وحركة التحرير الوطني في إفريقيا.
العامل الثاني: استيلاء جبهة التحرير الوطني على الحكم.
وسوف يكون لكلا العاملين تأثير على توازن القوى بالمغرب. وقد رأينا النظام الذي وجد نفسه منغمراً مع الاستعمار في مؤامرة الكونغو، يجتهد في محاولة تبرئة ذاته عن طريق تبني شعارات مؤتمر الدار البيضاء، والوقوف الشكلي في صف الدول الإفريقية التقدمية التي تتولى الحكم فيها منظمات شعبية متحالفة مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في مؤتمر الشعوب الإفريقية، وفي منظمة تضامن الشعوب الإفريقية والآسيوية.
ومما لا ريب فيه أن الوضع في الجزائر هو الذي سينتج عنه توضيح أكبر لنوعيات القوى المتقابلة في المغرب، وهو الذي سيؤثر في اتجاه إيجابي أو سلبي على أي من هذه القوى حسب ما ينتهي إليه من فشل أو نجاح دور الاستعمار الجديد في تكييف حل مشكلة السلطة في الجزائر. ولابد للاستعمار من أن يبذل جهده لتركيز دعائمه الاستراتيجية في المغرب وفي المشرق، كما في المجموعة الإفريقية الآسيوية تبعا للتهديد الذي سوف تواجهه قواعده، بسبب قيام نظم شعبية تقدمية أصيلة.
ثانيا: الحالة الداخلية
لقد قلنا آنفا أن الجانب الإيجابي للانقلاب الذي حدث في ماي 1960 كان هو تبلور القوتين الأساسيتين في المغرب. فلم يعد مجال للقصر لكي يقف موضوعيا موقف الحكم أو الوسيط. وليست القوى المساعدة التي تدور في فلكه، من الشخصيات الباقية على رأس أحزاب خلت من محتواها الشعبي، وكل همها تمجيد ماضيها والافتخار به، أو من العملاء الذين يستمدون وجودهم من الخارج، أو من جماعة كبار الموظفين الذين يوهمون أنفسهم بأنهم تكنوقراطية البلاد، كل أولئك إنما هم في الحقيقة ظل للنظام نفسه، ويحافظون على بقائهم بتسخير أنفسهم لخدمته وللاستسلام لإرادته.
وهذا هو السر في تسرب النفوذ الأجنبي شيئا فشيئا واستفحاله. وهذا هو الذي يشرح أيضا البون الشاسع بين النتائج الهزيلة التي حققتها الحكومة القائمة بعد سنة ونصف، وبين خطب التهاني التي يمتدح بها النظام نفسه.
لقد أراد النظام القائم أن يبني مشروعيته على عجز التجارب السابقة، التي يدعي أنها تجارب حكومات الأحزاب التي فشلت في وضع سياسة تنمية صحيحة للبلاد, فالمبرر الوحيد إذن لبقائه، لو كتب له البقاء، هو في تنفيذ أهداف جزئية على الأقل لخطة التنمية الاقتصادية.
ولكن ماذا نرى الآن؟
إن الظاهرة الأولى هي أن ما من مشروع تتناوله وسائل الإعلام بالدعاية والتزمير، الا وهو اما امتداد لأحد المشاريع التي وضعتها الحكومة السالفة، واما مجرد تهويش لا يكاد يبين حتى يدخل في طي النسيان.
وليس المهم أن يتبنى النظام لحسابه شعاراتنا وأفكارنا بل وحتى خطوط برنامجنا، مدعيا أنه يريد تحقيقها من دوننا، بل المهم هو أن يستطيع ذلك.
فها هي الدعاية الرسمية قد استحوذت على المشاريع والدراسات بل والانجازات التي سهر عليها إخواننا (في مؤسسة الدراسات والمساهمات الصناعية) مدة توليهم مسؤولية وزارة الاقتصاد الوطني.
ولكن تلك المشاريع لا تلبث في أغلب الأحيان أن يصيبها المسخ فتصبح غير كفيلة بتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة هذا إذا لم تتحول إلى مجرد عمليات مقامرة واختلاس، مثلما حدث في مشروع آسفي. وإذا افتضح هذا المشروع قبل سواه فذلك لأن تطوره روج بالخارج، واستطعنا كشف النقاب عنه قبل فوات الأوان.
……………………..
يتبع.. الحلقة (3/7)؛ “ أ- نتائج السياسة الاقتصادية والاجتماعية “
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مناضل وسياسي مغربي، وقومي عربي، كان قبل اختطافه واغتياله عام 1965 قائداً للمعارضة المغربية ومدافعاً عن قضايا الحرية والسلام في العالم.
التعليقات مغلقة.