غسان ناصر*
يستضيف (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) في حوار اليوم، الباحث الأكاديمي والمثقف السوري حسان عباس، الرئيس المؤسس لـ (الرابطة السورية للمواطنة)، ومؤسس دار نشر “بيت المواطن” ومديرها. الحائز على وسام “السعفة الأكاديمية برتبة فارس” من فرنسا عام 2001.
ولد د. عباس في بلدة مصياف التابعة لمدينة حماة- وسط سورية- في 15 نيسان/ أبريل عام 1955 ودرس في مدارسها. حصل عام 1992 على شهادة الدكتوراة في النقد الأدبي من جامعة (السوربون الجديدة) في فرنسا، وعاد إلى سورية أستاذًا في (المعهد الفرنسي للشرق الأدنى). أطلق في المعهد نشاطًا ثقافيًا دوريًا تحت اسم “منتدى الجمعة الثقافي”، وقد استمر هذا النشاط أربعة عشر عامًا حتى عام 2006، قُدِّم خلالها ما يزيد عن أربعمائة فعالية. وبموازاة هذا النشاط أدار ناديين للسينما، وساهم في تأسيس وإدارة عدد من الجمعيات المدنية العاملة في مجالات الثقافة والمواطنة وحقوق الإنسان، ودرّس عشر سنوات في (المعهد العالي للفنون المسرحية) في دمشق، ودُعي محاضرًا في عدد من الجامعات والمعاهد العربية والأوروبية.
هنا نص الحوار..
– بداية، من هو الدكتور حسان عباس؟
= من الصعب جدًا أن أحيط بكل مكونات هويتي المركبة، لأعطيكم إجابة أقرب ما تكون إلى الكاملة. لكن يمكنني أن أذكر أكثر هذه المكونات حضورًا، فأقول: إنّ العناصر الطبيعية أو الأولية من هويتي، أي تلك العناصر التي لا يكون للفرد أيّ إرادة في اختيارها، إنما تُفرض عليه بصدفة الولادة، تجعل مني رجلًا (من دون أن أصبح ذكوريًا)، وعربيًا (من دون أن أصبح عنصريًا)، وعلويًا (من دون أن أصبح طائفيًا).
أمّا العناصر الثانوية، وهي التي يختارها الفرد بوعيه وإرادته، فهي كثيرة جدًا، وأكثر ما أعتز به وأدافع عنه منها، تلك التي تجعل مني مقاومًا لشتى أنواع الاستبداد، ومناضلًا من أجل المواطنة، لا دينيًا، علمانيًا، إنسانيًا، عاملًا في مجال الثقافة، ناقلًا للمعرفة، وقبل كل شيء طالبًا لها، وما أزال أجتهد في تحصيلها حتى وأنا على عتبة الانتقال من هذا العالم.
هيمنة حزب البعث وأجهزة الأمن على التعليم:
– ما هي تفاصيل قصة منعك من التدريس في جامعة دمشق عام 1992، إثر عودتك إلى سورية بعد سنوات طويلة من الدراسة في فرنسا؟
= يوم 10 تشرين أول/ أكتوبر 1992عدت إلى سورية، بعد إحدى عشرة سنة قضيتها في الدراسة في فرنسا، سبقتها أربع سنوات أخرى، أمضيت ثلاثًا منها في محاولة فاشلة لدراسة الطب. وفي الأسابيع الأولى من وجودي في دمشق ذهبت إلى الجامعة، كلية الآداب، قسم الأدب الفرنسي، مُسلحًا بشهادة دكتوراة مرموقة، وبخبرة عمل في الثقافة (حيث عملت، إلى جانب دراستي، مدة ست سنوات كمراسل ثقافي لعدد من الصحف العربية)، لأقدم طلبًا للتدريس في اختصاصي. التقيت هناك بالأستاذ (م.ح)، عرفته عندما كان يدرس في باريس وكان مسؤولًا في منظمة حزب البعث في فرنسا ثمّ في الجامعة، فعرضت عليه مقصدي. ابتسم ابتسامة صفراء وقال لي: لا تفكر بذلك، فنحن لن نقبل بك معنا. لم أعرف سبب هذا الموقف، ولم أعرف من هم الـ “نحن”. وقتها قررت تأجيل البحث عن فرصة في الجامعة لأني كنت قد بدأت العمل في (المعهد الفرنسي للدراسات العربية). ثمّ تخلّيت عن الأمر لأنّ عملي كان قد بدأ يأخذ جلّ وقتي. وفي عام 2001 أعدت المحاولة، وقدّمت طلبًا إلى كلية الصحافة، بتشجيع من عميدها آنذاك د. فيصل عبد الله. ومرّت أسابيع من دون تلقي أيّ رد. وبينما أنا في الجامعة لأستفسر عن الأمر، صادفت شابًا تقدّم مني باشًّا، وعرّفني بنفسه، وقال إنه أُعجب بمحاضرة كنت ألقيتها في “منتدى الأتاسي”. ثمّ سألني عن سبب وجودي في الجامعة. أخبرته، فقال لي: دعني أبحث.
بعد أيام قليلة، اتصل بي هاتفيًا وطلب مني أن ألاقيه، وحدد الوقت والمكان. وهناك أعطاني مغلفًا أصفر، ورجاني بألّا أنشر ما فيه مادام هو يعمل في الجامعة، ووعدته بذلك. كان في المغلف صورة عن قرار سري يحمل الرقم (3924/م) صادر عن رئيس الجامعة (هاني مرتضى) يرجو فيه عدم تكليف المدعو فلان للتدريس في قسم الصحافة في كلية الآداب أو في أيّ كلية أخرى، عملًا بكتاب وارد بهذا الشأن من فرع جامعة دمشق لحزب البعث.
بعد أعوام، عام 2005 تحديدًا، طلبت مني الزميلة (ل.م)، وهي مدرّسة في الجامعة، أن أعمل معهم في القسم الذي كانت تديره. حكيت لها القصة، فوعدت بأن تسأل زوجها رئيس الجامعة وقتها (و.م). وكنت أعرفه جيدًا، بسبب علاقات صداقة قوية تربطني مع إخوته. ومن يومها حتى خروجي من سورية صار يتحاشى حتى تحيتي العابرة، مع أننا نسكن في الحي نفسه.
منذ عامين، التقيت صدفة في بيروت برئيس سابق لجامعة دمشق (ع.م) وخلال الحديث سألني لماذا لا أعمل في جامعة دمشق، فحكيت له القصة. وفوجئت به يحتد وينفعل ويقول بغضب: أتحداك، نحن لا نقوم بفعل كهذا في سورية. قلت له إن نسخة عن القرار موجودة عندي في البيت، فأجاب: لا بدّ أنك أسأت فهم القرار.
هذه القصة بقدْر ما هي شخصية ومؤذية على هذا المستوى، بقدر ما هي عامّة وتدل على خطر هيمنة الحزب وأجهزة الأمن على التعليم، وعلى الأشخاص المنخرطين في قيادة العملية التعليمية. هذه الهيمنة تجعل الجامعة أداة لتكون جهازًا لإعادة إنتاج فكر الاستبداد، وأخلاقيات الاستعباد، وتحوّل مسؤوليها ليصبحوا أدوات تنفيذية، فاقدي الشخصية، لا يعملون من مواقعهم لاتخاذ إجراءات تقوّي التعليم الجامعي عبر تعزيز حرية الفكر فيه ودمقرطته وتوسيع آفاقه، إنما يعملون لتنفيذ توجيهات الجهات المتسلّطة التي وظّفتهم.
– اسمح لي أن أنتقل بالحديث معك إلى آخر مستجدات الأوضاع السياسية في سورية، وأسألك أولًا: هل يُعدّ “قانون قيصر” عقابًا للشعب السوري كله، أم هو عقاب لبشار الأسد وعائلته وأركان نظامه فقط؟
= مناقشة موضوع “قانون قيصر “حساسة ومعقدة، إنها كالمشي في حقل ألغام. وسبب هذه الحساسية يعود إلى تداخل حقلين في المعالجة: حقل حقوق الإنسان، وحقل السياسة. ونحن رأينا كم كان لتدخل السياسة في حقوق الإنسان في أماكن كثيرة من العالم من أثار عكسية على هذه الحقوق.
على الصعيد الحقوقي لا يمكن لأي ذي عقل وضمير في العالم أن يسكت عن جرائم التعذيب والقتل التي مارسها النظام في المعتقلات والسجون. وما حملته الصور التي كانت في أصل استصدار هذا القانون يستحق محاكمة دولية عادلة لكل من شارك في المستويات الأربعة من هذه الجريمة: التفكير والتخطيط وإعطاء الأوامر والتنفيذ. وفي جميع الأحوال صدور هذا القانون ليس، ولا يجوز أن يشكل، تعويضًا عن تشكيل هذه المحكمة.
على الصعيد السياسي، لا أعتقد أنّ هذا القرار سيفضي، أو يمكنه أن يفضي، إلى إسقاط النظام. قدم التاريخ القريب نماذج واضحة عن عجز قرارات الحصار عن إسقاط أيّ نظام استبدادي، هذا إذا لم يساهم، على العكس من ذلك، في تقويته. ولن أتردد في القول إنّ واضعي القانون يعرفون ذلك تمامًا. إذن لماذا أقدموا على وضعه؟ أتفق مع تحليل بعض الخبراء في السياسة الذين يرون أنّ القانون موجه ضد روسيا بالدرجة الأولى. وأن أميركا، في سياق الحرب نصف المعلنة بين الأميركيين والروس، ترغب في حرمان روسيا من التمتع بفوائد انتصارها العسكري، وتدفعها، عبر العقوبات التي تلوّح بها في هذا القرار، إلى التحرك باتجاه القبول بمساومة من نوع ما، تنتج تأثيرًا في النظام، فأميركا، في النهاية، لن تنزعج من سقوط النظام، لكن بشرط ألّا تُوسخ يديها بذلك.
إنّ إحقاق العدالة في ملف “قيصر/ سيزر” مطلب حقوقي ومواطني لا نقاش فيه، لكنني مقتنع بأنّ أميركا لم تضع هذا القانون لمصلحة الشعب السوري، ولا أعتقد أبدًا أنّ هذه المصلحة تعنيها بشيء، ولذلك لن يهمها اختناق السوريون تحت وطأة العقوبات، مادام الأمر سيحقق لها مكاسب ذات قيمة على جبهة التنافس مع روسيا.
نقطة أخرى لا بدّ من سوقها هنا، هي أنّ النظام قد استثمر وسيبقى يستثمر في مظلومية مُصطنَعة أتاحها له تطبيق القانون، لكن يجب ألّا ينطلي ذلك على الناس. لا مِراء في أنّ تطبيق القانون سيؤدي إلى صعوبات اقتصادية وحياتية تزيد في صعوبة الأوضاع المعيشية للسوريين، لكن يجب ألّا نقع في خديعة التأثر المباشر التي يسوقها النظام، وتعمل في نشرها أجهزة البروباغندا التابعة للنظام. إنّ الصعوبات المعيشية التي يعيشها البلد تنتج، بالدرجة الأولى، من الفساد وسوء إدارة الموارد، وهي سياسة متراكمة منذ عقود، وازدادت مع وضع الحرب، وستزداد من دون شكّ في المستقبل إذا بقي «قانون قيصر» مطبقًا مدة طويلة. وارتفاع أسعار بعض المواد الأساسية كالدواء والغذاء عشية دخول القرار موضع التنفيذ لا علاقة له بالقرار، وإنما هو نتيجة مباشرة لاحتكار كبار التجار والموزعين، بمؤازرة من شركائهم في النظام، لتحقيق مزيد من الأرباح على حساب المواطنين.
– ما هو رأيك بالموجة الثانية من الربيع العربي، وقد وصلت أخيرًا إلى السويداء ودرعا جنوبي سورية، واحتمال تمدّدها في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وارد جدًا في قادم الأيام؟
= بداية، لا بدّ لي من التوقف عند مفهوم “الموجة الثانية”، الذي أثار نقاشًا محتدمًا بين الباحثين المهتمين بقضايا الثورات في العالم العربي، فمنهم من يؤيده ويجهد لإظهار الاختلافات بين الموجتين، ومنهم من يقول إنها موجة واحدة تتكرر، لكن بأشكال مختلفة. أعتقد أنّ التشبث بأحد الموقفين لا يخدم تحليل الظاهرة، بل يأخذه إلى مماحكات لغوية وبحثية، لا أظنها تغني التحليل. أنا أميل شخصيًا إلى موقف تضميني للموقفين، يرى في الثورة تيارًا عميقًا يحرّك المجتمعات العربية المتشابهة في خضوعها للاستبداد وإن اختلفت أشكاله.
هذا التيار العامّ يحتدم في قلب المجتمعات، كما تحتدم الماغما المنصهرة في جوف الأرض، لينفجر في مكان وزمان تقررهما الظروف الخاصّة بالبلاد والمجتمعات، وهي ظروف ذات علاقة بدرجة العنف الذي تمارسه السلطات، لكن له علاقة أيضًا بدرجة الوعي لدى المواطنين وبمدى ترسخ ثقافة المقاومة في هذا الوعي، من دون أن ننسى الظروف الجيوسياسية المحيطة، ومنها تدخلات “الكولونيالية” الجديدة بما تحمله من عدوانية ورغبة في السيطرة. بناءّ على هذا الموقف أرى أنّ الثورة في العالم العربي هي ثورة واحدة في منطلقها، وهو استعادة الكرامة المهدورة، وقد تدفقت حتى الآن عبر موجتين، لكن موجات ثالثة ورابعة وعاشرة ستنفجر هنا وهناك في هذه اللحظة أو تلك.
أمّا في ما يخص سورية تحديدًا، فلا شكّ أنه في كل مرة نشاهد فيها خروج مواطنين للتعبير عن اعتراضهم على سلطات الأمر الواقع في مناطق سيطرة القوى المختلفة، أو على سياسات النظام في مناطق سيطرته، تعود القناعة بأنّ جذوة الثورة لم تنطفئ ولو خبت كثيرًا بفعل توّحش النظام وما استجرّه من توحش مقابل. لكن ثمّة ملاحظتان، لا بدّ لي من إدراجهما هنا: الأولى هي أنّ بعض التظاهرات المناوئة للنظام هنا أو هناك تشي بتحوّل في الولاء لهذه القوة المسيطرة أو تلك، لكنها لا تسمح بتجييرها لصالح الثورة السورية المواطنية. هذا التحوّل لا يرفد الثورة بقدر ما يصب الماء في سياسة التصدع والتفريق التي يتقنها النظام وأعوانه.
أمّا الملاحظة الثانية فهي أننا ما دمنا لا نرى حشودًا تخرج في مناطق الحاضنة الاجتماعية للنظام، في دمشق والساحل، لا يمكننا الكلام عن تحوّل جوهري في المآلات المرحلية للثورة. وأنا، لا أستبعد انفجار الوضع في تلك المناطق، وفي الساحل تحديدًا، إذ لا بدّ من أن يعي أهلها أنهم الخاسرون الأكبر جرّاء ولائهم للنظام الذي تسبب في تشويه الطبيعة الديموغرافية لمجتمعهم، نتيجة مقتل مئات الآلاف من شبابه، وفي تشويه نظامهم المجتمعي، نتيجة ترسيخ ظاهرة عصابات البلطجية المسلّحة، وفي تشويه طبيعة ثقافتهم المسالمة والصوفية إلى حد كبير، نتيجة تحويلهم إلى معفشين وشبيحة وقتلة في نظر كثير من الناس في الداخل السوري أو في الخارج.
الثورة أهم علامة مضيئة في تاريخ سورية الحديث:
– لم يعد للسوريين في النظام والمعارضة معًا أيّ رأي أو دور في صياغة المستقبل، وقد غاب السوريون عن اللقاءات الدولية التي عُقِدت أخيرًا لبحث مستقبل سورية، ولا تعرف المعارضة ولا يعرف النظام حقيقة ما اتّفقت عليه الأطراف الدولية. إزاء هذا المشهد الكارثي هل تستطيع قول شيء عن مستقبل سورية القريب؟ وما هي الحلول والمخارج التي تقدمها للوصول إلى سورية الجديدة؟
= يبدو ليهذا التوصيف لواقع الأمور صحيحًا على الرغم من مرارته، وهو، على كل حال، نتيجة للمقدمات التي أوصلت إليه. أعتقد أنّ الأمور بدأت تخرج من يد السوريين منذ نهايات عام 2012، أي منذ أخذت الثورة تتأسلم وتتحوّل تدريجيًا من معناها المواطني، حيث كانت هويتها وطنية، إلى معنى ديني تصبح معه هويتها تحت وطنية، أي مذ بدأت الثورة تتحوّل من شعار “واحد واحد واحد…” إلى شعار “بالدبح جيناكم”. هذا التحوّل الداخلي لم يكن منفصلًا بالمطلق عن التدخل الخارجي الذي فتح النظام له الأبواب مستنصرًا بميليشيات دينية حزب إلهية وإيرانية بدايةً، ثمّ بقوات نظامية روسية لاحقًا. وعززته قوى المعارضة السياسية بالمقابل من خلال اعتمادها سياسيًا وماليًا على دول ذات مصالح إقليمية وعالمية ليست متقاطعة البتة مع مقاصد الثورة في الكرامة والمواطنة والديمقراطية، فضًلا عن سقوط القسم الأكبر من المعارضة في موحلة العسكرة التي استجرّت أصحاب المصالح الإقليمية والدولية من موقعهم كداعمين للثورة، إلى مركزهم كمتحكمين في حركتها. وتحوّلت سورية شيئًا فشيئًا إلى أرض تنازع بين قوى دولية تتصارع من خلال وكلائها على الأرض (ومنهم النظام نفسه). فليس من الغرابة إذن أن تقود هذه المسببات إلى النتيجة المحبطة التي ذكرتها، التي غدت معها جميع القوى التي كانت فاعلة في سورية أطرافًا مفعولًا بها، لا يؤخذ برأيها في ما يُحضّر من ترتيبات، وفي ما يحاك من اتفاقات.
إزاء هذا المشهد العبثي لا يمكنني أن أتصور أيّ صورة وردية لمستقبل سورية القريب. بل على العكس، الصورة الوحيدة التي يمكنني تخيلها هي صورة كارثية تريني بلدًا ممزقًا، بدولة فاشلة، وسيادة منتهكة، ومجتمع متصدّع، واقتصاد منهار، إلخ. لكنني أنوّه إلى أنها صورة سورية في المستقبل القريب فقط، وليست سورية المستقبل، فهذه لا بدّ لها من أن تعمر من جديد.
لدي ثقة لا حدود لها بشابات سورية وشبابها -من بقي منهم فيها ومن اضطر لتركها- وبقدرتهم على أن يبنوا بلدًا جديدًا. وأنا، بصفتي فردًا، ليس لي القدرة ولا الحق في تقديم حل ومخرج للوصول إلى هذا البلد. فهذا الأمر لا يُصاغ إلا بجهد مشترك، في إطارٍ تضميني جامع للسوريين، الشباب بدرجة أولى، المتحررين من ربقة الارتهان للخارج، والمتخلصين من حمّى الانغلاق في منظومات ثقافية إقصائية لا ترى إلا مصلحة الجماعة والقبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب.
– برأيك كيف يمكن للمجتمع المدني السوري وقوى الثورة الآن، صياغة استراتيجية جديدة لمواجهة تناقص الدعم الدولي للسوريين وثورتهم في الآونة الأخيرة؟
= عرف المجتمع المدني في السنوات الأخيرة طفرة حقيقية تمثّلت بالتكاثر الفطري لعدد المنظمات والمبادرات العاملة في المجتمع السوري وعليه. وإن مثّلت هذه الطفرة ردّ فعل طبيعي على المسؤوليات الكبرى التي وضعها تطوّر الأحوال السورية منذ بداية الثورة، ومنذ انسحاب الدولة من مسؤولياتها المجتمعية، أو منذ عجزِها عن تحملها، أمام الناشطين والمواطنين الفاعلين في سورية، فإنها أظهرت في الوقت نفسه عددًا من المخاطر التي تدفع للتنبه والحذر في مقاربة المجتمع المدني السوري ودوره اليوم. هذه المخاطر هي:
1- “الأنجزة” (ONGeisation): يشير هذا المصطلح الجديد نسبيًا إلى تبدل جوهري في مفهوم تنظيمات المجتمع المدني ليصبح تشكيلها غاية بذاته، وليس وسيلة لنشاط مدني فعّال. في “الأنجزة” لا تعود المشاركة في الشأن العامّ هي الهدف الذي من أجله يبادر مواطنون فاعلون إلى تشكيل منظمتهم، إنما يصبح تشكيل المنظمة عملًا كأيّ عمل آخر، غايته الاستفادة المالية من المنح المتوفرة في “السوق”. “الأنجزة” تفرّغ العمل المدني من محتواه المواطني لتحوّله إلى مشروع تجاري يؤمّن مردودًا لأعضائه.
2- التبعية المالية: لا يمكن لمنظمات المجتمع المدني القيام بمشاريعها بشكل فعّال ومستدام من دون المساعدات المالية المقدمّة من مانحين، وبخاصّة في ظل الظروف الاستثنائية، كتلك التي يعيشها المجتمع المدني السوري بسبب الحرب واللجوء. غير أنّ ثمّة سياستين في التعامل مع المنح المالية، فهناك المنظمات ذات الأهداف الواضحة التي أُنشئت من أجلها، وهي تبحث عن التمويل المساعد لإنجاز هذه الأهداف، وهناك المنظمات التي أنشئت من أجل الاستفادة من التمويل المطروح، أي “تسوق حسب السوق” وتعمل كمنظمات تنفيذية لمشاريع المموّل، غير عابئة بأهدافه السياسية والمالية. المنظمات الأولى تتموّل من أجل أن تعمل، أمّا الأخيرة فتعمل من أجل أن تتموّل، وشتّان بين السياستين.
3- التبعية السياسية: العمل المدني هو عمل سياسي بامتياز، لكن بالمعنى النبيل لكلمة سياسة، أي التدخل في إدارة شؤون المجتمع، وليس بالمعنى النضالي الذي تتخصص به الأحزاب المتصارعة على السلطة، أو الأحزاب الباحثة عن الهيمنة من طريق المنظمات المجتمعية. هذا النوع من المنظمات لا يربو عن أن يكون استطالة مجتمعية للأحزاب، يعمل بهديها وفقًا لسياستها لتحقيق غاياتها السياسية الخاصّة، أكثر من سعيه لتحقيق غاياته المدنية العامّة.
هذه الأخطار الثلاثة صارت منتشرة إلى حد بعيد بين منظمات المجتمع المدني السوري وقوى الثورة، وكانت السبب الأول، برأيي، لتراجع الدعم عنه. وأعتقد أنه إن لم يتخلص هذا المجتمع من تلك الأخطار سيزداد تراجع مصداقيته، وسيتفاقم نقص الدعم المقدم له، وسيكون أكثر عجزًا عن لعب أيّ دور له في المستقبل القريب أو البعيد. يجب على هذا المجتمع المدني أن يصبح سوريًّا قبل أن يعمل على وضع إستراتيجية فعالة. خذ على سبيل المثال القطاع العامل في التعليم اليوم، تجد أنّ القسم الأعظم منه لا يعمل لتنشئة مواطنات ومواطنين سوريين بقدر ما يعمل لتنشئة أتباع لأفكار الأطراف المموّلة وأيديولوجياتها.
– ما هو تقييمك لأحوال الثورة السورية اليوم وهي في عامها العاشر، ومن ثمّ كيف تقرأ تأثيراتها على حياة السوريين عامّة، ونحن نترقب سقوطًا مدويًا في هوة المجاعة، مع وجود نحو 85 في المئة من أبناء وبنات الشعب يعيشون تحت خط الفقر؟
= مثّلت الثورة، برأيي، أنبل حراك وأهم علامة مضيئة في تاريخ سورية الحديث، فهي الثورة المواطنية الوحيدة التي جمعت أغلبية السوريين من شتّى الأصول والانتماءات تحت راية الكرامة والعيش المشترك. غير أنّ مسارها انحرف كما ذكرت سابقًا، بسبب عنف النظام وسياساته التفريقية وما أنْبتَه من عنف مقابل ومن تصدعات مجتمعية لا يبدو أنّ ثمّة براء منها في المستقبل القريب. وقد أسفرت الأوضاع التي أفرزتها سنوات القتال الطويلة عن مآسٍ لم يسبق لها مثيل في العالم الحديث. لكن، سيكون من الخطأ الجسيم تحميل الثورة وزر هذه المآسي، صحيح أنّ لقوى المعارضة دورًا ليس ضئيلًا في ما وصل البلد إليه، لكن المسؤولية الجذرية لكل هذا السقوط الاقتصادي والاجتماعي والمالي والثقافي إنما تقع على النظام. فسياساته الحمقاء هي التي دفعت الثورة نحو العسكرة والتأسلم، وهي التي فتحت البلاد للميليشيات والقوى الخارجية، وهي التي طيّفت المجتمع، وهي التي هجّرت نصف السكان من منازلهم ورمتهم بين نازح ولاجئ، وهي التي أفقرت الناس، إلى ما هنالك من نتائج تراجيدية على هذه القائمة السوداء.
مع امتداد الحرب لهذا الزمن الطويل، ومع ما تركته من آثار فظيعة على الناس، كان لا بدّ من تمكّن التعب والإرهاق من السوريين، وبخاصّة أولئك الكثيرين الذين لم يشاؤوا أو لم يقدروا على أن يحسموا مواقعهم، أو أولئك الذين شكلوا الحاضنة المجتمعية للثورة لكنهم لم يكونوا مستعدين لتحمّل هذا الحجم من الخسارات، وهذا ما ولّد حالة من الإحباط العامّ، عززه الوضع الاقتصادي المتهالك، ووباء “كوفيد-19” وما يشيعه من مشاعر بالعجز وقلّة الحيلة.
بالتوازي مع حالة الإحباط هذه، تشكلت مواقف عدة، تنوس بين الشماتة (ألم نقل لكم من البداية؟) والندامة (ليتها لم تكن)، مع رغبة غير معلنة أحيانًا، وصريحة أحيانًا أخرى، في عدّ الثورة أصل البلاء. هذه المواقف، على الرغم من اختلافها في أصلها وفي تعابيرها، تكشف، برأيي، عن شكل من أشكال الانتهازية الأخلاقية، لأني أكاد أجزم أنّ أصحابها كانوا سيعتلون منابر التمجيد بالثورة لو انتصرت.
يبقى موقف آخر لا يمكن نكرانه ولا الاستهانة به، يمثّله بشكل خاصّ الملايين من الشابات والشباب المنتشرين في داخل البلاد وفي الشتات، والذين لا يزالون محافظين على جذوة الثورة في وعيهم، وما يزالون مؤمنين بحقهم في العيش على أرض الوطن بكرامة واحترام لحقوق الجميع. وأنا لا أزال مقتنعًا بأنّ هذا الموقف سينتصر عاجلًا أو آجلًا، وإن كانت هذه الجولة من الثورة قد فشلت فهناك جولة وجولات قادمة، لأنّ جرثومة التحرر إرث متأصل لدى الشعوب، وإذا أفاقت من كمونها فلا بدّ لها من أن تصل إلى غاياتها، والثورة أيقظت هذه الجرثومة لدى السوريين.
المواطنة منظومة قانونية، سياسية، اجتماعية، ثقافية:
– أنتقل معك للحديث عن (الرابطة السورية للمواطنة) بصفتك مؤسّسها ورئيسها، متى كانت ولادة الرابطة، وما هي دوافع التأسيس والأهداف المنشودة من تأسيسها؟
= ظهرت مع انطلاقة الثورة السورية أهمية تملّك الشباب المشارك في المظاهرات السلمية، لثقافة المواطنة. وجاء تسارع الأحداث ليؤكد هذه الأهمية، وبخاصّة أنّ المصطلح صار، بين عشية وضحاها، مصطلحًا تحشيديًا تتناقله الأدبيات المؤيدة للانتفاضة من دون أن تبيّن دلالته العلمية، ومن دون أن توضّح ما هي مبادئ المواطنة وما هي قيمها، و بدا لي هذا أمرًا يتوجب التصدي له، خصوصًا إذا عرفنا أنّ المعنى الذي ما فتأت تنشره أجهزة النظام الأيديولوجية عن المواطنة يشوّه المصطلح، إذ يحبسه ضمن دلالة الشعور بالانتماء إلى الوطن ومحبته، في حين أنّ المواطنة هي منظومة قانونية وسياسية واجتماعية وثقافية، ترسم علاقات بين المواطن من جهة، والدولة والمجتمع والفضاء العامّ المشترك من جهة ثانية، علاقات تنهض على مبادئ واضحة، هي الحرية والمسؤولية والتشاركية والمساواة، وتمتُن بالقيم مُثل التضامن والوعي المدني والإنسانية وغيرها. وزاد الشعور بأهمية نشر المعرفة بالمواطنة وبقضاياها (مثل العلمانية، والجندر، وحقوق الإنسان، والتنوّع الثقافي، والهوية، والتنمية المستدامة، إلخ) أنّ النظام قد عمل، من الأيام الأولى، لتقويض البعد المواطني للثورة، من خلال تطييفها أولًا (خطاب بثينة شعبان في 26 آذار/ مارس 2011)، ومن خلال دفعها بالقوة نحو العسكرة (استخدام العنف بشكل مبكر ومتسارع). أمام هذا الواقع قمت مع بعض الصديقات والأصدقاء بتنظيم عدد من اللقاءات مع مجموعات من الشباب، تناولنا فيها قضايا ملحّة مثل: مبادئ المواطنة والدستور والمساواة الجندرية ودور المرأة في الانتفاضة وخطر الطائفية واللاعنف وتاريخ سورية السياسي الحديث إلخ. ثمّ ارتأينا أن نعمل لإنشاء جسم مدني يعمل بشكل منظم ومنهجي لمسائل المواطنة، فكانت (الرابطة السورية للمواطنة) التي كان إعلانها في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2011.
تنتمي الرابطة إلى فئة التنظيمات المدنية أفقية البنية، وهي “جسم مدني” مفتوح أمام كل من يرغب بالعمل من أجل تحقيق المواطنة في سورية. لهذا السبب تراها لا تعتمد مبدأ الانتساب، ولا توجد لديها بطاقة عضوية، ولا رسوم انتساب، وتُؤخذ قراراتها بالتشاركية. الرابطة (وهذا ما يفسر اسمها) تربط بين المواطنين السوريين الفاعلين من أجل المواطنة. وهذا الربط يكون من خلال العمل في البرامج والمشاريع القائمة. تطرح الرابطة، أو تستقبل، برامج عديدة، وكل برنامج يضمّ عددًا من المشاريع، يعمل بها مواطنون مقتنعون بأنّ المواطنة هي الحل الأمثل لما يعترض الوطن السوري من تصدّعات. ربما أمكننا القول إنّ هؤلاء هم من تمثّلهم الرابطة.
الهدف الأساس للرابطة هو نشر المعرفة بالمواطنة، وترسيخها في الحياة اليومية للمواطن. لكن في الطريق نحو هذا الهدف الرئيس نصادف أوضاعًا طارئة تضطرنا إلى وضع أهداف عاجلة، مثل مساعدة اللاجئين، أو الحفاظ على الذاكرة الجمعية وعلى التراث الثقافي، وهذا ما يضطرنا إلى وضع مشاريع جديدة لا تتعارض مع الهدف الرئيس، بل توافيه من سبل مبتكرة.
– كان بعث دار “بيت المواطن للنشر والتوزيع” من إنجازات الرابطة المهمة، وقد صدرت عنها أدلّة وكتيّبات تعريفية لنشر “ثقافة المواطنة”، إضافة إلى سلسلة أدبية موسومة بـ “شهادات سورية”؛ لماذا توقف عمل الدار في نهاية عام 2018؟ وما تقييمك لتلك التجربة؟
= كانت دار “بيت المواطن” تجربة استثنائية على طريق نشر المعرفة بالمواطنة وبقضاياها، وقد أردنا منها أن تكون المنبر الذي تستطيع الرابطة من خلاله التعبير بشكل عملي عن القضايا المواطنية التي تعمل لها. ولا أبالغ حين أقول إنها قد أنجزت هذه المهمة إلى حد مقبول. فقد أصدرت الدار خلال عمرها القصير (6 سنوات) اثنين وخمسين كتابًا. منها ثلاثون كتابًا في سلسلة “شهادات سورية” التي أردناها محفظة لذاكرة الثورة بقلم بعض ناشطيها، ومنها عشرة كتب في سلسلة “التربية المدنية” التي أردنا منها نشر أبحاث تعريفية بالقضايا الأساسية في المواطنة، مثل: الديمقراطية والمجتمع المدني والحرية والعلمانية والتنمية المستدامة وحقوق الطفل… ترمّم لدى الشباب السوري العَوَزَ في المعرفة السياسية، الذي كان واحدًا من أساليب النظام لسحب السياسة من المجتمع، وتتوزع الاثنا عشر كتابًا الباقية بين كتب مترجمة وشهادات مصورة وأدلة في المواطنة. فقد أصدرنا دليلًا للمواطنة بجزئين، الأول نظري للتعريف بالمواطنة وقضاياها، والثاني عملي لمساعدة المدربين الراغبين في التدريب على محتوى القسم النظري.
اعتمد العمل في الدار على شخصين، صديق للرابطة وأنا. وكان عملنا تطوعيًا في أكثر من خمسة وتسعين بالمائة منه، وكنا نؤمّن تكلفة تصميم الكتب وتنقيحها وطباعتها من تمويل منظمات صديقة. لكن عوامل عدة تدخلت لتعيق إمكانية متابعة العمل، يمكن أن أذكر منها:
1- نضوب موارد الدار التي لم تعمل كمشروع تجاري (كل منشورات الدار توزعّ مجانًا)، وتراجع الدعم الموجّه لهذا النوع من المشاريع.
2- تكاثر المشاريع المشابهة لمشروع الدار، وهذا خلق منافسة في الحصول على التمويل المتناقص أصلًا.
3- تراجع ملحوظ في عدد مخطوطات الشهادات التي يرغب أصحابها في نشرها.
كل هذا أدى إلى توقف الدار عن العمل. والحقيقة أنه أمر مؤسف للرابطة ولي بشكل خاصّ، لكن هذا هو واقع عمل منظمات المجتمع المدني ولا بدّ من تقبّله.
– أيّ دور تلعبه (الرابطة السورية للمواطنة) في اللحظة السورية اليوم؟ وما هي المشاريع التي تتصدر أولويات عملكم على الأرض؟
= يمكن تلخيص دور الرابطة اليوم بنقطتين: الأولى ترتبط بكونها فصيلًا من المجتمع المدني، والثانية ترتبط بأهدافها المعلنة.
إنّ انتماء الرابطة إلى المجتمع المدني يحتم عليها الانتباه إلى المخاطر المحيقة بهذا المجتمع، التي سبق أن ذكرتها أعلاه. لذا تراها تحرص على صون الصيغة المدنية الوطنية لعملها، محاولة تجنب الإصابة بداء “الأنجزة” أو التبعية. إنه لجهاد حقيقي في زمن انفلات الضوابط القيمية للعمل المدني، وتمكّن ثقافات الاستسهال والاسترزاق.
أمّا في ما يخص أهدافها المعلنة فإنّ للرابطة برامج عدة عملت في إطارها، أهمها البرنامج المعرفي، وغايته نشر المعرفة بالمواطنة بين أكبر شريحة ممكنة بين السوريين، وبرنامج العدالة الانتقالية، وكان يهدف إلى صياغة رؤية سورية للعدالة الانتقالية، وبرنامج الإغاثة الذي قدم المساعدات العينية لمئات العائلات السورية على مدى سنوات، وكثير غيرها.
واليوم، ما يزال العمل التوعوي على المواطنة في مركز الصدارة من عمل الرابطة، إضافة إلى العمل لرفع الوعي بحقوق المرأة، وبخاصّة بين اللاجئين.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ عمل الرابطة تقلّص بشكل واضح خلال السنتين الماضيتين، وذاك يعود بشكل خاصّ إلى ضعف المهارات الإدارية لدى العاملين فيها، وإلى النزيف الشديد في مواردها البشرية المدرّبة. وضعت الرابطة نصب عينها، منذ بدايتها، موضوع الاستدامة، فعملت لتدريب عشرات الشابات والشباب المنتَخَبين من ورش عملها على المواطنة، وحققت نتائج باهرة على هذا الصعيد، غير أنّ النسبة الأكبر من هؤلاء اضطرت إلى ترك لبنان وإلى اللجوء إلى أيّ مكان يمكنها أن تعيش فيه بكرامة. هذا ما يدفعنا اليوم إلى التفكير بمشاريع تجمع بين الخبرات المنتشرة في الشتات، وبمشاريع تعزز عمل الذين بقوا في داخل سورية.
نشر “ثقافة المواطنة” بين السوريين:
– ترى شخصيًا ضرورة نشر “ثقافة المواطنة” كشرط لا غنى عنه لتهيئة الأرضية القابلة لاحتضان التعايش بين المكوّنات الطائفية والمذهبية والأقلية في سورية. هل لك أن تستفيض في هذا الفكرة؟
= قبل أن أجيب على سؤالك أود التنبيه إلى أننا في أدبيات الرابطة لا نستخدم تعبير “التعايش”، إنما نستبدل به تعبير “العيش المشترك”. ليس الموضوع موضوعًا لغويًا، إنما هو موضوع فكري صرف. التعايش يعني أنّ أيّ مكوّن من المكوّنات الثقافية المختلفة الموجودة في المجتمع السوري يعيش حياته بسلام داخل فقاعته الجمعية، من غير أن يتدخل بحياة المكوّنات الأخرى أو أن تتدخل هي بحياته. هذا التعايش لا يبني، برأينا، وطنًا متحدًا متكاملًا.
أمّا العيش المشترك فيعني أنّ المواطنين المنتمين إلى كل المكوّنات لا يعيشون في فقاعات جماعتهم، إنما يتفاعلون ويتعالقون (يبنون علاقات متبادلة) مع غيرهم من المواطنين في الجماعات الأخرى، وهذا ما يبني شبكة مواطنية عابرة للجماعات والمكونات.
أمّا بخصوص ثقافة المواطنة فدعني أحدد ما هي دلالة كلمة “ثقافة” المستخدمة عندنا. فنحن نتبنى دلالة سوسيو-أنثربولوجية وتصبح معها الثقافة “قوة لا مادية كامنة” تدفع الفرد إلى القيام بما يقوم به من أفعال، وتحدد ما يأتي به من تصرفات وسلوكيات. إنها، وهي بهذا المعنى، تقترب كثيرًا من مفهوم “الهابيتوس” عند بيير بورديو. فثقافة المواطنة إذن هي تلك القوة اللامادية التي تدفع الناس في بلد ما إلى التصرف والعيش وإنشاء العلاقات والتفكير بهدى المبادئ والقيم المواطنية. واكتساب هذه الثقافة شرط أولي لبناء دولة المواطنة التي يمكن توصيفها باختصار بأنها دولة “العيش المشترك بكرامة لجميع المواطنين”، دولة يختلف مواطنوها بثقافاتهم مثلما يختلفون ببصماتهم، فلا يشبه أحدهم الآخر، لكنهم جميعهم، من دون أيّ استثناء، يتماثلون في حقوقهم وواجباتهم، ويتساوون أمام القانون.
إنّ التعصب للانتماءات الثقافية هو الذي يولّد مشاعر التميز والتفرقة والإقصاء، التي لا تبشّر ببناء بلد جامع لمواطنيه، إنما تعِد بتجميع فقاعات متنافرة تتصارع سعيًا وراء الغلبة. وإن استطاعت سلطات القمع أن تضغط على تلك الفقاعات لتمنعها من الانفجار والصراع فإنها ستعجز عن متابعة ذلك فور توفّر الظروف المؤاتية للانفجار، كما حدث في سورية وغيرها.
– سورية الآن، هل هي خاضعة للهيمنة الدينية- كما يُشاع- أم تخضع لهيمنة الثقافة العلمانية؟ وهل تخشى من تسلم الفصائل الجهادية المتشدّدة شؤون الحكم بعد سقوط النظام؟
أعتقد أنّ نزاعًا باردًا بين الثقافتين الدينية والعلمانية كان يتفاعل داخل المجتمع السوري. غير أنه لم يكن يومًا نزاعًا ثنائي القطب، الدين من جهة والعلمانية من جهة أخرى، إنما هو نزاع يتضمن نزاعات عديدة بين مكوّنات مختلفة داخل كل طرف، وبين مختلف المكوّنات من الطرفين، وهذا يجبرنا على التفصيل في قراءة الهيمنة وعدم الركون إلى التبسيطات المانوية السائرة. إذا نظرنا إلى جهة الثقافة الدينية (الإسلامية تحديدًا بعدّ الإسلام هو الدين الأكثر تأثيرًا) سنرى أنّ هناك أربع تلوينات رئيسة في هذه “الماغما” المتدينة، فهناك:
1- التدين الاجتماعي: وهو أكثر تلوينات الثقافة الدينية حضورًا في المجتمع. يتميز بالتسامح وبقبول الآخر وتمثّله شرائح واسعة من المؤمنين.
2- التدين الإصلاحي: وهو يميز بشكل خاصّ الإسلام السياسي ويمكن إيجاز غاياته بإصلاح حال المسلمين في كنف دولة ذات مرجعية إسلامية منبثقة عن النضال السياسي.
3- التدين الجذري: وهو صاحب نظرة ضيقة للمجتمع والدولة تنطلق من قراءة سلفية متشدّدة ومنغلقة للتراث الديني ومن ممارسة طائفية وإقصائية.
4- التدين الجهادي: وهو يندرج في خانة الإرهاب الفكري المسلّح الذي لا يرى العالم سوى “دار سلام” أو “دار حرب”.
ويمكن التمييز بين هذه التلوينات في شتّى المسائل المطروحة على ساحة النقاش، بدءًا من لبس الحجاب وانتهاء ببناء الدولة. مع التأكيد على أنّ الحدود بين هذه التلوينات ليست مرسومة بوضوح، حيث من الممكن أن تنوس مواقف تابعيها بين طرف وآخر، بحسب المصلحة أو الدرجة.
على المقلب الآخر نجد تلوينات عدة في ثقافة العلمانية، مع اختلاف جوهري بين الثقافتين يرتبط بغنى المرجعية الفكرية والتاريخية للثقافة الدينية، وبقوة حضورها في الحياة العامّة مقابل فقر هذه المرجعية للثقافة العلمانية، من تلوينات العلمانية نجد:
1- العلمانية الاجتماعية: التي لا تنهض على مرجعيات فكرية فلسفية، إنما تنهض على ممارسات اجتماعية متراكمة من بداية التحرر الوطني وما رافقه من تبدلات عميقة في الثقافة السائدة حتى ذاك الوقت.
2- العلمانية العقائدية: التي تتماهى فيها العلمانية مع اللادينية وهي محدودة الانتشار.
3- العلمانية المواطنية: التي ترى العلمانية مبدأً في تنظيم الدولة يدل على أنّ السلطة السياسية، وإدارة الدولة، يضطلع بها مسؤولون يعملون بالسياسة، أو متخصصون بالإدارة، ولا دخلَ للدين أو لدينهم بعملهم. بمعنى آخر إنّ قضايا الدولة قضايا عامّة، لا علاقة لإيمان الناس بها، وإن إيمان الناس قضية خاصّة لا علاقة للدولة بها.
وإذا ما قابلنا بين كل هذه التنويعات في الثقافتين وجدنا أنّ ثمّة توازيًا وتماشيًا كبيرين بين التدين والعلمانية الاجتماعيين، حتى يكادا يشكلان مركبًا ثقافيًا واحدًا، يمكن القول إنه صلب الثقافة المهيمنة في سورية، على الأقل من الاستقلال إلى مطلع نهايات القرن العشرين. ففي تلك المرحلة، وبالتوازي مع التراجع المستمر لمشروع دولة التحرر الوطني، ومع تعاظم دور القوى الظلامية في المنطقة، ونجاحها في تكريس ما سمي بالصحوة الإسلامية، ومع انتهاج النظام الأسدي سياسات داخلية وخارجية لا همّ لها سوى حماية النظام وتقويته على حساب المصلحة الوطنية، بدأت تترسخ الهيمنة الثقافية الدينية، وتتحوّل إلى النمط الجذري ثمّ الجهادي. غير أني أعتقد أنّ هذا التحوّل عابر، مرتبط بظروف عابرة، وأنه سيتراجع مع تغير الظروف، لأنّ الواقع الثقافي والديمغرافي والاقتصادي والجيوسياسي لسورية يشكل بيئة غير مضيافة لهذه الثقافة. حسبنا أن نرى مثلًا كيف يرفض السوريون في أماكن سيطرة الجهاديين هذه السيطرة، ويخرجون معبرين عن معارضتهم لها، على الرغم من كل الضغط والقمع الذي تلحقه “سلطات الأمر الواقع” بهم.
– في ظل وطن هُجّر نصف شعبه تقريبًا، ودولة فاشلة تحكمها عصابة مافيوية إجرامية، كيف لنا أن نتحدّث عن “بناء مواطنة” الأفراد السوريين؟
= بناء المواطنة ضرورة لأيّ جماعة من الناس اختارت أن تعيش بشكل مشترك فوق رقعة محددة من الأرض، أيًا كان شكل النظام الذي يحكم هذه الأرض. وهي (المواطنة) الحل الوحيد ليحافظ جميع الناس على كرامتهم ويتساووا في حقوقهم. لذلك فإنّ قدر المواطنين الحالمين بناء المواطنة، والنضال من أجل ذلك. يتغير شكل هذا النضال وشدّته والآليات التي تُستخدم خلاله من أرض إلى أخرى، ومن زمن لآخر، تبعًا لشكل المؤسسات الحاكمة (الدولة)، وتبعًا لطبيعة النظام الذي يسيّر هذه المؤسسات، لكن جوهره لا يتغير. سيبقى النضال من أجل المواطنة في كل مكان في العالم نضالًا من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الحرية والتشاركية والمسؤولية والمساواة ليعيش الجميع بكرامة.
ما ذكرته حضرتك عن حال السوريين وحال دولتهم الآن صحيح جدًا، وهذه الحال تضعهم أمام صعوبات ومعوقات إضافية، لكن لا مهرب لهم من النضال لانتزاع مواطنيتهم، ليس فقط في الدولة الفاشلة التي يسيطر عليها النظام، بل في المناطق الخارجة عن سلطته، والخاضعة لسلطات الأمر الواقع، أقومية كانت أم دينية أم طائفية. بل وأكثر من ذلك، لا بدّ لمن هُجّر من البلاد أيضًا أن يناضل لنيل مواطنيته في البلاد التي استقر فيها، إن كانت سبل العودة إلى بلده سورية قد تقطعت نهائيًا.
هذه القضية تعيدنا إلى فكرة جوهرية في المواطنة، وهي أنه ليس هناك وصفة نهائية لكيف تكون المواطنة. المواطنة المثالية الصالحة في كل زمان ومكان، يوتوبيا لا توجد ولا يمكنها أن توجد. كل ما في الأمر أنّ هناك مبادئ مواطنية أفرزتها التجربة الإنسانية، فاكتسبت صفة الثبات، وإن تغير شكل تطبيقها، وعلى المواطنين العمل بجد ومثابرة لجعل هذه المبادئ أساسًا للعلاقات التي تربطهم بين بعضهم البعض، وتربط بينهم وبين المؤسسات التي تدير شؤونهم. ونضيف في أدبيات الرابطة صعيدًا ثالثًا، وهو العلاقات بينهم وبين الفضاء الذين يعيشون فيه.
“الدولة المدنية” أو سيناريوهات الحل البديل:
– هناك من يرى أنّ الحرية والديمقراطية بصفتهما قيمًا أو مفاهيم، بقيتا هامشيتين في الفكر العربي الحديث، ولا سيّما لو قارناها بمفاهيم أخرى كـمفاهيم العدالة، والهوية، والحداثة… ما تعليقك؟
= أعتقد بداية أن من الخطأ وضع المفهومين المذكورين في السياق نفسه، فالحرية تنتمي إلى مجال الطبيعة البشرية، بمعنى أنها غريزة لا يمكن للإنسان أن يعيش فترة طويلة محرومًا منها. علينا أن نتذكر هنا أنّ باستطاعتنا قراءة التاريخ البشري على امتداده كحلقة من الصراعات من أجل استرداد الحرية أو من أجل الحصول على المزيد منها، في حين تنتمي الديمقراطية إلى الثقافة بمعنى المنتج الفكري الذي تمّ اختراعه لتنظيم العلاقات بين الناس في الحيّز السياسي متعدد الألوان والعقائد والأهداف.
هذا التفريق بين المفهومين يسمح لي بالقول إنّ الفكرة، إن قال بها بعضهم، ليست صحيحة تمامًا، وذلك لأنّ النضال من أجل الحرية له تاريخ لم ينقطع في تاريخ سورية والعالم العربي، على الرغم من مراحل الاستبداد، وكان بعضها طويلًا جدًا. وأنا، بصفتي عاملًا في الثقافة، أظن أنه لمن الإجحاف ألّا نرى الوجه المضيء من تاريخ المنطقة المتمثّل في نضالات الناس من أجل حريتهم. لا أتكلم هنا عن الحرية السياسية فحسب، بل عن الحرية بمعناها العامّ، أي تجاوز القوالب المقيدة للنشاط البشري في كل المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية..
إنّ إيجاد شكل جديد في الغناء يتجاوز الأشكال التقليدية (على أهميتها) هو برأيي عمل حرية لا يقل في قيمته المعنوية عن قيمة تظاهرة حاشدة ضد سلطان جائر. انطلاقًا من هذا الفهم للحرية أرى أنّ تاريخنا السوري التحرري مشرف جدًا.
أمّا بخصوص الحرية في بعدها السياسي الصرف، فأعتقد أنها لم تُطرح بهذا التخصيص إلّا مع بدايات القرن العشرين، ومع تشكّل الأحزاب السياسية بمعناها الحداثي. وقد بقيت فعلًا مسألة هامشية في الفكر على الرغم من مركزيتها في أدبيات الأحزاب اللاهثة دومًا نحو تحصيل مساحة حرة للعمل في ظل سلطات قمعية متعاقبة.
تتلازم مسيرة الديمقراطية مع مسيرة الأحزاب لتنكفئ حين تنكفئ هذه الأخيرة، وتنبعث مع انبعاثها. كما يعرف الجميع، لم تعرف سورية شكلًا من أشكال الديمقراطية إلا في مرحلة قصيرة ابتدأت عام 1954، وانتهت عام 1958 عندما أُلغيت الأحزاب وصارت الديمقراطية دالًا لغويًا لا مدلول له في الواقع. قيل يومها إنّ السوريين ضحّوا بالديمقراطية في سبيل بناء الوحدة العربية، ليُتكشّف لاحقًا أنّ هذه الوحدة قد فشلت، بالدرجة الأولى، لقبولها بهذه التضحية، ولاستبدال الديكتاتورية العسكرية بالديمقراطية. ومنذ عام 1963 ومع تحكّم حزب البعث بزمام السلطة ترسخ حكم الحزب الواحد، وانتهى بحكم الفرد الواحد مع آل الأسد، وغدت الديمقراطية مثل “فتاة مدينة آرل L’Arlésienne” في قصة «ألفونس دوديه» الشهيرة، الجميع يتكلم عنها ولا أحد يراها.
مع بداية الربع الأخير من القرن العشرين بدأت “الموجة الديمقراطية الثالثة ” كما سماها هنتنغتون، انطلقت في دول أوروبا الجنوبية، اليونان والبرتغال ثمّ إسبانيا، ثمّ انتقلت إلى دول أميركا الجنوبية، ومنها إلى شرق أوروبا، لتُتوّج بسقوط جدار برلين. وبفعل إنجازات هذه الموجة اكتسبت الديمقراطية بريقًا فتّانًا أعاد التفكير في أهميتها وفي قدرتها على تحويل النظم السياسية الأكثر انغلاقًا، وغدا النضال من أجل التحوّل الديمقراطي سمة العصر. وهذا ما تنبه له المثقفون في سورية، فوضعوا النضال من أجل الديمقراطية في أولى أولوياتهم. وشدّد من تعلّق المثقفين النافرين من السياسة، بسبب خواء الحقل السياسي بعد أن تمّ تفريغه من مضمونه، أو بسبب التكلفة العالية التي كانت تتوعّد كل من يعمل في السياسة، بهذا النضال، ذاك التحوّل الملحوظ في طبيعة البُنى التي كانت تديره، حيث تراجع دور الأحزاب السياسية والنقابات، ليتقدم بالمقابل دور التنظيمات والمبادرات المدنية، فالنضال من أجل الديمقراطية انتقل من الحيّز السياسي الضيق إلى فضاء المجتمع المدني الواسع. وقد انتبه المثقفون في سورية إلى أنّ النضال من أجل الديمقراطية يمكنه أن يتمّ، بل يمكن أن يكون أشدّ وأنجع، خارج الأطر السياسية التقليدية الفاشلة، فنقلوه إلى المجتمع المدني، وهذا ما تجلى عام 2000 بالحراك المعروف باسم “ربيع دمشق”.
– هل من الواقعي التعويل على مشروع «الدولة الوطنية المدنية» في سورية بعد كل ما جرى ويجري الآن من صراعات مسلّحة ودمار وخراب؟
= بعد كل ما جرى من خراب ودمار، وبعد الإحباط المتراكم من فشل السياسيين من كل الأطراف في الوصول إلى حل يوقف المقتلة، دخل الشكّ في قلوب كثيرين، وبات سؤال “واقعية” المشاريع الكبرى من قبيل “الدولة الوطنية المدنية” و”المواطنة” و”الديمقراطية” سؤالًا طاغيًا. لكن دعنا نطرح هذه القضايا بشكل مختلف، إذا تخلينا عن هذه المشاريع فما هو الحل البديل؟ هنا تبرز في الأفق مباشرة سيناريوهات عدة يمكن تلخيصها بعناوين واضحة:
استمرار الوضع الحالي بما فيه من صراع واحتلال وتقسيم.
تقسيم البلد إلى كيانات محكومة من السلطات التي تحكمها الآن، لن تحقق الاستقرار في مناطق السيطرة، ولن تبني السلام بين بعضها.
سيطرة أحد الأطراف على كامل الأرض السورية، وهذا، إضافة إلى أنه يبدو مستحيلًا، ينذر باستبداد قادم وخيم.
إذن ما العمل والحالة هذه؟ يبدو لي أنه لا مناص من الاستمرار بعدّ بناء الدولة الوطنية المدنية الحل الأمثل، ولا مناص من متابعة النضال من أجله.
من المؤكد أن الطريق طويل ووعر ويزداد وعورة مع استمرار الاستنقاع في الصراع، لكنه الطريق الوحيد إذا ما أراد السوريون أن يعيشوا معًا.
العمل على بناء خارطة ثقافية لسورية:
– في الشأن الثقافي، أتوقف معك بداية لتحدّثنا عن كتابك الأخير «الموسيقى التقليدية في سوريا»، دوافع وخلفيات تأليفه. وهل من كتاب جديد في الأفق؟
= أعتقد أنّ لهذا الكتاب شيئًا من الأهمية، لأنه، بحدود معرفتي، أول بحث في الثقافة يبتعد عن الانغلاق القومي أو الديني في تناول وجه من أوجه الثقافة في سورية، هنا الموسيقى، ليُنظر إليها بشكل مواطني، أي بكل اختلافاتها ومن دون أيّ تمييز تفاضلي بينها.
لقد انبثقت الرغبة في وضع هذا الكتاب من خلفية اهتمامي بالتراث الثقافي في المنطقة، في سورية تحديدًا، بشقيه المادي واللامادي، فأنا باحث في هذا التراث منذ أكثر من عشرين سنة. وقد تحوّلت هذه الرغبة إلى مشروع بعد اطّلاعي على برنامج “الصون العاجل للتراث الثقافي السوري” الذي ترعاه منظمة (يونسكو)، وبعد حواري مع مديرته الدكتورة كريستينا مينيغاتزي حول ضرورة تدوين هذا التراث الغني والعريق صونًا له من الخراب الذي يصيب سورية. واتفقنا على العمل على التراث الموسيقي كواحد من الجوانب التي يهتم بها برنامج الصون العاجل للتراث. تمّ تكليفي بالتحضير ليوم عمل حول الموضوع في مقرّ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) UNESCO في باريس في شهر أيار/ مايو 2015، فدعوت عددًا من أصدقائي الموسيقيين السوريين (نوري اسكندر، عابد عازرية، إبراهيم كيفو، خالد الجرماني، فواز باقر، غني ميرزو، لينا شاماميان) والتقينا ببعض مسؤولي التراث اللامادي في (يونسكو). وقد خرجت مجموعة من التوصيات، وفي مقدمها ضرورة التعريف بهذا التراث كخطوة أولى نحو توثيقه وحفظه. ثمّ تمّ تكليفي بهذا العمل البحثي، وأنا بالمناسبة لست موسيقيًا، لكن لا ضير في ذلك فالكتاب هو بحث في الأنثروبولوجيا الثقافية، أي هو بحث (عن) الموسيقا وليس (في) الموسيقا.
أمّا الدوافع لإنجازه، فإضافة إلى شغفي بالتراث الثقافي في سورية كما ذكرت، يمكنني القول إنها قناعتي بأنّ النظام التعليمي السوري قد فرّغ المؤسسة التعليمية من الاهتمام بالتراث الثقافي السوري بشكل عامّ، وبتراث بعض المكوّنات الثقافية السورية بشكل خاصّ، وقد أردت التذكير بهذا التراث وبغناه من خلال وجه من أوجهه العديدة، وبأنّ الثقافة السورية بتنوّعها وتكاملها يمكن أن تكون أرضية مناسبة لبناء تماسك اجتماعي فقدته سورية بفعل سوء إدارة التنوّع أولًا، وبفعل الحرب ثانيًا.
جوابًا على سؤالك عن أعمال جديدة، أقول هناك كتاب سيصدر خلال أسابيع أو أيام قليلة عن (المعهد الفرنسي للشرق الأدنى) بعنوان «الجسد في رواية الحرب السورية»، أدرس فيه كيف يتمثّل الجسد في ست عشرة رواية سورية صدرت في السنوات الماضية.
وهناك مشاريع أخرى أعمل عليها، لكن إنجازها مرتبط بالوقت وبالظروف الاستثنائية التي أعيشها على المستوى الشخصي.
– تعمل منذ سنوات عدة على “خارطة ثقافية” لسورية، ما أهمّية وخاصيّات هذه الخارطة، وإلى أين وصلت بمشروعك هذا حتّى الآن؟ وما الذي يميّزه ومن يدعمه؟
= يمكن تعريف الخارطة الثقافية بشكل عامّ بأنها أداة عملية ومعرفية توضع بمشاركة المجتمع المحلي، لتحسين شروط حياة الناس في أماكن وجودهم، اعتمادًا على مواردهم الثقافية.
لا بدّ من التنويه هنا إلى أنّ كلمة “الثقافة” المقصودة هنا لا تنحصر دلالتها في المجال الضيق الذي يتمّ تداولها به عادة بين الناس وفي الخطابين السياسي والإعلامي، والذي يشير إلى الإبداعات التي ينتجها أشخاص ذوو خبرة في هذا المجال، إنما يتّسع مجال الدلالة هنا ليشمل مجموع العلامات المميزة الروحية والمادية والعاطفية والفكرية التي تميز مجتمعًا بعينه أو جماعة. وهي تتضمن الفنون والآداب وطرائق العيش والحقوق الأساسية للناس، والنظم القيمية، والتقاليد والمعتقدات.
تتشكل عملية بناء الخارطة الثقافية من ثلاث مراحل متدرجة: التوثيق والتحليل والتفعيل. يجري في مرحلة التوثيق تحديد الموارد الثقافية الموجودة في المنطقة المدروسة، وهي عملية طويلة تتطلب أشكالًا مختلفة من التدخلات مثل: اللقاءات الجماعية مع المجموعات المدنية والثقافية الفاعلة في المنطقة، واللقاءات الفردية مع شخصيات مفتاحية، والمسح العامّ (الاستبانات)، إضافة إلى دراسات الباحثين المتخصصين ومراجعة الوثائق الإدارية. في هذه المرحلة يتمّ حصر الموارد الثقافية في المنطقة بأنواعها الثلاث: المادي الثابت، والمادي المنقول، واللامادي، إضافة إلى الموارد الطبيعية.
أمّا في مرحلة التحليل فتتمّ دراسة أهمية كل مورد على حدة، ومعرفة الشبكات المجتمعية المرتبطة به، ووضع الخطط الأمثل للاستفادة منه. ويمكن لهذه الاستفادة أن تكون على ثلاثة صُعد على الأقل: الصعيد الثقافي الذي يكتفي بوضع أدلة وخرائط تعريفية بموارد المنطقة المدروسة، يمكن أن تعزز المعرفة بالمنطقة وتقوّي شعور الانتماء لدى أهلها، والصعيد التنموي الذي يتحدّد بوضع مشاريع تنموية اعتمادًا على قوة المورد المحدّد وعلى أهميته لدى المجتمع المحلي، والصعيد الاجتماعي الذي يتمّ فيه وضع الخطط لتشكيل شبكات السلم الأهلي انطلاقًا من الموارد الثقافية المشتركة بين المجموعات المتنازعة.
بدأت في خريف 2007، بُعيد استقالتي من “احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية” (اعتراضًا على سياسة إدارة هذه الاحتفالية)، بالتخطيط لمشروع خارطة ثقافية لعدد من المناطق في سورية، كنموذج يُبنى عليه لاحقًا لوضع خارطة كاملة، وقدمته لمشروع “روافد” في (الأمانة السورية للتنمية) ووافقوا على تمويل البحث في منطقة وادي النصارى. أنجزت الدراسة بداية 2010، لكنها أُهملت في الأدراج، وقيل لي، بشكل غير رسمي، إن محافظ حمص صاحب مشروع “حلم حمص” التخريبي قد ضغط لإجهاض المشروع.
بعد ذلك ساهمت في عدد كبير من الورشات التدريبية، في السويداء وتدمر ودمشق وطرطوس وبيروت، لتعريف الشباب بمفهوم الثقافة المحلية وكيف يتمّ اكتشاف الموارد، وأعطيت محاضرات عدة في الموضوع، وكانت هناك نواة للعمل على البدء بتنفيذ مشروع الخارطة مع “برنامج الصون العاجل للتراث الثقافي السوري” مع منظمة (يونسكو)، لكن البرنامج بكامله أُجهض بضغط من السلطات السورية، وبسبب مواقف المديرة الجديدة للمنظمة الدولية.
حاليًا تقوم مؤسسة (اتجاهات – ثقافة مستقلّة)، وهي مؤسسة مدنيّة سورية تؤدي عملًا بالغ الأهمية في الحقل الثقافي السوري، بتنفيذ مشروع تعريفي بالخارطة الثقافية السورية، وأقدّم لها خبرتي في الموضوع. عدا ذلك، يبدو أن الجهات المموّلة للبرامج المدنية في سورية لا تجد الوقت الحالي ملائمًا للعمل في الثقافة، وهذا واحد من الأخطاء العديدة التي ترتكبها هذه الجهات.
– ما السبيل لحماية التراث الثقافي والفني السوري عامّة، وصونه من الخراب والدمار الذي طال كل شيء في سورية؟
= ربما علينا أن نعدل جملتك قليلا لنقول: “لصونه من المزيد من الخراب والدمار” لأنّ الخراب والدمار قد وقعا إلى حد بعيد. لقد نبهت الانتهاكات التي لحقت بالإرث الثقافي السوري خلال العشرية الأخيرة إلى أهمية التحرك لوقف التخريب النهائي لشواهد التاريخ الزاخر بالفن والمعرفة والجمال. لكن لا يجوز لهذه الانتهاكات، على خطورتها، أن تنسينا أنها ليست وليدة اليوم. فالتراث السوري يتعرض لسلسلة من الانتهاكات، تبدأ بظاهرة اللصوصية العالمية التي أصابت كل المواقع التاريخية في المنطقة، وهي لم تشمل لصوصية عصابات تجار الأثار فحسب، بل شملت أيضًا لصوصية سلطات وطنية أو من يحتمون بظلّها. نذكر نحن السوريين أسماء المسؤولين الكبار الذين استفادوا من سلطاتهم العسكرية والمدنية لتهريب الآثار التي لا تقدر بثمن، إلى خارج البلاد في سنوات الثمانينات والتسعينات، وفي بدايات هذا القرن. وتستمر الانتهاكات بتراجع الدولة أمام مخططات التنمية السياحية الفاشلة، التي ساهمت في تخريب مواقع بالغة الأهمية (تدمر مثلًا) لحساب بناء سياحة معولمة، لا همّ لها سوى جني المزيد من الأرباح. وجاءت الحرب وما حملته معها من قوى ظلامية غارقة في ثقافة متحجرة، لا ترى من الحضارة والثقافة إلا الجانب الذي يلائم معتقداتها، فقامت بتخريب المتاحف وهدم الآثار.
إلى جانب هذه الانتهاكات المتتابعة للتراث الثقافي المادي، بشقيه الثابت والمنقول، يجب علينا القول إن التخريب قد لحق أيضا التراث الثقافي اللامادي. وربما تمثّلت أولى عمليات التخريب بـ “فلكرة” folklorisation هذا التراث، أي تحويله من تراث ثقافي لمجموعات ثقافية محددة إلى “عرض فني” مسلوب الروح والخصوصية. وهذا ما يحدث عندما تدير الدولة هذا التراث إدارةً فوقية، وتخنقه في حاضنته الأصلية، فيتلاشى ويموت شيئًا فشيئًا. وأوضح مثال على ذلك “رقصة السماح” التي لم يعد ثمّة من يذكرها في سورية. وهو ما يحدث أيضًا عندما تطغى فكرة الربح التجاري على فكرة الخصوصية الثقافية، فترى “رقصة المولوية”، على سبيل المثال لا الحصر، تنتقل من أمكنتها الأصيلة (الزوايا والمساجد) إلى المطاعم والمقاهي.
وتبقى الحرب أخطر تهديد للتراث اللامادي، لأنها بما تحمله من خراب للأماكن، ومن قتل وتهجير للناس حفظة التراث، تؤدي إلى تخريب الحاضنات الاجتماعية. والتراث اللامادي لا يعيش لا في المواقع الأثرية ولا في المتاحف، إنما في المجتمع وفي صدور أصحابه، فإن تخرّب المجتمع وتشرّد أو قُتل أهله تبدد التراث اللامادي وتخرب هو الآخر.
تُظهر دراسة في مخيمات اللاجئين في لبنان مثلًا أنّ الأطفال لا يعرفون أيًّا من الألعاب الجمعية التي كانت تلعبها الأجيال السابقة لجيلهم.
انطلاقًا من هذه الملاحظات يمكن القول إنّ صون التراث السوري يتطلب بشكل أساسي إيقاف الحرب، والسماح للناس بالعودة إلى الأماكن التي نشؤوا فيها وتعاملوا مع فضائها، ليستطيعوا إعادة بناء مجتمعاتهم الحاضنة لتراثهم الثقافي.
بالتوازي مع العمل الحثيث لإيقاف الحرب، وهذا ما لن يتحقق في وقت قريب على ما يظهر، لا بدّ من العمل على حفظ التراث المادي واللامادي. وهنا لا بدّ من التنويه بالعمل المشرّف الذي قامت به (المديرية العامّة للآثار والمتاحف) في دمشق بالتعاون مع (يونسكو) لحفظ ما يمكن من مقتنيات (المتحف الوطني) في دمشق وغيرها، وكذلك بعمل الباحثين الآثاريين المستقلّين الذين أطلقوا مبادرات عديدة لمتابعة الآثار المسروقة، ولحماية ما يمكن حمايته من تراث مهدد.
يجب على العاملين في قضايا الثقافة والتراث أن يبادروا إلى إطلاق مبادرات مدنية تضطلع بمسؤولية صون التراث اللامادي بمشاركة الناس، خصوصًا في أماكن اللجوء حيث تصبح المجتمعات أكثر هشاشة وتفككًا.
– إلى أيّ مدى تلمس جدية قوى المعارضة السورية ومؤسساتها في المراهنة على حقل الثقافة؟
= في الواقع لا أستطيع تلمّس الجدية في مراهنة قوى المعارضة السياسية على حقل الثقافة، لأنني، في الأصل، لا أرى أيّ وجود لهذا الحقل في توجهاتها.
أنا لست منخرطًا في أيّ جماعة من المعارضة السياسية، لكنني كنت مدة طويلة لا أمتنع عن حضور لقاءات لمعارضين مستقلّين أو منخرطين في جماعاتهم، وكنت في كل لقاء أقتنص الفرصة للكلام عن الثقافة وأهميتها في بناء سورية، وكنت أتحقق في كل مرة من أنني كمن يصرخ في وادٍ، لذا آثرت الابتعاد عن هذا النوع من اللقاءات، والتوقف عن التعويل على الجماعات السياسية. هذا في ما يخص المعارضة السياسية، أمّا في مجال المعارضة المدنية، أو بشكل أكثر دقة مجال الناشطية المدنية، فهناك اتجاهان في التعامل مع الثقافة. الاتجاه الأول هو ما تمارسه المبادرات والمنظمات الحربائية، وهي تنظيمات مناسباتية مصلحية، تنشط في الحقل الذي يتوجّه صوبه الممولون ويحجزون له بعض مخصصات الدعم. فتراها تعمل اليوم على أرشفة الحكايات لتنتقل غدًا إلى الرقابة على الانتخابات، وبعد غدٍ إلى زراعة البطاطا، في تطبيق واضح لما أسميته أعلاه بـ “الأنجزة”.
أمّا الاتجاه الثاني فهو التنظيمات التي أوضحت منذ بداية تأسيسها حقل تدخلها، وعملت ضمن هذا الحقل حتى لو تعذر التمويل. التنظيمات العاملة في هذا الاتجاه يمكن المراهنة على تدخلها في حقل الثقافة وهي تقوم بعمل عظيم.
– أخيرًا، كيف تصف الثقافة السورية في اللحظة الراهنة؟ وما هي التغييرات التي لمستها في العشرية الأخيرة (عشرية الثورة)؟
= ثقافة بلد ما مرَكّب عضوي حيّ دائم التفكك والتشكل، وبخاصّة إذا كان هذا البلد موئلًا لعدد كبير من المكونات الثقافية المتباينة. وتتعاظم حركية الثقافة هذه طردًا مع الخَضّات التي يعرفها البلد في داخله، أو تصيبه من خارجه. فلا بدّ للثقافة السورية من أن تتزلزل بفعل الكارثة التي ما تزال تضرب البلد منذ عشر سنوات. وعلى ذلك يمكنني أن أقول: إنّ الصفة الأساسية للثقافة السورية اليوم هي أنها ثقافة موّارة، لا تكفّ عن التحرك والاضطراب محدِثةً الكثير من التغيرات التي تبدو متناقضة بعض الأحيان.
أعتقد أن أبرز التغيرات التي أصابت الثقافة في هذه المرحلة هي:
– تضخم ثقافة الانتماء إلى المكوّنات الثقافية الأولية، وهي الثقافة التي تأخذ شكل العنصرية (على الصعيد الإثني/ القومي)، والطائفية (على الصعيد الإيماني)، والذكورية (على الصعيد الجنسي)، والإقليمية (على الصعيد الجهوي). وهذه الظاهرة تكاد أن تكون عامّة في كل المجتمعات التي تضعف فيها الدولة ومؤسساتها، ويفقد المواطنون مشاعر الأمن والحماية التي كان من المفروض على تلك المؤسسات تأمينها، فيلجؤون إلى جماعاتهم التي يشعرون بالدفء والأمان والحماية في كنفها: العائلة، العشيرة، القبيلة، الطائفة، المذهب… هذا ما نلحظه مثلًا في تعاظم الخطاب الطائفي، وفي استخدام القراءة الطائفية لتفسير أيّ حدث، أيًّا كان حجمه أو أهميته. وهذا ما نراه أيضًا في تقدّم الخطاب العشائري كمرجعية يستند إليها في البحث عن حلول سياسية للوضع القائم. وهذا ما نراه أيضًا في تزايد العنف الممارس على المرأة بفعل الثقافة الذكورية المنفلتة من قيود الرقابة القانونية والأمنية.
– على المقلب الآخر نرى ترسخًا لثقافات معارِضة يحملها مواطنون ومواطنات تحسسوا خطر ثقافة الانتماء إلى المكوّنات الطبيعية فرفعوا التحدي وانخرطوا في أشكال مختلفة من الناشطية الثقافية المدنية الوطنية. يتجلى ذلك في الالتفاف الكبير، وخصوصًا لدى الشباب، حول كل ما له علاقة بالمواطنة، وبالدفاع عن حقوق الإنسان بشكل عامّ، وحقوق المرأة بشكل خاصّ.
– من التغيرات المهمة أيضًا ظهور بعض الثقافات التي لم تكن لها الفرصة للعيش، لكنها ظهرت مع انبثاق الحاجة إليها، مثل ثقافة التطوّع لمساعدة المتضررين.
– إنّ أهم تغيير على الإطلاق نلقاه في الإبداع الحر الذي شمل كل أنواع الإنتاج الثقافي، وكأن ماردًا قد انعتق من سجن قمقمه، وإنّ ما رأيناه من غزارة في إنتاج جميع أجناس الفنون والآداب، ومن براعة في إنتاجها وقد حازت على إعجاب المحافل الثقافية في العالم، لدليل حيّ على أنّ الأرض السورية ولاّدة للإبداع، وأنه مهما تكثّفت ظلال الموت فوق قلوب الناس وعقولهم لا يمكنها أن تطفئ جذوة الخلق المتوقدة للثقافة السورية.
* صحافي سوري – فلسطيني
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.