الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الاختيار الثوري في المغرب (1/7)

المهدي بن بركة *

( الحرية أولاً ) ينشر على حلقاتً كتاب «الاختيار الثوري في المغرب» للشهيد ’’المهدي بن بركة‘‘.. وهذه الحلقة الأولى

    تقديم:

إن هذا التقرير الذي يذاع اليوم لأول مرة، كُتب منذ ثلاث سنوات، وأن الحوادث الدامية التي كان المغرب مسرحاً لها في آذار/ مارس 1965، وما تلاها من تطورات سياسية، كانت هي الدافع الى نشرهِ، كمحـاولة للإجابة على بعض التساؤلات التي ترددت إثر هذه الحوادث حول الاختيارات التي توضع أمامها منظمتنا “ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ”.

لقد كنا في شهر أيار/ ماي ١٩٦٢- عندما قدمتُ هذا التقرير للكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية- على وشك عقد المؤتمر الثاني للحزب، وكنت- بعد عودتي من إقامة اضطرارية في الخارج- أرى من الواجب أن أبدي لرفاقي خلاصة نقد ذاتي للمراحل التي قطعتّها حركتنا من قبل، مع بعض الخطوط الرئيسية لمهامنا في المستقبل.

إن أية حركة سياسية تطمح في أن تكون حركة ثورية، لا يمكنها أن تعيش وتنمو، إذا هي لم تقم من حين لآخر بتحليل شامل وديناميكي للمجتمع الذي تعمل فيه، حتى تستطيع أن تقرر خطتها على أسس علمية، وأن تتنبأ إلى حدٍ بعيد بأحداث المستقبل. وقد كنا في حاجة إلى مثل هذا التحليل ليس فقط لمناسبة شكلية هي انعقاد المؤتمر، ولكن على الأخص لأتنا كنا على أبواب تحول كبير من سير حركتنا التحريرية.

والواقع أن مثل هذا التحليل هو ما يُطالب به مناضلو الحزب عندما يُلحون على قادته بالإفصاح عن “ برنامج ”. وليس معنى البرنامج هنا هو مجموعـة التدابير التي يلتزم الحزب باتخاذها عندما يصل إلى الحكم، بل هو الخط السياسي الذي يوضح معارك الماضي وما انطوت عليه من النصر والفشل، ويرسم ملامح المستقبل.

لقد كانت تعترضني وأنا أكتب هذا التقرير عدة أسئلة، حرصتُ على الإجابة عليها، فكنت أتساءل: “ كيف يمكننا أن نُعدُ مناضلي الحزب لمعارك المستقبل إذا لم نمكنهم من فهم التيارات التي وجهت الأحداث المعاصرة في بلادنا، وإذا لم نشرح لهم المعنى الحقيقي للاستقلال، والظروف التي تحقق فيها، والأخطاء التي جعلت الحركة التحريرية تُحرم من مكاسب نضالها؟ كيف نجعلهم يفهمون التردد الذي طُبعت به خطواتنا الأولى بعد إعلان الاستقلال، اذا لم نكشف لهم النقاب عن المعارك المريرة التي كنا نخوضها لتحقيق أتفه الإصلاحات في الحكومات التي كنا نساهم فيها؟ ” وقد اقتنعتُ بأن الحرض الموضوعي لأخطائنا ونقصنا في الماضي هو السبيل الوحيد لإعدادهم لمعارك المستقبل .

ولم يكن من المتيسر في حدود هذا التقرير أن أقوم بتحليل نقدي شامل لحركة التحرير الوطني في المغرب، ولا بعرض دقيق لنشاط الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال، لكن كان من المهم- بالنسبة للغرض من التقرير- الاعتماد على بعض الوقائع أو الأحداث الخاصة لإلقاء بعض الضوء، مثلاً على موقفنا من نقطة تحول هامة في تاريخنا مثل تسوية “ اكس ليبان ” ( Aix – Les – Bains ) أو لشرح الأسباب الموضوعية والذاتية التي جعلت القيادة السياسية تفلت من أيدينا، بينما كنا الأغلبية الساحقة في البلاد، حتى نستخلص من كل ذلك العبرة لسلوكنا في المستقبل.

*    *    *

ولو بعد مرور ثلاث سنوت، فإنني ما زلت أعتبر أن عناصر هذا التقرير ما تزال مسايرة لتطور الأحداث في المغرب وإفريقيا، كما أن الصورة التي ترسمها هذه العناصر لمهامنا الأساسية ولاختياراتنا الثورية، ما تزال تستجيب للأوضاع الراهنة في بلادنا. وقد كنا في إطار هذا الاختيار الثوري قد وضعنا أسس برنامج أدنى لمهامنا المستعجلة، بالنسبة لظروف سنة ١٩٦٢، عندما كان القصر الملكي يستعد لأن “ يمنح ” البلاد دستوره الرجعي المصنوع في مخابر الاستعمار الجديد. وكنا إذ ذاك نفكر في احتمال الوصول إلى تسوية مع القصر لحماية البلاد من مزيد من الانزلاق نحو هاوية الإفلاس والتفسخ. وفعلاً فقد قرر المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية إعطاء الصلاحيات لأجهزة الاتحاد المختصة، لكي تعمل على إخراج البلاد من المأزق الذي زجها فيه الحكم الملكي المطلق. ولكن بقيت محاولتنا دون جواب.

فلقد كان القصر يعتقد أنه يستطيع إنقاد نفسه بسلوك سياسة ديماغوجية رخيصة، في جو من الحفلات المتواصلة، ووسط ضجيج الدعاية لمشاريع خيالية تموت قبل ولادتها. وكانت البورجوازية التجارية الممثلة في حزب الاستقلال تمنيّ نفسها بأحلام الحصول على منافع من وراء السياسة الاقتصادية الليبرالية. وكانت بعض قطاعات الفلاحين تخدرها مشاريع الإنعاش الوطني التي لم تكن سوى شكل من أشكال أوراش البر والإحسان. وكان المد الرجعي يكتسح القارة الإفريقية، بينما كانت القوى التقدمية تواجه مصاعب محلية، في الجزائر إثر اتفاقية إفيان، وفي الجمهورية العربية المتحدة بعد الانفصال الرجعي في سوريا. كل ذلك جعل المسؤولين على الحكم في المغرب يعتقدون بصلاحية حلول الجمود والتصلب الرجعي. وكان تفاؤل القصر يُنسيه بأن الأوضاع في البلاد النامية هي أساساً أوضاع متقلبة وديناميكية.

وها هو اليوم يواجه حالة جديدة. فإن مشاريع الحكومة قد انتابها الفشل، وسياسة التصلب الرجعي قد أفلست، والمسؤولون لا يزالون في ضلالهم ينسبون هذا الفشل لشتى الأسباب، ما عدا السبب الحقيقي الذي هو انقطاعهم عن الشعب انقطاعاً ظل يستفحلُ مع الأيام.

فقد فشل مشروع الإنعاش الوطني لأنه لم يعتمد قط على المساهمة الفعلية لجماهير الفلاحين.

وقد فشلت السياسة الاقتصادية لأنها كانت تعمل فقط على إرضاء مصالح الاستعمار الجديد، ومصالح دولة الامتيازات والاستغلال.

وفشلت التجربة الدستورية لأنها فرضت على الشعب، في كانون الأول/ دجنبر ١٩٦٢ أسلوب حكم جائر يقوم على احتقار مطامح الشعب، ويبيح لنفسه كل أساليب التلاعب والتزوير لمسخ تمثيل الإرادة الوطنية.

*    *    *

نعم ، لقد اعترف خطاب العرش يوم 3 آذار/ مارس 1965 بهذا الفشل، ولكنه لم يستخلص منه النتيجة المطلوبة، بل ذهب يبحث عن أسبابه في تعاقب الفصول وطباع البشر. ووقع الانفجار الشعبي يوم ۲۳ آذار/ مارس 1965 فاضطر الحسن الثاني للاعتراف بخطورة الحالة وتوقيف دولة الديموقراطية المُزيفة دون أن تكون لديه الصراحة الكافية لتشخيص سبب الداء.

فلأن سلوك المسؤولين تجاوز حدود الوقاحة، اضطر الشعب في كُبريات المدن وخاصة في الدار البيضاء أن ينزل إلى للشارع، ويدين النظام ويكتب بدمائه حكمه عليه بالعجز والإفلاس.

فعندما تصبح الانتخابات مزورة، وحريات الاجتماع معدومة، والصحافة مكممة، والمخلصون المعبرون عن مطامح الشعب مطاردين ومحكوماً عليهم بالإعدام أو السجن، أو مفقودين بالمرة، فكيف يجوز لرئيس الدولة أن يستغرب من التجاء الشعب للوسائل المباشرة ليُسمع صوته؟ وعندما تغدو الدولة والإدارة شيئاً فشيئاً ملكاً لأقلية من ذوي الامتيازات، ويتضاءل عدد هؤلاء المحظوظين تبعاً لتدهور الحالة الاقتصادية في البلاد، فكيف يُستغرب من انفجار غضب الشعب ضد هذه الامتيازات؟ وعندما تجد الأغلبية الساحقة من الشعب نفسها محكوماً عليها بالبؤس والجهل، ثم تُقفل في وجهها أبواب الأمل فكيف يُستغرب أن يتخذ القلق وجه اليأس والحقد؟

أما المسؤولية المباشرة؟ فينبغي البحث عنها عند أولئك الذين تسلطوا على الحكم منذ سنة 1960. لقد أرغموا الشعب على التصفيق بوسائل القسر أو بإغراء البائسين، وجعلوا من هذه التصفيقات أساساً للحم. لكن الحقيقة تنتقم من التزوير، والحقيقة قد انكشفت فجأة للعيان.

إن سياسة تخدم مصالح أقلية من المحظوظين، لا يمكنها أن تدوم في عصر الديموقراطية والاشتراكية، إن حقيقتها لا تلبث أن تنكشف خلال سياسة التعليم مثلاً التي كانت هي الشرارة لانفجار آذار/ مارس 65. فالديموقراطية لا يمكن أن تكون يافطة أو واجهة تُعرض للسياح، بل يجب أن تكون حقيقة تفتح في وجه الجميع حظوظ التقدم والثقافة، وهي تستلزم نظاماً للمجتمع يقوم على تغيير جذري لأسس بنائه، لا مجرد تعديل دستوري يُفرض من أعلى، وفي غيبةٍ من الممثلين الحقيقيين للشعب.

منذ سنة ١٩٦٢ انعزل الحكم شيئاً فشيئاً عن الشعب، بعد عمليات القمع المتوالية حتى تضاءلت قاعدته الاجتماعية، فأصبح قائماً على أقلية إقطاعية تتمثل في الإدارة المحلية، وفي الأغلبية البرلمانية المزوَرة الفاشلة، وتحكم البلاد عن طريق أجهزة المخابرات البوليسية والعسكرية المسيطرة على سائر مرافق الحياة. على أن السند الفعلي للنظام يأتي من الخارج، من القوى الإمبريالية والاستعمارية الجديدة التي نجحت في دفع الحكم القائم لان يتخلى في الداخل حتى عن البورجوازية التجارية، ليصطدم في الخارج مع البلاد الشقيقة المجاورة، وليقف في المحافل الدولية مواقف التخاذل الانتهازية.

*    *    *

على أن التجربة أثبتت في بعض البلاد المناهضة للاستعمار مثل الجزائر والجمهورية العربية المتحدة، أن الخط التقدمي والأسلوب غير الرأسمالي هما السبيلان لإنقاذ البلاد من التخلفِ والجمود، وأن بناء الاشتراكية فوق ذلك يتعارض مع إقامة علاقات التعاون والتبادل المتكافئين مع البلاد الرأسمالية المتقدمة. وهكذا فإن الظروف الراهنة هي في صالح قوى التقدم داخل المغرب وخارجه، وهي تفتح أمامنا آفاقا جديدة رغم الامتحان العسير الذي مَرَّ به حزبنا منذ سنة ١٩٦٢. فما هو الحل الذي نراد صالحاً في الظروف الراهنة؟. سوف يجد القارئ في تقرير سنة ١٩٦٢ الشروط التي كنا نعتبرها ضرورية في إذ ذاك لتسوية ممكنة مع القصر، على أساس تحقيق ديموقراطية سليمة، وتطبيق إصلاح زراعي جذري، والسهر على سياسة تضامن كلي مع النظم الثورية في البلاد العربية والإفريقية. وأن هذه الشروط- التي هي بمثابة التزامات- يجب أن يُراقَب احترامها كل يوم ما تزال قائمة في الوقت الراهن، رغم أن الظروف التي ستنطلق منها قد زادت تدهوراً بعد ثلاث سنوات من الأخطاء والتلاعب في الميادين السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن التعهد بتطبيق اصلاح زراعي جذري، نعتبره السبيل الوحيد لإضعاف الرجعية الإقطاعية، وحرمانها من وسائل نفوذها على أجهزة الدولة المركزية والمحلية. وسيُمكننا ذلك أيضاً من تسوية علاقاتنا بصفة نهائية مع الدولتين الحاميتين سابقاً، اللتين ما زال مواطنوهما يحتلون نحو المليون هكتار من أخصب الاراضي المغربية. وليست هذه المسألة مجرد بند من برنامج عمل حكومي- لا يجرؤ أحد اليوم على إنكار ضرورة ادراجه- ولكن هذا الاصلاح الزراعي يتطلب في الواقع جملة من التدابير الاقتصادية والسياسية والادارية والدستورية التي يتعين السهر على إنجازها.

وكذلك الامر فيما يرجع لتحقيق الديمقراطية في الحياة العامة، فمعناها بالنسبة إلينا هو البحث عن الذين يُمسكون بأيديهم حقيقة السلطة السياسية من أجل إخضاعهم للإرادة الشعبية، أي أنها لا تعني مجرد المبادرة بانتخابات تبقي السلطة بيد القابضين عليها خلف واجهة برلمانية شكلية. إن تحقيق الديموقراطية يستلزم سلسلة من التدابير الجذرية، ومن ضمنها إصلاح المجالس القروية والبلدية الذي يجب أن يبدأ من القاعدة، ويقوم على أساس احترام الإرادة الشعبية.

أما التضامن الفعلي المُخلص مع النظم العربية والإفريقية التقدمية والمناهضة للاستعمار، فإن شيئاً منه لن يتحقق ما لم ينقطع “ السُّـر ” الذي ما زال يربط ما بين بلادنا وبين الاستعمار الجديد، وما لم يوضع حدّ لتأثير هذا الاستعمار الجديد على أجهزة الدولة في بلادنا.

تلك هي الخطوط الرئيسية لمحتوى الحل الانتقالي الذي لن يكون إلا مرحلة في برنامجنا السياسي، وأن هدفنا الاقصى لا يمكن أن يكون إلا بناء المجتمع الاشتراكي في المغرب.

*    *    *

بقي عليَّ أن أقول كلمة حول الشروط التي يجب أن تتحقق داخل الحزب لضمان النجاح في هذه المرحلة من مسيرتنا الثورية، إنها نفس الشروط التي تعرضتُ لها في تقرير سنة ١٩٦٢، والتي زادت من أهميتها حوادث القمع منذ سنة 1963. لقد أصبحنا نؤمن أكثر من أي وقت مضى بضرورة تعميق التكوين الايديولوجي للمناضلين، وتقوية النظام الداخلي للحزب حتى نجعل من “ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ” أداة ثورية حقيقية.

وهنا يجب أن أسجل الدور الذي سوف يلعبه الطلبة في معركة التحرير والبناء، سواءً بوصفهم مناضلين في الحزب، أو ضمن منظمتهم الجماهيرية “ الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ”. وإذا كان هذا الدور قد ظهر بجلاء بمناسبة حوادث آذار/ مارس 1965 الدامية، فقد برز من قبل طيلة ست سنوات من خلال المعارك الطلابية، وعن طريق قرارات مؤتمراتهم السنوية. بقي الطلبة وحدهم في الميدان بعد قمع تموز/ يوليو 1963 مُتَحَديِّن قوات القمع البوليسية، ومُتعهدين لنضالية الجماهير الكادحة.

إننا اليوم واعــون أكثر من أي وقت مضى لمسؤولياتنا التاريخية، بعد أن التحمت في الشوارع جماهير الأبناء والآباء للتعبير عن شعارات حزبنا، مُضحين بأرواحهم “ الزكية ” البريئة. وأن هذه المسؤوليات لتتطلب منا وضوح الرؤيا لآفاقنا البعيدة والقريبة، وتماسكاً في حزبنا يصمد أمام التحديات التي سوف تواجهنا. وفوق كل ذلك تتطلب منا يقظة تجاه العناصر الانتهازية التي تكون قد اندست في صفوفنا، والتي كشفتها حوادث سنة ١٩٦٣.

علينا ألا نستهين بجسامة المهام التي تنتظرنا لإنجاز عمل جبار في تربية الجماهير وتنظيمها، فإن الطاقات الثورية الكامنة في شعبنا ما تزال في حاجة لكي تتحول إلى قوى فعالة، تستطيع أن تمحو بقايا رواسب السيطرة الاستعمارية ومظاهر الاستغلال في بلادنا، وأن تتجند لبناء مجتمع جديد، وفق اختياراتنا الثورية.

والأهم هو أن نستعد كما يلزم حتى نستطيع مواجهة كل الظروف المقبلة.

تموز/ يوليو ١٩٦٥                              المهدي بن بركة

……………………..

يتبع.. الحلقة (2/7)تقرير للسكرتارية العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمناسبة المؤتمر الثاني (أيار/ ماي 1962)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مناضل وسياسي مغربي، وقومي عربي، كان قبل اختطافه واغتياله عام 1965 قائداً للمعارضة المغربية ومدافعاً عن قضايا الحرية والسلام في العالم.

التعليقات مغلقة.