موفق نيربية *
ما زال من اللافت رؤية العالم كله يتوقف في انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية، وكيف لا يكتفي المرء بالتوقف عندها مرة واحدة. فالكثير من المشاكل واتجاه حلّها أو استفحالها، أو على الأقلّ طريقة متابعتها اللاحقة، كلّه يتعلق بتلك النتائج وما تسفر عنه. ومن سوء الحظ أن تكون تلك الانتخابات صعبة التوقّع، خصوصاً بعد أن ضرب فوز دونالد ترامب في فترته الرئاسية الأولى، كلّ توقعات الخبراء واستطلاعات الرأي.
لا يقلّل من تلك المفاجأة ما قيل فيما بعد عن تركّز قسم من ناخبيه بين فئات تكون عادة في منطقة الظلّ في الاستطلاعات والدراسات. ومنذ عدة أحقابٍ مرت على منطقتنا، كان لدى العرب – معظمهم- ميلٌ شديدٌ للمرشحين الجمهوريين في الانتخابات الأمريكية، لاعتبارات على علاقة بإسرائيل والنفط ويهود الولايات المتحدة، الأكثر ميلاً إلى الحزب الديمقراطي عموماً، وعلى علاقة خصوصاً بطريقة ترجمتنا لقضيتنا العربية أو الفلسطينية. ولكن الكثير من المياه قد مرّت منذ ذلك الزمن الراكد، وأصبحت لدينا قضايا كبيرة متركزة على الاستبداد والتغيير، استهلكت بلاداً ودماء وربما شعوباً، وغيّرت المعايير أيضاً. لذلك، ننتظر أيضاً ولو ببعض الملل والتململ، نتائج الانتخابات تلك.. على الأقل من خلال متابعة السياسات الخارجية في برامج ومفاهيم الطرفين، إضافة إلى حوليات المواقف وتحولاتها حتى الآن، واحتمالاتها فيما بعد. وبسبب تعقيد مسائلنا حين تجتمع، لا بدّ من الإشارة إلى أن النظرة فيما يلي ستنطلق من الحالة السورية، والحالات التي تشتبك معها بأواصر وروابط شتّى.
السياسة الخارجية هي آخر ما يهم الناخبين الأمريكيين، إلا حين يتعلق الأمر بحرب أو ما يعادلها، وفي ذلك يتفوق ترامب على بايدن بصوته العالي، وبدرجة تحقيقه لتوسيع فرص العمل، بغض النظر عن طريقة ذلك؛ في حين يتفوق بايدن بين الأقليات والمهمشين والمثقفين، وحقل جائحة كورونا التي فشل ترامب في مواجهتها كما ينبغي، مثلاً. رغم ذلك، ينبغي مراجعة الفوارق المهمة في السياسة الخارجية بين الطرفين.
أول تلك الفوارق وأهمها غالباً، في السياسة الصينية، حيث يكمن تحدي المستقبل الأكبر، فقد قبل ترامب التحدي الصيني الصامت، وأوصل تلك العلاقة إلى حافةٍ قريبة من الحرب التجارية المعلنة، التي لا تخفي بعض عناصرها أزمات هنا وهناك، قد تكون مناطق تماسٍّ عنيفة بالتدريج، كما هو الأمر في بحر الصين.
لا يستطيع الصينيون المفاضلة بسهولة بين احتمال نجاح ترامب أو بايدن، رغم تذمّرهم الواضح من سياسة الأول المليئة بالمفاجآت، التي تفضح للعلن سياسات بكين التجارية والصناعية غير التقليدية. ولدى بعض المراقبين شكّ بأن ارتياح الصينيين لعقلانية سياسات بايدن، يخالطه ارتياح آخر لشعبوية ترامب، لما يتيحه من فرص لفرض منافسات في مستوى المقاولات ذاته، تمتلك الصين الكثير من عوامل نجاحها فيها. ويبقى من حيث المبدأ، أن منطق الديمقراطيين أقرب إلى الهدوء والتكتّم، الذي طالما حقق الصينيون نجاحاتهم في ظلّه.
ولا مكان هنا لمعالجة السياسات الخارجية وتبايناتها بين الطرفين في مسائل ككوريا الجنوبية أو أمريكا اللاتينية أو الهجرة، أو حتى كورونا التي استخدمها ترامب في معاركه الخاصة، مع الصينيين خصوصاً أيضاً مع غيرهم. وللمفارقة الحزينة، فإن تجارة الرجل نفسها بالقضية الفلسطينية- الإسرائيلية عن طريق خطته – أو خطة صهره- المرتجلة المسماة إعلاماً ودعايةً بصفقة القرن، لا يمكن أن تُرى خارج سياسته الانتخابية، لمحاولة الالتفاف على عجزه مع الليبراليين اليهود في أمريكا، بإعطاء أقصى ما يستطيع لليمين الإسرائيلي المتطرف، منذ قراراته المتعلقة بالقدس مثلاً.
يهمنا جزء كبير من السياسات الخارجية الأمريكية ومتغيراتها اللاحقة، فيما يخصّ روسيا وإيران وتركيا مثلاً، قبل النظر مباشرة إلى القضية السورية.
ليس هنالك من شكّ إلّا أدناه بأن روسيا بوتين تفضّل نجاح دونالد ترامب لفترة رئاسية ثانية. وطرق استنتاج تلك الحقيقة قد تتباين في افتراضاتها، ولكنها تصل إلى النتيجة ذاتها، فقد كان هنالك تدخّل روسي مثبت في الانتخابات السابقة، قالت دوائر أمن الولايات المتحدة إن هنالك ما يماِثله في هذه الدورة أيضاً. لا يتعلق الأمر هنا بالمسائل الواضحة التي يختلف حولها البلدان، مثل التسلح والصواريخ على الحدود وغير ذلك، بل مسائل مهمة مثل عملية ضمّ جزيرة القرم، التي يميل ترامب إلى تمريرها على عكس بايدن، بل بالقدرة على التفاوض من تحت الطاولة على الطريقة الشعبوية الفظة نفسها، التي تميّز الشخصين المعنيين قبل غيرهما. وعلى العموم، ما زال الديمقراطيون على التقاليد التي ترى في روسيا خصماً رئيساً ينبغي تقليم أظافره.
ربّما يكون هنا بعض المصلحة للسوريين في علاقة ترامب وبوتين، للمساعدة على تخلّي الأخير عن الأسد- كبضاعة إيرانية في خاتمة الأمر- والقبول بمكاسب أخرى تعوض عن ذلك.. هذا إذا اعتبرنا أن رحيل الأسد بؤرة فعلية لمطالب السوريين ومدخلهم إلى التغيير واستعادة بلادهم، بينما قد يختلف الأمر قليلاً إذا رأينا أن أي تسوية قسرية وسوقية- بالمعنيين- قد تسلم تلك البلاد إلى منزلق لا عودة منه. كما يخشى العديد من السوريين أيضاً أن تأخذ قضاياهم وقتاً أطول مع سياسات الديمقراطيين التقليدية، في حين يرى غيرهم الأمان مع التأنّي والخطى المدروسة. وترى الأطراف المذكورة كلّها ما يخدم استنتاجاتها في تنفيذ قانون قيصر ونتائجه ومفاعيله، بخيرها وشرها.
إن تناول الناحية الروسية من السياسة الخارجية الأمريكية بعد الانتخابات، تنجرّ حكماً إلى الناحية الإيرانية، وهذه بالغة الأهمية في انعكاسها على القضية السورية، إضافةً بالطبع إلى انعكاساتها على مسائل في العراق ولبنان واليمن، والخليج، حيث توجد أيادي إيران وأسلحتها وسياساتها الخطرة. وبالنسبة للنظام الإيراني، ليس من شكٍّ أبداً في موقفه المتحفّز جداً ضد إعادة انتخاب ترامب، وربما كان هذا الأمر- للمفارقة- واحداً من أسباب تشجيع العديد من السوريين- والعراقيين واللبنانيين- على انتخاب ترامب. فهو سيمضي قُدماً في تمزيق الاتفاق النووي، وبناء تحالف يواجه إيران بأي وسيلة، يضم إسرائيل مع بعض دول الخليج بشكل مباشر أو غير مباشر. في حين يقول بايدن إنه سيعود إلى الاتفاق النووي بعد مراجعة مدى التزام إيران بواجباتها المحددة فيه، والتأكّد من نواياها وإجراءاتها. يمكن القول هنا إن بايدن أقرب إلى المزاج الأوروبي و»الأطلسي» الذي عانى الكثير مع ترامب وسياساته، بل وإهاناته أحياناً. في طرفٍ آخر بالغ الأهمية للقضية السورية، هنالك ما سينتج عن نتائج الانتخابات من انعكاسات على تركيا وسياساتها الحالية والمستقبلية، حيث يبدو واضحاً غزل ترامب الشخصي وتفاهمه مع إردوغان، على عكس بايدن الأقرب أيضاً هنا إلى الأوروبيين، في ميله إلى كلّ ما ومَن يعارض حكومة إردوغان وسياساته، الأمر الذي جعل المعارضة التركية نفسها تستنكر تصريحاته.. ولا يمكن الحكم بسهولة على الطريقة التي يمكن أن تؤثّر بها نتائج الانتخابات على سياسات الحكومة التركية، فيما يخص المسألة السورية.
تبدو علاقة ترامب هنا أشبه ما يكون إلى علاقته مع بوتين، في حين تبدو عودة الانسجام للعلاقات الأمريكية – الأوروبية مصلحة استراتيجية للعرب وللسوريين لا يمكن تعويضها بسياسات عابرة أو غير مضمونة.. ولعل ذلك يسهم كذلك في مساعدة السياسة التركية على تقليص طيف خياراتها. في سوريا نفسها، تتدهور الأوضاع بتسارع كبير، وخصوصاً تلك الاقتصادية والمعيشية منها، وما يتبع ذلك في المستوى الاجتماعي فالسياسي، وينبغي هنا ملاحظة أن العقوبات الأمريكية على النظام قد صدرت بالإجماع بين الحزبين، وهي لن تتغيّر من ثمّ مع نتائج الانتخابات، الأمر الذي قد يضيف بعض الاطمئنان إلى احتمال نجاح بايدن عند المتشائمين من ذلك، ولا يبدو أن طريق طهران مفتوحٌ بالمقدار السابق نفسه، لا بالسلاح ولا بالمال، وربّما سيكون ذلك أكثر حسماً في تقرير السوريين لمصيرهم، ولو بحصة بسيطة بالمقارنة مع الأدوار الخارجية، التي ابتدأ بعضها بالتأثير إيجابياً مؤخراً، وسيزيد، كما هو الأمر مع تطورات الوضع اللبناني والعراقي.. وأيضاً مع تساؤل ضروري: هل سيمرّ ذلك الطريق بالمزيد من الخراب، والتفتت بغياب من يمثّل السوريين وهيمنة المستهينين بهم، أم يتلمّس هؤلاء مخرجاً أقلّ آلاماً؟
وفيما يخصني شخصياً: كنت منذ زمن طويل وما زلت مع الرأي بأنه لن ينفعنا ما يضر غيرنا، مباشرةً أو بشكل غير مباشر.. والباقي على الله، الذي قال ترامب إن بايدن ضده.
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.