نصري الصايغ *
المرأة في إيران خرجت عن صراط الحجاب. ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة. حصل تسييس جارف، وهذا طبيعي جداً، في زمن انعدام الحوار، وصَمَم الأنظمة عن فهم معضلة المرأة. حيث المرأة الفاضلة، هي الملتزمة، طوعاً أو قسراً، بارتداء الحجاب. وللحجاب في التاريخ البشري روايات وحكايات وظلمات. فالمرأة، هذا المخلوق الرائع، مُطاردة من قبل مؤسسات ذكورية مزمنة، ومدانة من ولادتها إلى نهايتها.
أولاً؛ تأثيم النساء في المسيحية:
نُخلي الكلام هنا عن “فتنة الحجاب”، في إيران. نعود إليها في ما بعد. نطرح المشكلة من أساسها: ما هو موقع المرأة في التاريخ البشري، من زمن الأساطير والديانات والفلسفات والـ.. حتى اليوم. إن الرجل بالغ في تحكمه وتسلطه. هو صاحب الأمرة، والمرأة أَمَة تطيع.
حدث منذ عشر سنوات، أن عُقدت في جامعة الكلسليك في لبنان، حلقة نقاش دينية حضرتها الزميلة في “السفير” الدكتورة نهلا الشهال. اعلمتني في اليوم التالي عن جرأة إحداهن في طرح سؤال، لم يطرح من قبل.. نهضت راهبة من بين جموع المؤتمرين، وسألت: “أين هُنَّ رسولات المسيح”؟
ذُهلت، عندما سمعت السؤال. أنا خريج دين ودير وعقائد وأسرار. لم أسمع شيئاً من هذا القبيل من قبل. كنت ماضياً في رسالة الكهنوت. تخلفتُ ونجوتْ. “أين الرسولات”؟ ساد صمت، وتكتمت همهمة. حيرة ولا جواب. خمنتُ أن هناك تعمداً لتناسي دور النساء اللواتي كن يُحطّنَ يسوع، في بشارته ودعوته وجلجلته.. لقد تم حذف المرأة كلياً. المسيحية كانت ذكورية بامتياز، وهي كذلك حتى اللحظة، وهناك مشروع صعب في الكنيسة راهناً، يعيد المرأة إلى نصابها الإنساني.
من ارتكب خطيئة إبعاد المرأة، بحجة أنها الخاطئة منذ ولادتها، وهي أم الخطايا، مذ أكلت من تفاحة الجنس في الجنة؟ آدم وورثته من الذكور.
كان يسوع محاطاً بالنساء. كن يجالسنه. كن يرافقنه في بث رسالته. لم ينظر المسيح إليها كجسد. النسوة. كن كائنات بنصاب إنساني. فلا تمييز البتة بين رجل وإمرأة. ومع ذلك، حذف ورثة المسيح المرأة. رفضوها. اهملوها بل عاقبوها. حطّوا من شأنها. إنها تلوث الطهارة.. وبعد حذفها من شرعية الوجود، تعرضت لمصائر بشعة ومؤلمة ومذلة. صارت تحت أمرة الرجل. لا كينونة لها. إنها رجس وجنس وشيطان، نُفيت من الإنسانية. اعتُبر وجودها عقوبة.
استعادة التاريخ، منذ بداياته الدينية والوثنية و”الالهية”، تظهر أن المشكلة في الرجل. المرأة ليست مشكلة. التاريخ البشري، في معظم تحولاته وتبدلاته وسيلانه، شاهد على أفعال مشينة ودنيئة بحق المرأة. منذ البدايات، ومنذ ما قبل المسيحية وبعدها وإبانها، رُذِلت المرأة. صارت عورة وعيباً. وُئدت حية. أذلت. استبعدت. استعبدت. الحقت، احتقرت. أدينت. حرَمت. ارتكب الرجل بحقها جلجلة من العذاب والمهانة والنبذ. لا يعترف إلا بفرجها. يغزوها ولا يحبها. هي آلة جنس. يرتكب لذته ويتهمها بالشر. كم كان الرجل، وربما لا يزال مُنحطاً.
معركة الحجاب في إيران، محطة سبقتها ساحات ونضالات، ولن تتوقف. فتنة الحجاب مؤلمة ومثيرة. لم يلتئم فيها نصاب الرجال، كي يقرأوا المرأة على ضوء الحاضر الإنساني. لم يكن الأمر كذلك في مطالع عصر النهضة. إنما، وبعد فشل التجربة الديمقراطية العلمانية، بسبب بطشها وإعدام الحريات العمالية، صعَد الإسلام السلفي، سنة وشيعة، وبات مرجعاً للشعوب المقهورة والمظلومة والمطاردة والمبُخَسة. النتيجة كانت عاقبة. أعيدت المرأة إلى خبائها وإلى حضنها الديني، رافضة كانت أم مطيعة.
حقيقة المرأة في التاريخ البشري، شاقة ومؤلمة. هذا عائد إلى أصول دينية قديمة، أي إلى ما قبل المسيحية والإسلام. فظلم المرأة ليس إلهياً، كما يبدو من مراجعة النصوص التأسيسية. إنه مرض ذكوري قديم وراسخ. إنه صنع ارادات، رأت المرأة في منزلة وسطى، بين الآدمية والدونية الإنسانية الآن. إنها دون الرجل.
احتقار المرأة سبق المسيحية. رواية الخلق لآدم أولاً، ولحواء من ضلعه ثانياً، تم “تركيب فيلم إلهي”، اتهمت فيه حواء بأنها أغوت آدم “الآدمي”، ليمارسا تقليد فعل الخلق الالهي.. هذا العالم مدين لحواء، وليس لآدم الجبان أبداً. لماذا انصب غضب الله على حواء؟ لأنها نافسته في الخلق. هل لهذا لُعنت؟ ألهذا توجت بالعقوبات والعذابات: “وبالأوجاع تلدين”؟ إلخ. فيما شبه عفو عن آدم الذكر الذي عوقب بالطرد وأكل خبزه بعرق جبينه؟ أما حواء، فانصبت عليها جلجلة آلامٍ ولعنات.
ذكورية سماوية أسّست لمهانة المرأة وسقوطها.
قبل الديانات التوحيدية، عرفت المرأة احتقاراً مشاعياً. الحكمة الهندية حفلت بتعاليم مضادة للمرأة. البوذية أشاعت فكرة التنبه من المرأة، لأنها تمتهن الجنس والحب، لتربط الرجل بالعالم الحسي. النصيحة، “حذار المرأة”. ورد في حوار بين بوذا وتلميذه أناندا ما يلي: “كيف نتصرف تجاه المرأة أيها المعلم؟ أجابه: لا تنظر إليها يا أناندا. وإذا صادف أن رأيناها، فكيف نتصرف أيها المعلم؟ لا تبادرها بكلمة يا أناندا.. الخ” هذه المواقف المتعالية، تجعل المرأة في مرتبة الدونية. تزرع الخوف والجنس. إنها كائن مخيف. إنها مصدر الشر في التاريخ، مثيرة للغرائز، وهي على علاقة مع الشيطان. إنها “رسولة الشيطان”. وللعلم، عرفت البشرية شرائع تُحرّم على من يقوم بطقوس دينية، الاتصال الجنسي مع المرأة، “لأنها عنصر نجاسة”!.
الإغريق، خافوا من المرأة ومن الجنس فيها. فَضّلوا الجنس الذكوري. افلاطون نموذجاً. وحوار “المأدبة” دفع الخوف من المرأة إلى الهرب منها. هي الوجه المظلم للوجود الإنساني. المرأة تكاد تُعامَل كشيء بلا روح. إلغاء تام. وإذا كان لا بد منها. فهي تصلح فقط للتناسل لاستمرار الجنس البشري. هذه المرأة الخالقة، تصير آلة تفقيس بشر.
يقال في المسيحية المستنيرة: “الحق على بولس الرسول”. كان مؤمناً أن الزمان، كل الزمان، ينتهي مع المسيح. فعودة الله إذاً قريبة. والتاريخ ماضٍ إلى نهايته. وأن زوال العالم وأفوله مرتبط بقدوم المسيح، الذي مات، ثم قام من بين الأموات. ويضاف إلى هذا، أن بولس يعتبر الشر متأصلاً في الإرادة البشرية، التي ترتكب الشرور. هذا العالم هو صنع إرادات إنسانية، وهو مهدد بالانزلاق دائماً صوب الشر.
احتقار المرأة، عند بولس طبيعي. على الإنسان التحرر من العلاقات الجنسية. القديس أغوسطينوس، تمسك بنظرية احتقار المرأة. كان له تأثير كبير على الكنيسة التي تبنت اقصاء المرأة. أن جنس المرأة رأس الشرور. وتعاليم بولس، لها تأثير كبير على الكنيسة وعلى الفكر والسلوك المسيحيين. وهو مستمر في أنحاء كثيرة حتى هذه الأيام. المصيبة بدأت، عند أوغسطنيوس، بخطيئة آدم وحواء جنسياً. الجنس أسقط حواء من إنسانيتها. الرجل يأتي مصحوباً بالخطيئة الأصلية، وعليه أن يتطهر منها. لا بد من الإنتماء إلى “حزب العزوبية”. والكهنة والراهبات. ممنوع عليهم الزواج. الجنس حرام مطلق. الشهوة مكابرة. يقول أغوسطينوس، وهو بالمناسبة قديس مرموق كنسياً: “ليت (الفناء) يحصل في القريب العاجل، لينتهي الوجود من شر الخطيئة، ومن قبح اغاظة الله، ليستتب السلام الى الأبد. ليت كل المسيحيين يلتزمون بالامتناع عن الجنس، فيسرع إذاك ملكوت الله؟
إذاً الجنس لعنة سببها حواء. وتم السماح بالزواج. بشرط أن لا تقوم علاقة جنسية بين الرجل والمرأة كالمانوية (أليس هذا المستحيل جنوناً وتخريفاً؟ من قال إن الاديان عاقلة؟).
أما توما الأكويني، أحد أعمدة العقيدة المسيحية وأحد عباقرة الاجتهاد، فقد أفتى بما يلي: “إن من واجب المسيحيين أن يمارسوا الجنس في الزواج، بلا شهوة. بلا طلب للذة”. أليس هذا شذوذاً وتخريفاً. من أراد الله عليه أن يعتنق العزوبية. هنا يُقلّد الأكويني أرسطو: “المرأة كائن ناقص وساقط”. إذاً، العلة ليست في الله، بل في من تولى عن الله، وضع المرأة في هذا المستوى المتدني. حاشا لله ويسوع أن يفعلا ذلك.
المرأة متهمة، مدانة، ملعونة. هي رسولة الشيطان. وذهب بالأذكياء الأغبياء جداً إلى إتهام المرأة بأنها تقيم علاقات جنسية مع الشيطان. هل أفدح من ذلك. المرأة شيطانة تضاجع شيطاناً ذكراً.
استمر هذا التعقيد وهذا الظلم للمرأة، حتى العام 1523م، فقد أعلن المجمع التريندتيني، تكريس البتولية (أي عدم الزواج) والزامها للإكليريكيين والكهنة والراهبات. وأعلن أنه “محروم كل من يجرؤ على اعتبار الأمومة والزواج أسمى من البتولية”. على رجال الدين أن يتغلّبوا على الشهوة. كيف؟ ولماذا؟ وإلى متى؟ أليس هذا إعداماً للحياة؟
ظلّت الكنيسة على هذه العقائد القاسية، حتى اليوم، من دون أن يكون لها السطوة والأمرة والعقاب. ضعفت الكنيسة كثيراً. راهناً، صارت بلا سلطة مادية.
رياح التغيير بدأت متأخرة جداً. البابا فرنسيس الحالي، يُصوّب جهده، كي يصبح الكرادلة الحداثيين أكثرية لإجراء التعديلات، وخلق كنيسة جديدة، بعقائد معاصرة.
يُروى أن المطران “غريغوار حداد”، وهو على فراشه الأخير، علم بانتخاب المطران فرنسيس على رأس البابوية. فقال: “لقد جاء قبل عصره، يلزمنا خمسين عاماً أخرى، ليبدأ التحول”، وهو على حق لقد أصبحت الكنيسة في المؤخرة. ونفوذها هش جداً.
تبين لرجال الدين المُجددين راهناً أن الحضارة منذ البداية، هي حضارة الخطيئة الأصلية. إنها حضارة النبذ الذكوري للمرأة المعطاء. آدم مشغول بجنسه، وحواء ومن جاء من بعدها، كانت تفتش عن المعرفة وعن الحب. المرأة أولاً، والرجل (بعلها) ثانياً. المرأة تنزع إلى الحبيب أولاً والحبيب جسد بكامل أعضائه ومشاعره وعواطفه وأفكاره وفرحه وحزنه وسعادته وحريته. المرأة تكلل رجلها بالحب وليس بالجنس وحده. “والرجل المحبوب، تبادله المرأة العطاء في ضمة قصوى. تفتح له باب أنوثتها وتعطي حنانها ودفء حشاها لثمرة الحب. وتحفظ المرأة في حشاها لتمنحه الأمومة”… هذا هو اكتمال الحب، لذةً وعطاءً وحباً.
انتهى زمن العداء الكنسي الذي دام عشرين قرناً، عداء للعالم والإنسان فيه. لم يعد العالم كما كانت ترمي الكنيسة، إنه عالم وثني. حدث ذلك مؤخراً. بعد اسكات العبقري الرائد، تيَار دو شاردان. لم يعد العالم “من صنع الشيطان” (يوحنا الثالث والعشرون) بل هو من صنع الله. أعلن البابا بالفم الملآن: “أخطأنا”. أي ألفا عام من الخطأ. هذا هو تاريخ أحد الأديان المتداولة، فماذا عن الأديان الأخرى؟ ان عبارة الكارثة المستدامة، تفي بالوصف. يا لبؤس الانسان. الأديان ملتصقة بماضيها. ترضع من تراثها. لا تتجرأ على ابداع مستقبل. مستقبلها وماضيها صنوان.
هذه هي الكنيسة. فماذا عن يسوع؟ إنه النقيض لكل البدع التي رأت إلى الجنس على أنه ارتكاب. وأن المرأة عورة. لذلك في كل مطالعاتي وكتاباتي، أميّز تمييزاً حاسماً ودقيقاً، بين يسوع المسيح وبين كلامه، دين المسيحيين الذين في كل وادٍ يهيمون. المسيح شيء والمسيحية شيء آخر. النص التأسيسي في الإنجيل، لا يشبه السلوك المسيحي. وكذلك في الإسلام، ما جاء في القرآن الكريم لا يشبه ما انتجته “عبقرية الوقائع المغايرة”. الإسلام شيء والمسلمون شيء، بل أشياء أخرى. وكذلك الفارق بين المسيح والمسيحيين. لكل رسول، كما يراه، ولكلٍ يسوعه كما يراه أو لا يراه.
نعود إلى سيرة يسوع. ماذا كان موقع المرأة في حياته ورسالته. والراهبة التي طرحت سؤال “أين الرسولات” كانت على حق. كان يسوع محاطاً بالنسوة. أوجز: مرتا ومريم أختان، تتنافسان في التقرب منه. “مرتا مرتا، إنك مهتمة بأمور كثيرة، إنما الحاجة الى واحد”. ثم، جيء بامرأة زانية ليرجمها الرجال على آثامها، وقف بينهم، وقال: “من كان منكم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر”. فتراجعوا. ثم قال للمرأة: “اذهبي ولا تعودي تخطئين”، بعدها انضمت هذه المرأة إلى الرسولات.
في الانجيل، نص بليغ عن الجنس: “وتصيران جسداً واحداً”. وهذا ما يغفله الكهنة ويتجاوزونه. أما الدليل الأبلغ في الإنجيل، فهو في أن المسيح ظهر لمريم المجدلية بعد قيامته، ولم يظهر للرجال، أو الرسل، الذين اختفوا كلياً، بعد تسليم المسيح. ولا رسولاً كان إلى جانبه. بطرس أنكره، يوضاس سلّمَه، إلى آخره. فيما كانت النسوة ترافقن جلجلته. لم يظهر إلا “للزانية” المجدلية. الجنس ليس عيباً ولا خطيئة.
بل أكثر من ذلك. في الإنجيل مشهد لرسولة تغسل قدمي يسوع، وتنشف قدميه بشعرها. المسيح حول الحب الجنسي إلى ولادة جديدة، حيث يصير الزوجان جسداً واحداً، “بعد أن كان شهوة امتلاك يفترس بها الرجل، شخصية امرأته، ويزيل فيها شخصيتها من الوجود”.
جواباً على سؤال، أين هنَ الرسولات؟
إلى الراهبة الإنسان أقول: ابحثي عنهن، بشرط ألا تسألي الرجال. فكل المشكلة، بدأت بإعطاء الرجل حق القول والفعل، ولكم ارتكب من الأخطاء وأنماط الخراب. الرجل كائن مدمر، اعتباطي، متعالي.
ابحثي عن الرسولات. في آثار أقدامهن واقامتهن. يوم كان يسوع يزور القرى والبلدات، جنوب لبنان، وفي التلال المحيطة بصور وصيدا. ستجدين هناك آثار “عرس قانا الجليل”، والخمرة المعتقة، والخمرة المعجزة.
على الرجل أن يخجل أمام مأساة المرأة عبر التاريخ. متى يعتذر الرجال من النساء؟
ثانياً؛ “فقه الرجال” في الإسلام.. افتئات على المرأة والقرآن
الحجاب مزمن وعميق الجذور. هو قبل الاسلام وبعده. لم تنجُ عقيدة دينية، من اعتبارها المرأة أنثى لا إنسان. (إنها كائن بيولوجي) هذا تصنيف وضع المرأة، في صدارة الاقامة في البيولوجيا!
المرأة، لم يشوّهها النص، بل كانت ضحية مستدامة. والمتهم بهذا التمييز المذل إلى حضرة “فخامة” الرجل؛ هو نزوع الرجل إلى تسييد الذكورة على من هي “أصل الحياة” و”ينبوع العطاء” ومسؤولية إنتاج الإنسان، عبر أرحام لم يعرف الذكر فيها إلا ذكوريته.
أبادر في مطلع هذا النص، الى ما يلي:
المسلمون ليسوا الإسلام النصي. والمسيحيون، ليسوا الايمان اليسوعي. أي ان الإسلام واحد، والمسلمون آحاد متعددة. المسيحيون فرقٌ متعددةٌ وتسلطٌ. يسوع لا يشبه المسيحيين، الذين في كل واد يهيمون، ومحمد لا يشبه المسلمين، الذين برهنوا انهم فتنة متنقلة. الدين خطر جداً. السير بمقتضياته، خاضع دائماً، الى اغراءات الواقع ومغريات السلطة..
ان مراجعة سريعة لتاريخ الديانتين، تؤكد ان “صناعتهما”، لم تكن بوحي او بآية، بل عبر فقه، أنجبه الانسان. ان تاريخ الرجل في الديانات، انجب حروباً، ولا يزال. الاديان التوحيدية، تفتتت. النص بريء. الشريعة الدينية، قابلة لتفسيرات متناقضة. المفسرون والفقهاء والكهنة ورجال الدين، جيَروا الشرعية النصية على قاعدة المصالح ورذلوا المرأة، بحجة انها شر لا بد من ترويضه والتحكم بها. الإسلام ليس مسؤولاً ولا الانجيل ايضاً.
كان لا بد من هذه المقدمة، كي لا أُرمى بالكفر وأُتهم بالانتقائية. الحجاب، قضية بأبعاد عديدة. انها تشمل المرأة والمجتمع ومنظومة الرجال. المرأة في دين الفقهاء، من البدايات، حتى الزمن الحديث، هي مأمورة وملزمة ومحجبة ومحقرة. محرومة مزمنة. لقد أمر الفقهاء المرأة بالحجاب، وألزموها على الاقامة في قعر بيتها. أي ان تكون موجودة بشرط ان تكون غائبة، فالعالم ملك الذكور.
الحجاب، هو وسيلة لتغييب المرأة عن المجتمع. عن المساهمة في الانتاج والمعرفة والابداع. ولعل الأغرب والأحط انسانياً، هو في فرض الحجاب والنقاب الذي يغطي الرأس والوجه والجسد ولا يسمح الا بفتح عين واحدة، كما ارتأى ذلك ابن عباس. الهدف، هو طرد المرأة من المجتمع. وبلغ الاستبداد الذكوري أوجه في منع المرأة من الخروج من بيتها إلا بإذن وليها الذكر، (أب، زوج، او أخ) او مع محرم، وان تكون مرتدية الحجاب الذي يلغيها تماماً. ولا يجب ان يشمت المسيحيون من زملائهم المسلمين، لأن المرأة في نظرهم، هي شر لا بد منه، (معقول؟؟؟) واغراء طبيعي (كأن الرجل كائن جنسي) “وكارثة مرغوب فيها، وخطر مقيم وسحر قاتل ومرض جذاب”.
الطاعة هي البداية والنهاية. على المرأة ان تخضع لزوجها. وللزوج ان يؤدب زوجته، عن طريق الضرب بالعصا وحرمانها من ابسط حقوقها. كان يفترض ان تلتزم المرأة بالحجاب، لأنه الحد الفاصل بين المرأة الشريفة من جهة وامكان ان تكون عاهرة من جهة ثانية.
هل الإسلام النصي والتأسيسي، أو الإسلام القرآني، هو دين هداية أم دين قمع ومنع؟ إن تسعة اعشار القرآن، “تحث على التقوى وسلامة القلوب وفتح العقول”. أي ان النص لم ينشغل بالتفاصيل. إنه لا يذكر اسماء ولا تواريخ ولا عناوين ولا تفاصيل. الهداية مقصده. لا تفاصيل للشعائر المقدسة، والصلاة والزكاة والحج. لم يحدّد الركعات في الصلاة.. لماذا لم يقم القرآن بذلك؟ لأنه يؤكد على الكليات وحدها. التفاصيل هي مهمة الرسول. وقد رفض محمد ان تدون كلماته، كي لا تنحو الى التأييد القرآني. السنة ليست مرجعاً جامعاً. ولم تدون، الا بعد مئة سنة. وهكذا يمكن ان نخلص الى ما يلي: إن اسلام الله والرسول، ليس اسلام الفقهاء والمذاهب. وما ادراك ما المعارك القاتلة والمجرمة بين الملل والنحل.
إن الغريب عن تاريخ الاديان، استناداً الى النصوص، سوف يُذهل عندما يدرك حجم المسافة بين النص والنفس، او بين النصوص والنفوس. اسلام الشعوب اليوم، ليس هو اسلام الله والرسول. انه اسلام الفقهاء والأئمة. لذا لا بد من العودة الى النص القرآني، الذي يعيش في غربة متنامية، فالغلبة هي للاحاديث (وما ادراك ما الحديث ونتائجه الجارحة).
نعود الى سياق البداية: ما علاقة هذا كله بالحجاب والطلاق والاختلاط؟ انها ليست من اصول النص الاصلي ولا تمس العقيدة في شيء. الدين لم يضعف المرأة. الاحاديث والاحكام تناولت المسائل الصغيرة والتافهة، الى جانب قضايا ذات اهمية. ولنعترف ان الاحاديث مشكوك في معظمها. “الإخوان المسلمون” في مصر اضافوا شعاراً حاسماً: “الله غايتنا والرسول زعيمنا، والحجاب رمز عفتنا”. هذا تقليد جاهلي. يريد غسل الباطل بالدم والعنف.
الحجاب في القرآن، لا يُغطي عُرياً أو عورة ما. هذا تفسير مفترٍ. خلاصة القول، وتأكيداً على ما جاء في سورة الاحزاب وما تم تثبيته نصاً، ان القرآن، لم يشر الى الحجاب كعقاب، وكعزل للمرأة، فالحجاب ليس زياً يلزم النساء به. انه ستار يحول دون الدخول على الرسول وزوجاته، من دون استئذان. وليس في النص تحديد وتصنيف للزي، واذا كان هناك من واجب، فعلى المرأة ان تغطي فتحة الصدر. لذا ان تعميم الخصوصيات التي تتمتع بها نساء الرسول، هو افتئات صريح على القرآن. باستثناء زوجات الرسول، كانت المرأة تشارك الرجال، حتى في المعارك، وفي جولات القتال. بعد نزول آية الحجاب، فان النساء حاربن في هوازن وفي خيبر.. كان الوضوء جماعيا، بين الرجال والنساء، في حوض واحد ولم تُمنع المرأة حتى عن المساجد.
نصل الى قضية تعدد الزوجات، ولا بد من الاكتفاء تحديداً بما جاء في القرآن، لا في ما اوردته قرائح المفسرين والرواة، وذوي الذكورية المنتفخة. الآيات في سورة النساء تتضمن مقولة التعدد. “يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء..” و”آتوا اليتامى اموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب”.. “وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة.. ولن تعدلوا”.
هذا يعني ان التعدد مشروط بمبدأ لاغ: هو قسط اليتامى. أن يعدلوا في ذلك. وهناك شبه يقين أنهم لن يعدلوا. ثم إن النص ليس أمراً ولا إباحة.
المسلمون، مارسوا مثنى وثلاث ورباع. هل هذا سماح مطلق أو سماح بشرط. وهناك تأكيد على استحالة العدل. ففي آية (النساء129) من القرآن، بأن الاستطاعة مشروطة، وضرورة الاقتصار على واحدة. “ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”، شرط الزواج من اكثر من امرأة، ان يعدل الرجل، بين النساء واليتامى. فلليتامى حقوق، ويمكن الرجوع الى رأي الرسول، ازاء تعدد الزوجات، عندما منع علي بن ابي طالب، من ان يتزوج زوجة أخرى، الى جانب فاطمة. لأن هذا الزواج، سيؤدي الى شقاق ونكد.
غصنا قليلاً في بدايات المشكلة في الإسلام، منذ عهد النبي، الى غضب عمر بن الخطاب، الذي أجاز ضرب المرأة و.. إلى الفقهاء والملل والنحل، بقليل من الشواهد، ونقلع إلى محطة راهنة، هي أوضاع المرأة راهناً.
تعيش المرأة راهناً، في مناخ مضاد للتقدم والحرية. فالذكر ليس في مرتبة الانثى. هو على صواب وهي على خطأ. والذكر على صواب ولو اخطأ. الذكر له كامل الحرية، وللمرأة قيود مانعة. الحرام هو جسدها وجسدها هدف الرجل. وعليه، فالمرأة عورة. المساواة مع الرجل، من سابع المستحيلات. التحرش الجنسي سائد، والنتيجة، “تسقط البنت ويُحمى الرجل”. العنف المنهجي ضد المرأة سائد ومؤيد ذكورياً. ورجال الدين ذكور فقط. ليس للمرأة سلطة في السردية وثمة سيطرة ذكورية على الدين. مطالب النزعة الذكورية العمياء بلغت راهناً، زيادة القيود على المرأة وفتح طريق الجنس للرجل. كأن يصار إلى نص دستوري، في بعض الدول، يجيز قانون تعدد الزوجات، او اعتماد نظام الجواري والتمتع بما ملكت يمينه. والسفور حرام يتوجب العقاب. مرجعية الرجل المسلم راهنا، العودة الى القرون الوسطى والبحث في التراث عله يجد شيئاً مما ارتكبه الفقه الذكوري من ظلم واحتقار واستعباد للمرأة. هكذا يكون التقدم الى الخلف. المرأة لا يمكن ان تكون مرجعية دينية. انها ملزمة بمقام الدونية. المرأة ليست مصدراً أو مرجعاً لفهم الآيات.
ما هذا السلوك المشين بحق المرأة “الأم والزوجة والأخت”. أيعتبر تحجيب المرأة صيانة لشرفها وجسدها، أم إنه توظيف لمفهوم القوامة والطاعة. أليس هذا هو ذروة الاستعباد؟ القرآن، استرجع مفاهيم تحرير الانسان، ذكر وأنثى. العدل والحرية والمساواة. هي من داخل المنظومة القرآنية. ومشاركة المرأة في الحياة العامة والحياة السياسية هي جزء من منظومة التفكير العقلاني.
إبان اندلاع “الربيع العربي”، عبر الإسلاميون القدامى والجدد، عن رفضهم لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة. المساواة كاريكاتور سمج. ولهذا، لا تتساوى شهادة الرجل وشهادة المرأة، بل أفدح من ذلك، “الإسلاميون الجدد”، يدعون إلى ختان البنات وزواج القاصرات وتعدد الزوجات ويقومون بتشويه صورة الناشطات في المجتمع، إضافة إلى تبخيس عقول المثقفات وتحريم الفنانات. وللبحث صلة..
اختم المقالة بما يلي: الحجاب ليس لتغطية الرأس. الحجاب هو الستر الذي يؤمن الحماية. عمر بن الخطاب، مقاوم ذكوري ضد مشروع المساواة البنيوي بين الجنسين. النبي منتصر للمرأة.
المرأة ليست محكومة بالنص القرآني. هي مصابة بالفقه الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.. إن هذه الفرق أباحت المرأة كجسد، للرجل. إن عقد النكاح لدى الفقهاء على اختلافهم، هو عقد ذكوري واستبدادي أوجبته الشروط الفقهية وليس النص القرآني. وهكذا يصير عقد الزواج شبيها بعقود البيع. والمرأة هي البضاعة، والبيع هو فرج المرأة، والرجل يشتريه الخ.
أخيراً، الحجاب لم يكن له انتشار في بداية العهد الاموي. الحجاب خاص بأمهات المؤمنين. النساء كن سافرات. في ما بعد، تحكم الرجل ولم يحكِم الآيات. وما زال فقه الازمنة الساحقة والسحيقة، حياً يرزق، أعاد المرأة الى “أمة الحريم”.
من يقرأ سيرة عائشة. يعرف ان المرأة كانت تتولى بنفسها قيادة المعارك. ولم تكن عائشة وحيدة ابداً. لا بد من إعادة قراءة الحقبة الاولى من الإسلام. كما لا بد من قراءة الإرث الشيعي، والذي اباح الجنس وزواج المتعة، حيث الرجل يمتع ذكوريته، على حساب بؤس الأرامل والفقيرات والشاذات.
ومع ذلك، فهذا النص يظل ناقصا كثيراً. المكتبات تعج بالمحاولات الجادة، للتحديث، في مقابل سيلان المؤلفات التي تجعل المرأة بضاعة رخيصة، وعيباً وعاراً.
وتسألون عن الحرية؟ قل أين هي في هذا العالم العربي المداس بأحذية السلطة وفقهائها وسادتها وتجارها وتسلطها.
كأننا ما زلنا، في أول الزمن.
* مثقف وكاتب لبناني
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.