الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بين الواقع وخلط الأوراق

سمير العيطة *

كثيرا ما تعلو المطالبة أن يتعامل مواطنو البلدان العربيّة بـ«واقعيّة» مع أحداث تاريخهم ومع واقعهم اليوم. إلاّ أنّ إشكاليّة كبرى تُطرَح في هذه الأيّام مفادها أنّهم فقدوا أهمّ خاصيّة كانوا يتمتّعون بها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. خاصيّةٌ وصفها أستاذ فى أحد أكبر الجامعات الأمريكيّة مازحاً أنّهم كانوا «أكثر ديموقراطيّةً» من نظرائهم في معظم البلدان «الغربيّة الديموقراطيّة»، وبأنّهم لا يصدّقون الإعلام عموماً وأنّهم مهما كان اهتمامهم بمعلومة تبثّها وسائل إعلامهم المفضّلة لم يتردّدوا في الذهاب لتقصّي ما الذي تقوله وسائل إعلام «الخصوم» عن تلك المعلومة. حسٌّ نقدي ليس فطريّاً بالتأكيد وإنّما ناتجٌ عن التجارب وخاصّةً.. عن مرارة بعضها.

بالطبع هذا يجري بالنسبة لأحداث اليوم، خاصّةً في ظلّ انتشار وسائل التواصل الاجتماعيّ. خبرٌ أو تفسيرٌ لحدثٍ معيّن يتمّ تواتره بشكلٍ واسع ويأخذه الكثيرون أنّه «الحقيقة» دون التمحّص في أنّ وسائل التواصل الاجتماعي لها آليّتها في جلب المعلومة وأنّها وسيلة للحرب النفسيّة تستخدمها القوى المهيمنة، سواء ضمن البلد المعيّن أو القوى المهيمنة الخارجيّة. كما يجري الأمر على أحداث التاريخ حتّى في الكتب الموسومة بالجديّة أو في مذكرّات بعض الشخصيّات الشهيرة.. بل وأقسى من ذلك في بعض الأفلام السينمائيّة العالميّة الرائجة.

هكذا صوّر فيلم «لورانس العرب» الهوليودي وصول جيش الحجاز الذي رافق الجيش البريطاني في مواجهة الجيش العثماني إلى دمشق على أنّه فوضى قبليّة عربيّة. هذا في مدينةٍ كانت نظّمت توزيع مياه الشرب («الفيجة») وخدمات الكهرباء و«الترمواي» وغيرها كشركات مساهمة محليّة تؤمّن هذه الخدمات العامّة.

كما أسّست مع موظّفين حكوميين قدموا من إسطنبول كما من مصر دولة واستدعت ممثّلين عن مختلف مناطق «سورية الطبيعيّة» كي يُصيغوا دستورا «ديموقراطيّاً» و«مدنيّاً» بمعنى المواطنة المتساوية للمسلمين والمسيحيين واليهود.

هكذا تمّ عبر الفيلم عينه نشر صورة عن العرب أنّهم قبائل متخاصمة لا يعرفون ما هي الدولة ولا الديموقراطيّة.. لتبرير «الانتداب». إنّ السوريّين يكتشفون اليوم كم كان ذلك الدستور حضاريّاً في الوقت الذي ما زالت تروَج بينهم قناعاتٌ أنّ الانتداب هو الذي جلب «الحضارة» إليهم.

كذلك لدى لبنانيين كُثُر قناعة راسخة أنّ لبنان حصل على استقلاله قبل سورية. وذلك بواقع أنّهم يحتفلون بالاستقلال يوم خروج رؤساء البلد من احتجازهم في قلعة راشيّا عام 1943، ولأنّ السوريين لا يحتفلون بـ«الاستقلال» بل بجلاء قوّات الانتداب الفرنسي عام 1946. الواقعة التاريخيّة أنّ البلدين تفاوضا على إنهاء الانتداب منذ 1936 وصادقا في برلمانيهما على الاتفاقيّة دون أن تتمّ المصادقة من قبل الجانب الفرنسي. ونشبت الحرب العالميّة الثانية وهيمن الفرنسيّون المتحالفون مع ألمانيا النازيّة على البلدين حتّى أتت قوّات الحلفاء عام 1942 لطردهم وأعلن الجنرال ‘كاترو’، قائد القوّات الفرنسيّة، موافقة فرنسا على المعاهدة وبالتالي استقلال البلدين رسميّاً. لكنّ التفاوض كان بعدها حول انسحاب القوّات الفرنسيّة أو الإبقاء على قواعد عسكريّة. ما كلّف البلدين اعتقال رؤساء مؤسسّاتهم ثمّ قصف المجلس النيابي السوري. ولم ينتهِ الأمر سوى في أوّلى جلسات مجلس أمن الأمم المتحدة الذي شارك البَلدان في تأسيسه حُكما لأنّهما باتا كلاهما مستقلّين. إنّ «فيتو» من الاتحاد السوفيتي أخرَجَ القوّات الأجنبيّة من سورية كما من لبنان.. كعلامة على انتهاء الحقبة الاستعماريّة وبداية حقبة «يالطا» لتقاسم العالم بين السوفييت والأمريكان.

  • • •

وفى السياق الحالي، يحتلّ قانون السريّة المصرفيّة في لبنان صلب النقاشات حول سبل الخروج من الأزمة المالية العاصفة بالبلد. في حين تسود سرديّة حول الأسباب التاريخيّة لإقراره، أنّه أتى بهدف استقطاب الأموال خاصّة من سورية نظراً لاضطراباتها السياسيّة. لكن تمّ إقراره عام 1956 في حين كانت سورية تعيش حكماً ديموقراطيّاً برلمانيّاً منذ 1953 وكانت الأمور في صميم الخلاف السوري- اللبناني بين الدفاع عن رؤوس الأموال الصناعيّة السوريّة (ما مثّله خالد العظم رئيس الوزراء) والدفاع عن حريّة التجارة الخارجيّة المطلقة (ما مثّله ميشيل شيحا في لبنان). والواقع أنّ المجلس النيابي اللبناني أقرّ قانون السريّة المصرفيّة هذا في 26 تموز/ يوليو 1956، أي بالضبط يوم تأميم قناة السويس. حدثٌ جلل ليس على المنطقة وحدها بل على المستوى العالمي. انتهى بـ«توريط» فرنسا وبريطانيا لإسرائيل في «العدوان الثلاثي» مقابل منحها وسائل إنتاج القنبلة الذريّة وبإنهاء هذا «العدوان» بإنذارٍ سوفييتي بتوجيه ضربة نوويّة تستهدف باريس ولندن مقابل صمت أمريكي. لقد أوقِفَ العدوان وانسحبت القوّات خلال أياّم وليس أشهر. سورية كما مصر صادرتا وأمّمتا حينها المصالح الفرنسيّة والبريطانيّة وقطعتا علاقاتهما مع البلدين التي لم تعُد سوى في الستينيات.. بعد استقلال الجزائر. فلمَ أتى إذاً قانون السريّة المصرفيّة اللبناني؟!

لن يعرف من لم يشهَد «نكسة» 1967 في حياته ما أحسّه من ذاقَ مرارتها كبيراً أو صغيرا.. كما من «نكبة» فلسطين. لا يكفي أن تُحلِّل أسباب حصولها بعد عقود، بل الأهمّ من ذلك آثارها على «الحُلم» الجمعي في جميع البلدان العربيّة. وما كان المقصود من حدوثها في إطار «لعبة الأمم». لكنّ النكبة كما النكسة خلقتا في زمانهما وعياً جماعياً.. وعياً نقدياً وقاسياً على الواقع.

مرارات أحداث اليوم، من الصراع السوري وتقسيم البلاد الفعلي، إلى الأزمة اللبنانيّة وتدهور أحوال معظم البلدان العربيّة- اللهمّ إلاّ دول الخليج نسبيّاً- لم تجلَب وعياً جمعيّاً نقدياً حولها، بقدر مرارتها. ما زالت قوى الهيمنة، المحليّة والخارجيّة، تنشر سرديّاتها والإعلام يروّج لها ووسائل التواصل الاجتماعي تخلط الأوراق. ويكتبُ كلٌّ تاريخه الخاص، ليس كوجهة نظر، وإنّما كوقائع وحقائق يجب تصديقها دون تمحيص.

إنّهم يطالبون المجتمع أن يتقبّل بواقعيّة.. ما يسمّونه واقعاً. وكأنّه ليس هنالك أسباب وتاريخ. وكأنّه يُمكِن تشييد المستقبَل على أرضيّة تمحي إرث المجتمع بكلّ ثرائه وتناقضاته ونجاحاته وإخفاقاته.

* باحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.