الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«شبان وعواجيز».. صراع أجيال مبكر!

عبد الله السناوي *

فى ذروة ثورة «كانون الثاني/ يناير» أطلق شاعر العامية المصرية الكبير «عبدالرحمن الأبنودي» تعبير «دولة العواجيز».

بعدد السنين كان أبعد من أن يُحسب على أجيال الشباب.

بغضب الثورة، كان ضد «عواجيز شداد مسعورين أكلوا بلدنا أكل».

في صرخته «شوف مصر تحت الشمس.. آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز»، إيمان بالمستقبل وأجياله الجديدة «مش دول شبابنا اللي قالوا كرهوا أوطانهم»، «هما اللي قاموا النهارده يشعلوا الثورة».

لكنه لم يدعُ إلى أية قطيعة مع الأجيال التي سبقت وأعطت وضحت في سبيل المعاني نفسها «يرجعلها صوتها.. مصر تعود ملامحها»، «تأخذ مكانها القديم والكون يصالحها».

لم يكن قصده أن يصفي أي حسابات مع كل من تقدم في العمر، أو أن يدعو إلى «قتل كل أب» وإلغاء أي تاريخ.

لم تكن دولة «مبارك» عجوزة بأعمار مسؤوليها الكبار بقدر ما كانت في أفكارها وخيالها ووسائلها وخياراتها التي تعاكس مجتمعها وتناقض احتياجاته.

«قول إنت مين للي باعوا حلمنا وباعوك.. أهانوك وذلوك ولعبوا قمار بأحلامك».

لو كان نظام «مبارك» كله من الشباب فإن السقوط كان محتماً.

أسوأ ما يحدث الآن، ومصر تبحث عن طريق جديد وأمل جديد، إلغاء التراكم واصطناع صراع أجيال داخل الجيل الواحد بإسقاط صفة العجز دون فحص، أو حيثيات، على كل الذين تقدموا الصفوف فى ثورة يناير.

بدا تعبير «عواجيز يناير» عملاً انتقامياً من فكرة الثورة باسم الدفاع عنها!

لا يمكن إطلاق صفات الضعف والتهاون وقلة الهمة بالإجمال، أو الاستغراق في الاتهام السياسي بلا تبصر.

الهزيمة محتملة دائماً في أي ثورات دون أن يعني ذلك انكساراً لأهدافها، أو تخلياً عن أحلامها.

القضية ليست في التعبير نفسه، من أطلقه وكيف انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي، بقدر ما فيه من إشارات سلبية للغاية على الحركة إلى المستقبل.

نسب التعبير إلى جيل جديد يخطو بالكاد أولى خطواته، كان في العاشرة من عمره تقريباً عندما هبت الثورة، ألهمته واستقرت أحلامها في يقينه، دون أن تمكنه حداثة تجربته من قراءة تعقيدات المشهد.

من حيث أراد أن يواصل الأحلام نفسها، ويتجنب المنزلقات التي أودت بثورة كانون الثاني/ يناير، وقع في صراع أجيال مبكر يمنع التواصل في العمل الوطنى.

إحدى المطبات الكبرى التي وقع فيها جيل يناير، ونالت منه بقسوة بالغة اصطناع التناقض بالتعالي مع الأجيال التي سبقته، حين شاعت في المجال العام عبارة: «ماذا فعلوا؟».

الخطأ نفسه يتكرر في تعبير «عواجيز يناير» رغم أنهم ما زالوا في سن الشباب.

التاريخ يصحح نفسه مهما طال الأمد، والأحلام الكبرى تستعصي على الكسر، غير أن إنكار التراكم يعطل فعل التاريخ بالدخول في أنفاق وسراديب مظلمة.

بنفس القدر كان التعريض بثورة تموز/ يوليو، وإنكار التواصل بين حلقات الوطنية المصرية خطأ فادحاً آخر.

تواصل الأجيال ووحدة ثورات مصر قضية لا سبيل إلى تجاوزها.

كان جيل الأربعينيات من القرن الماضي أحد مشاعل الأمل في طلب الحرية والاستقلال.

حارب في قناة السويس ضد معسكرات الاحتلال البريطاني، وتظاهر في الجامعات والميادين ولوحق وطورد، لكنه لم ينكسر رغم ذلك كله.

تأثر بعصره في طلب العدل الاجتماعي، ووصلت ريح التغيير إلى حزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية وتبنى زعيمه «مصطفى النحاس» «الطليعة الوفدية» بنزعتها اليسارية الصريحة على عكس التوجه العام للحزب.

في المسافة بين عامي (١٩٤٦) و(١٩٥٢) نضجت تجربة جيل الأربعينيات.

بتلخيص ما فإن ما تأسس في هذه المسافة من تطلعات ومشروعات وجد طريقه إلى التنفيذ بعد ثورة «تموز/ يوليو».

ثورة تموز/ يوليو هي ثورة جيل الأربعينيات.

وكانت تجربة جيل السبعينيات تعبيراً عن فكرة المقاومة، فكل ما حلم به تقوض، وكل ما دفع ثمنه تراجع.

حارب كما لم يحارب جيل آخر على جبهات القتال بعد هزيمة (١٩٦٧) غير أن الجوائز كلها ذهبت إلى غير أصحابها.

تجرع جيل السبعينيات هزيمة بعد أخرى غير أنه لم ينكسر.

عارض بدأب الرئيس الأسبق «أنور السادات» في خياراته الرئيسية من الإدارة السياسية لحرب تشرين الأول/ أكتوبر إلى الانفتاح الاقتصادي، وتفكيك القطاع العام، حتى «كامب ديفيد» والصلح المنفرد مع إسرائيل.

كانت انتفاضة «كانون الثاني/ يناير» (١٩٧٧) ثورته الناقصة.

خسر الرجل الذى تحمل مسؤولية قرار الحرب شعبيته وكاد أن يطيحه شعبه بعد أكثر قليلاً من ثلاث سنوات من حرب أكتوبر، لولا إلغاء قرارات رفع أسعار الخبز وبعض السلع الأساسية الأخرى التي أفضت إلى الغضب.

الشعبية رصيد يؤخذ منه ويضاف إليه.

مشكلة جيل كانون الثاني/ يناير أن الثورة التي تصدر مشاهدها المهيبة سبقت تجربته، وشعاراتها غلبت مبادئها.

على عكس جيليّ الأربعينيات والسبعينيات افتقد إلى أي بنية فكرية تحدد ما يقصده من حرية وعدل اجتماعي، فأصبح ممكناً لكل من يطلب خطف الثورة أن يفعلها بسهولة كاملة.

رغم انكسار ثورة «كانون الثاني/ يناير» فإن ما خلفته تحت الجلد السياسي يستحيل تجاوزه، أياً كانت مستويات التراجع عما طالبت به.

بالتعريف: «كانون الثاني/ يناير» جذر الشرعية الدستورية، ولا توجد شرعيات معلقة في الفضاء بلا أرض تقف عليها.

وبالأثر: فإنها- كأي ثورة أخرى في التاريخ- ليست جملة عابرة تذهب إلى حال سبيلها بالنسيان، أو التجاهل.

هناك فارق جوهري بين قوة الدفع والقوة الكامنة.

قد تتوقف قوة الدفع قبل أن تحقق الثورات أهدافها، ذلك حدث مراراً في تجارب تاريخية مماثلة، غير أنه لا يعني موتها سريرياً.

بقدر القوة الكامنة في بنية الوعى العام وعمق المجتمع، فإنها قد تتجلى على غير انتظار خارج كل التوقعات والسيناريوهات.

من مصادر تلك القوة ما استقر لدى الأجيال الجديدة- كأصحاب الحق في المستقبل- من نظر إلى فعل الثورة بنوع من التماهي، فالمس بها إلغاء لهم.

كانت «كانون الثاني/ يناير» ثورة شعبية حقيقية تقدمت مشاهدها الأجيال الجديدة.

في أول العرض التاريخي جرى ما يشبه «التقديس» للفعل الثوري شاملاً جماعات الشباب، فهم «أفضل جيل في التاريخ المصري الحديث»، «لا قبلهم ولا بعدهم».

كان ذلك نفياً لتواصل الحركة الوطنية المصرية جيلاً بعد آخر، وتسطيحاً في الوقت نفسه لطبيعة الثورة.

ثم جرى بعد ذلك تفكيك وحدة الجيل قبل أن ينكل به ويشهر بسمعته باعتبار رموزهم طابوراً خامساً يتآمر على الدولة.

كان ذلك قمة المأساة في القصة كلها.

الكلام المبكر عن انقضاء أثر ثورة كانون الثاني/ يناير فيه إنكار لدروس التجربة المصرية على مدى مائة عام، عرفت التراجعات قبل النهوض من جديد.

فى ثورة (١٩١٩) سقط نحو (٨٠٠) شهيد وأصيب (٦٠٠) جريح.

تلك الأرقام تقارب بصورة كاملة أعداد الشهداء في ثورة «كانون الثاني/ يناير»، لكن أرقام الجرحى والمصابين تتضاعف فيها.

لم تكن وسائل الإعلام الحديثة قد نشأت بعد، ولا عرفت مصر الإذاعة وقتها.. كانت الصحف الوطنية محدودة التوزيع والتأثير في مجتمع تتفشى فيه الأمية، ولكنه قرر أن يثور، وأن يدخل القرن العشرين من بوابة الاستقلال والدستور.

لم تكن هناك- في ذلك الوقت- منظمات حقوقية، أو نقابات مهنية تدافع عن حرية الرأي وحق التظاهر السلمى.

في «كانون الثاني/ يناير» جرى توسيع مجال المشاركة السياسية إلى حدود غير مسبوقة تحت ضغط المليونيات ووسائل الاتصال الحديثة، وطرحت قضية العدالة الاجتماعية بصورة جديدة على رأي عام لم يعد يتقبل أو يستسيغ تنكيل السلطات بالمواطنين وإهدار الكرامة الإنسانية.

الإنجازات الفعلية ليست كبيرة بالنظر إلى حجم التضحيات التي بُذلت، لكن شيئاً ما تحرك في عمق المجتمع يصعب أن يعود مرة أخرى إلى المربع رقم واحد.

في ثورة (١٩١٩) كان حجم التضحيات مقاساً بحجم السكان، كاشفاً لعمق تجربتها وصلابة شعبها الذى خرج طالباً الاستقلال والدستور.

غير أن مسارها السياسي ارتبك ونتائجها تعثرت لأربع سنوات كاملة، حتى وضع دستور (١٩٢٣) ، ثم جرى بعد ذلك الالتفاف على الحكم الدستوري، وإقصاء حزب «الوفد» عن السلطة لأغلب سنوات ما بين ثورتي (١٩١٩) و(١٩٥٢) .

نفس التحدي في أوضاع مختلفة يعترض ما طالبت به ثورة «كانون الثاني/ يناير»، حيث إنجازها الرئيسي دستور (٢٠١٤) ، الذي يعد من أفضل الدساتير المصرية على مدى العصر الحديث.

لا يمكن الادعاء بأن هناك احتراماً للدستور، أو إنفاذاً لالتزاماته.

ثورة «كانون الثاني/ يناير» تعني اليوم: الدفاع عن الدستور قبل أي شيء آخر، فجوهره الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحفظ الحريات العامة وتصون المواطنة وحق المواطنين في حياة آدمية.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.