منى فرح *
جرت مفاوضات قمة المناخ العالمية السنوية COP27، في شرم الشيخ الأسبوع الماضي، في وقت صعب للغاية، حيث يخوض العالم أزمة طاقة حادَّة ناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، ما أدَّى لخفض التوقعات لما يمكن تحقيقه هذا العام. وكان تفاقم الظواهر الجوية السلبية، التي شهدها العالم الصيف الماضي، جعل الحاجة لتقليل الانبعاثات أكثر إلحاحاً. لكن الانتقال إلى عالم الطاقة النظيفة؛ إن حصل؛ فسيكون فوضوياً في أحسن الأحوال، وسيُنتج أشكالاً جديدة من المنافسة والمواجهة قبل أن يُعيد تشكيل أطر جيوسياسية جديدة تُعيد تشكيل النظام العالمي، بحسب تقرير لمجلة “فورين أفيرز”(**).
ليس من الصعب أن نفهم لماذا يحلم الناس بمستقبل يقوم على الطاقة النظيفة. فمع استمرار زيادة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وتزايد تواتر الظواهر المناخية القاسية والمُدمرة، تبدو الجهود الحالية للاستغناء عن الوقود الأحفوري غير كافية لتحقيق مستقبل أكثر صحة وأمناً. ومما يزيد من الإحباط أن الجغرافيا السياسية للنفط والغاز لا تزال حية وفعَّالة، كما أنها محفوفة بالمخاطر أكثر من أي وقت مضى. إن أوروبا، مثلاً، في خضم أزمة طاقة متفاقمة- حتى قبل الحرب الروسية الأوكرانية- حيث الأسعار “الجنونية” للكهرباء تُجبر مؤسسات تجارية عدّة في جميع أنحاء القارة على الإغلاق، كما أجبرت شركات تعمل في مجال الطاقة على إعلان إفلاسها. مثل هذه الأزمات؛ على سبيل المثال؛ جعلت الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في وضع يسمح له بالاستفادة من صراعات جيرانه بفضل مخزون بلاده من الغاز الطبيعي (كما يحصل اليوم). وعندما ارتفعت أسعار النفط فوق 80 دولاراً للبرميل في أيلول/ سبتمبر 2021، اضطرت الولايات المتحدة ودول أخرى متعطشة للطاقة لمناشدة كبار المنتجين، بما في ذلك السعودية، بأن يزيدوا إنتاجهم، وهذا منح الرياض مزيداً من النفوذ في علاقتها المتوترة حديثاً مع واشنطن.
يأمل أنصار الطاقة المتجددة (وأحياناً يجزمون) أن يساعد الانتقال إلى مصادر طاقة نظيفة في إنهاء التوترات بشأن الموارد، بالإضافة طبعاً إلى المساهمة في معالجة أزمة تغير المناخ. لكن من جهة ثانية، فإن مثل هذا الانتقال سيغير أيضاً من الجغرافيا السياسية، وسيُعيد تشكيل العديد من عناصر السياسة الدولية التي سبق وشكَّلت النظام العالمي السائد منذ الحرب العالمية الثانية (على أقل تقدير). وكل هذا سيؤثر بدوره؛ وبشكل كبير؛ على مصادر القوة، وعملية العولمة، والعلاقات بين القوى العظمى، وحتى التقارب الاقتصادي بين البلدان المتقدمة وما أُصطلح على تسميتها بالدول النامية. ستكون عملية الانتقال فوضوية في أحسن الأحوال. ومن المرجح أن تُنتج أشكالاً جديدة من المنافسة والمواجهة قبل أن تعيد تشكيل أُطر جيوسياسية جديدة أكثر ترابطاً.
إن الحديث عن الانتقال إلى الطاقة المتجددة بطريقة سلسة أمرٌ خيالي: لا توجد طريقة يمكن للعالم من خلالها تجنب وقوع اضطرابات كُبرى بينما يعيد تشكيل نظام الطاقة التي يعتمد عليها بأكمله. فهذا النظام أضحى شريان الحياة للاقتصاد العالمي وجزء أساس من النظام الجيوسياسي. علاوة على ذلك، فإن الحكمة التقليدية حول من سيكسب ومن سيخسر غالباً ما تكون خارج القاعدة. على سبيل المثال، قد تُجني الدول النفطية الكثير من الأرباح والفوائد قبل أن تبدأ بالخسارة. لأن الاعتماد على موردي الوقود الأحفوري المهيمنين، مثل روسيا والسعودية، سيزيد على الأرجح قبل أن يبدأ بالتلاشي. ولكي تبدأ أفقر المناطق في العالم بالازدهار، ستحتاج لأن تستهلك كميات هائلة من الطاقة- أكثر بكثير مما كانت عليه في الماضي- حتى وهي تواجه فيه أسوأ عواقب تغير المناخ. في الوقت نفسه، ستصبح الطاقة النظيفة مصدراً جديداً للقوة، ولكنها أيضاً ستجلب مخاطر وشكوكاً جديدة.
بالطبع، هذه ليست حججاً لإبطاء عملية الانتقال إلى الطاقة المتجددة أو التخلي عنها. بل على العكس، يجب تسريع الجهود لمكافحة تغير المناخ. لكن العواقب المرتقبة؛ التي ذكرنا بعضها آنفاً؛ إنما هي لتشجيع صانعي السياسات في العالم على النظر إلى ما هو أبعد من تحديات تغير المناخ، وبالتالي تقدير العواقب والمخاطر التي قد تنجم عن الانتقال المتعرج إلى الطاقة البديلة. والأمر الأكثر أهمية من الآثار الجيوسياسية المرتقبة هي المخاطر القصيرة الأجل غير المتوقعة، والتي ستظهر في العقود القليلة المقبلة، التي سيوجدها عالم صافي من انبعاثات ثاني اكسيد الكربون على المدى الطويل، والمقصود هنا عندما تتحد الجغرافيا السياسية الجديدة للطاقة البديلة مع الجغرافيا السياسية القديمة للنفط والغاز. إن الإخفاق في تقدير العواقب غير المحسوبة لن تترتب عليه آثار أمنية واقتصادية فحسب؛ بل وسيقوض عملية الانتقال برمتها. فإذا اعتقد الناس أن الخطط الطموحة لمعالجة أزمة تغير المناخ تُهدد أمن إمدادات الطاقة وموثوقيتها، أو القدرة على تحمل تكاليفها، فإن عملية التحول إلى الطاقة المتجددة ستتباطأ. قد يتلاشى الوقود الأحفوري في نهاية المطاف. لكن السياسة، والجغرافيا السياسية للطاقة باقية.
مثابرة الدول النفطية:
الحرب العالمية الأولى حوَّلت النفط إلى سلعة استراتيجية. في عام 1918، قال رجل الدولة البريطاني اللورد كرزون إن قضية الحُلفاء “طفت إلى النصر على موجة من النفط”. ومنذ ذلك الحين، اعتمد الأمن البريطاني على النفط من بلاد فارس أكثر بكثير مما اعتمد على الفحم الذي كان يُستخرج من منطقة نيوكاسل (شمال شرق بريطانيا)، وأصبحت الطاقة مصدراً للقوة وغيابها نقطة ضعف استراتيجية. وفي القرن الذي تلاه، طوّرت البلدان التي تنعم بموارد النفط والغاز مجتمعاتها، وصار لها قوة هائلة في النظام الدولي، فيما اضطرت الدول التي تجاوز فيها حجم الطلب الإنتاج لأن تطوع سياساتها الخارجية بما يضمن استمرار تأمين حاجتها من الطاقة.
إن الابتعاد عن النفط والغاز سيُعيد تشكيل العالم بالقدر نفسه من الدراماتيكية. لكن المناقشات حول شكل مستقبل الطاقة المتجددة غالباً ما تتخطى بعض التفاصيل المهمة. فمن ناحية، حتى عندما يحقق العالم صفر انبعاثات ثاني اكسيد الكربون، فذلك لا يعني نهاية عصر الوقود الأحفوري (https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2019-12-10/adapt-or-perish). ففي تقرير نشرته العام الماضي، تتوقع وكالة الطاقة الدولية (IEA) أنه إذا حقق العالم “صفر انبعاثات” بحلول العام 2050، فسيظل يستخدم ما يقرب من نصف كمية الغاز الطبيعي وحوالي ربع كمية النفط المستخدمة حالياً. جدير ذكره هنا أن الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ توصي بضرورة العمل للحؤول دون التسبب في ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية بأكثر من 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، لمنع وقوع أسوأ أثار تغير المناخ (…).
الموردون التقليديون سيستفيدون من التقلبات في الأسعار التي ستنجم حتماً عن التحول إلى النفط الصخري، مثلاً. فالجمع بين الضغط على المستثمرين من أجل التخلي عن الوقود الأحفوري وعدم اليقين بشأن مستقبل النفط يثير بالفعل مخاوف من أن مستويات الاستثمار قد تنخفض في السنوات المقبلة، مما سيؤدي حُكماً إلى انخفاض إمدادات النفط بشكل أسرع من انخفاض حجم الطلب – أو إلى الانخفاض حتى مع استمرار ارتفاع حجم الطلب، كما يحصل اليوم. هذه النتيجة ستؤدي إلى نقص دوري، وبالتالي ارتفاع الأسعار وتقلبها. ومن شأن هكذا وضع أن يُعزز من قوة الدول النفطية خلال فترة قصيرة، وذلك من خلال زيادة إيراداتها ومنح منظمة “أوبك” نفوذاً إضافية، التي يسيطر أعضاؤها على معظم احتياطي الطاقة في العالم، ويتحكمون بعملية الإنتاج العالمي- صعوداً أو هبوطاً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الانتقال إلى الطاقة المتجددة سيزيد من نفوذ بعض مصدري النفط والغاز من خلال حصر عملية الإنتاج العالمي ضمن حلقة محدودة جداً. وفي نهاية المطاف، سوف ينخفض حجم الطلب كثيراً (https://www.foreignaffairs.com/articles/world/2020-10-13/world-burns)، لكنه سيظل كبيراً لعقود مقبلة. والواقع أنه مع انخفاض الطلب (وهبوط السعر) سوف يتم استبعاد العديد من المنتجين من السوق، مثل أولئك الموجودين في كندا ومنطقة القطب الشمالي الروسية. ويمكن للبلدان الأخرى المنتجة للنفط، التي تسعى للريادة عندما يتعلق الأمر بتغير المناخ ـ مثل النرويج وبريطانيا وأميركا ـ أن تقييد إنتاجها المحلي في المستقبل استجابة للضغط العام المتزايد وتسريع عملية الاستغناء عن الوقود الأحفوري. ونتيجة لذلك، فإن منتجي النفط، مثل دول الخليج – التي لديها نفط منخفض الكربون، وهي دول أقل اعتماداً على المؤسسات المالية التي تبتعد الآن عن النفط، وتواجه ضغوطاً قليلة للحد من الإنتاج – فقد تشهد زيادة في حصصها في السوق. إن توفير المزيد من النفط الذي يستهلكه العالم من شأنه أن يُضفي على الدول المنتجة نفوذاً جيوسياسياً كبيراً، على الأقل حتى ينخفض مستوى الاستخدام. ومن البلدان الأخرى التي قد تصمد صناعاتها النفطية تلك التي يمكن تشغيل مواردها بسرعة وتستطيع جذب المستثمرين الذين يسعون لفترات سداد أسرع وقد يخجلون من الاستثمارات النفطية ذات الدورة الأطول، نظراً لعدم اليقين بشأن مستقبل النفط على المدى الطويل (مثل الأرجنتين وأميركا اللتين تفتخران بمخزونهما من النفط الصخري).
هناك نسخة أكثر كثافة من هذه الديناميكية سوف تنشط في أسواق الغاز الطبيعي. ومع بدء العالم في استخدام كميات أقل من الغاز الطبيعي، فإن حصص السوق للعدد الصغير من اللاعبين الذين يمكنهم الإنتاج بتكلفة أقل ونوعية أكثر نظافة سوف ترتفع، خاصة إذا قررت الدول التي تتخذ إجراءات مناخية قوية الحد من إنتاجها. بالنسبة لأوروبا، يعني ذلك زيادة الاعتماد على الغاز الروسي، خاصة مع تدشين خط أنابيب “نورد ستريم 2” الذي يربط روسيا بألمانيا. إن الدعوات التي أطلقها مشرعون أوروبيون (شتاء 2021-2022) لروسيا لزيادة إنتاجها من الغاز لتجنب أزمة طاقة هي دليل بأن أهمية موسكو بالنسبة لأمن الطاقة في أوروبا ستزداد قبل أن تتراجع.
سلطة الطاقة.. ووضع المعايير:
من أجل فهم الجغرافيا السياسية لعالم ما بعد الوقود الأحفوري، يجب فهم أي عناصر في الطاقة المتجددة سوف تُسفر عن تغيير جيوسياسي (https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2020-04-13/foreign-policy-climate). وهنا أيضاً، يختلف الواقع عن الحكمة التقليدية (من يربح ومن يخسر)، وسوف تبدو عملية الانتقال مختلفة تماماً عن الحالة النهائية. على المدى الطويل، سيحدد الابتكار ورأس المال الرخيص من سيفوز بثورة الطاقة المتجددة. وستهيمن البلدان التي تتمتع بهاتين الصفتين بأربع طرق على الأقل.
أولاً: من لديه القدرة على وضع معايير للطاقة المتجددة ستكون لديه القدرة على الهيمنة (…) وميزة تنافسية على الآخرين. على سبيل المثال، برزت أستراليا وتشيلي واليابان والسعودية كأول من تبنى تجارة الهيدروجين والأمونيا منخفضة الكربون عبر الحدود، وبالتالي قد تكون هذه الدول قادرة على وضع قواعد البنية التحتية ومعايير إصدار الشهادات لمصادر الوقود النظيف. وهذا يعني أن الأفضلية ستكون للتقنيات التكنولوجية والمعدات التي تستخدمها هذه الدول (…)، التي ستكون قادرة أيضاً على استخراج البيانات.
سيكون وضع المعايير أمراً مهماً بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالطاقة النووية. ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية، سيحتاج توليد الطاقة النووية إلى أن يتضاعف من الآن وحتى العام 2050 حتى يتمكن العالم من تحقيق صافي انبعاثات صفرية (…). وهذا من شأنه أن يُمكّنَ موسكو وبكين من التأثير بشكل متزايد على المعايير المتعلقة بعدم انتشار الأسلحة النووية وفرض معايير تشغيلية وأمنية جديدة مصممة لمنح شركاتهما الخاصة دوراً دائماً في قطاع سيحتاج إلى النمو مع تطور عملية الانتقال إلى الطاقة المتجددة.
المعادن “الحرجة”:
المصدر الثاني للهيمنة في عالم الطاقة المتجددة هو التحكم بسلسلة توريد بعض المعادن، مثل الكوبالت والنُحاس والليثيوم والنيكل والأتربة النادرة، التي تُعد ضرورية لمختلف تقنيات الطاقة المتجددة، بما في ذلك توربينات الرياح والمركبات الكهربائية. وهنا، يظل التشبيه بقوة النفط صحيح إلى حد ما. ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية: إذا بدأ العالم في التحرك بسرعة نحو مزيج من طاقة أكثر استدامة، فإن الطلب على مثل هذه المواد سيتجاوز بكثير ما هو متوفر بسهولة اليوم. والدول التي تسير نحو “صفر انبعاثات” في عام 2050 ستحتاج بحلول عام 2040 إلى ستة أضعاف ما تحتاجه اليوم.
في الوقت نفسه، سوف تزدهر تجارة “المعادن الحرجة”(***) عالمياً- من حوالي 10% إلى 50% بحلول عام 2050. لذلك، وخلال فترة التحول، فإن العدد القليل من البلدان التي تزود الغالبية العظمى من بلدان العالم من هذه المعادن سوف تكتسب نفوذاً جديداً. اليوم، هناك بلدٌ واحدٌ فقط يمثل أكثر من نصف العرض العالمي من الكوبالت (الكونغو الديموقراطية)، ونصف إمدادات الليثيوم (أستراليا)، ونصف إمدادات المعادن النادرة (الصين). وعلى النقيض من ذلك، فإن أكبر ثلاث دول منتجة للنفط في العالم اليوم- روسيا والسعودية والولايات المتحدة- تمثل كل منها 10% فقط من إنتاج النفط العالمي. في حين أن البلدان الأصغر والأفقر، مثل الكونغو، قد تكون مترددة في استخدام قوتها المعدنية لممارسة الضغط على الدول الأكثر قوة. وقد أظهرت الصين بالفعل استعدادها للقيام بذلك. وقد يكون الحظر الذي فرضته على تصدير المعادن الحرجة إلى اليابان في عام 2010، في سياق التوترات المتصاعدة في بحر الصين الشرقي، علامة على تطورات مقبلة.
إن سيطرة الصين على مدخلات العديد من تكنولوجيا الطاقة البديلة وبراعتها في التعدين سيمنحها قوة اقتصادية وجيوسياسية حقيقية (https://www.foreignaffairs.com/articles/china/competition-with-china-without-catastrophe) لعقد مقبل من الزمن على أقل تقدير. ولكن على المدى الطويل، سوف يتضاءل هذا التأثير. فكما أدت طفرات أسعار النفط في السبعينيات إلى بروز لاعبين جُدد في عالم الباحثين عن مصادر جديدة للنفط، فإن مجرد احتمال التلاعب السياسي بالمعادن النادرة سينتج الظاهرة نفسها.
قوة التكنولوجيا:
العنصر الثالث لهيمنة الطاقة المتجددة هو القدرة على تصنيع مكونات التكنولوجيات الجديدة بتكلفة زهيدة. ومع ذلك، فإن هذا لن يمنح المزايا نفسها التي يتمتع بها امتلاك موارد النفط أو الغاز. الصين، على سبيل المثال، مسؤول عن تصنيع ثلثي “البولي سيليكون” في العالم و90% من “رقائق” أشباه الموصلات المستخدمة في صناعة خلايا الطاقة الشمسية. ومن خلال إزالة هذه العناصر فجأة من سلاسل التوريد العالمية، يمكن للصين أن تخلق اختناقات كبيرة. ولكن مدخلات منتجات الطاقة المتجددة التي تُنتج أو تُخزن الطاقة ليست مثل الطاقة نفسها. إذا قامت الصين بتقييد صادرات الألواح الشمسية أو البطاريات، فلن تنطفئ الأضواء. ولن تتمكن الصين من وقف الاقتصادات بين عشية وضحاها، أو تعريض رفاهية المواطنين وسلامتهم للخطر كما فعلت روسيا عندما قلَّصت صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا خلال فصول الشتاء الباردة في عامي 2006 و 2009.
من المؤكد أن تصرفات الصين ستخلق اضطراباً وتفككاً وتضخماً شبيهاً بآثار التأخير في صادرات شرائح الكمبيوتر التي حصلت طوال عام 2021. مثل هذه الاضطرابات يمكن أن يعطل عملية الانتقال إلى الطاقة المتجددة إذا شجع المستهلكين على العودة إلى السيارات التي تعمل على البنزين أو إلغاء خطط الاعتماد على الطاقة الشمسية في المنازل والمؤسسات. ومع ذلك، حتى لو تبنت دولة الصين هذا التكتيك، فإن الأسواق ستستجيب مع مرور الوقت، وستقوم بلدان وشركات أخرى بإنتاج منتجات أو إمدادات بديلة خاصة بها، وبطريقة يصعب القيام بها مع مَورِد طبيعي مُتاح فقط في مواقع معينة، مثل النفط.
الهيمنة:
الطريقة الأخيرة التي يمكن أن يصبح بها بلد ما قوة عُظمى مهيمنة في مجال الطاقة البديلة هي من خلال إنتاج وتصدير أنواع وقود منخفض الكربون. سيكون هذا الوقود- وخاصة الهيدروجين والأمونيا- عنصراً حاسماً في الانتقال إلى عالم خالٍ من الانبعاثات، نظراً لدوره في إزالة الكربون من القطاعات التي يصعب كهربتها (مثل إنتاج الصلب، وتزويد الشاحنات والسفن وغيرها من المركبات الثقيلة بالوقود)، وموازنة الشبكات التي يتم توفيرها في المقام الأول من مصادر الطاقة المتجددة التي يمكن أن تعاني من اضطرابات متقطعة. يتوقع سيناريو “صفر انبعاثات بحلول عام 2050” أن ترتفع تجارة الهيدروجين والأمونيا من لا شيء تقريباً (كما هي اليوم) إلى أكثر من ثلث جميع المعاملات المتعلقة بالطاقة. ومع مرور الوقت، من المتوقع أن تتكون إمدادات الهيدروجين في معظمها من الهيدروجين الأخضر المُنتَج في أماكن ذات طاقة متجددة وفيرة ومنخفضة التكلفة، تشيلي ودول الخليج، التي لديها كميات هائلة من الطاقة الشمسية الرخيصة. وبهذه الطريقة، قد تتمكن بعض الدول النفطية المهددة بالابتعاد عن الوقود الأحفوري من تحويل نفسها إلى “دول كهربائية”.
إذا تطورت؛ في نهاية المطاف؛ سوقٌ جديدة ومتنوعة للهيدروجين والأمونيا، يمكن تعويض أي فجوة تقع في موقع ما بإمدادات من مكان آخر، كما هو الحال مع النفط اليوم. وهذا من شأنه أن يُحد من النفوذ الجيوسياسي للموردين المهيمنين. ولكن على المديين القريب والمتوسط، سيؤدي تطور إنتاج وتجارة الوقود منخفض الكربون إلى خلق توترات ومخاطر جيوسياسية. وكما كان الحال بالنسبة للسوق العالمية الناشئة للغاز الطبيعي المُسال قبل عقود، فإن إمدادات الوقود المنخفض الكربون سوف يهيمن عليها في البداية عدد صغير من المنتجين. وهذا يعني أن أمن الطاقة سيواجه مخاطر كبيرة.
مورّدو أنواع الوقود منخفض الكربون، المهيمنون، سيتطورون بمرور الوقت. وقبل أن يصبح الهيدروجين الأخضر (أو الأمونيا، الذي يسهل نقلها ويمكن تحويلها مرة أخرى إلى الهيدروجين) هو المسيطر، فمن المرجح أن يسود الهيدروجين “الأزرق”، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية. الهيدروجين الأزرق مصنوع من الغاز الطبيعي (وبتقنية احتجاز الكربون لتقليل الانبعاثات). قد تظهر البلدان التي تمتلك غازاً رخيصاً وقدرة تخزين جيدة لثاني أكسيد الكربون، مثل قطر والولايات المتحدة، على أنها من أكبر مصدري الهيدروجين الأزرق أو الأمونيا. أما بالنسبة للبلدان التي تفتقر إلى الغاز الطبيعي ولكن لديها القدرة على تخزين ثاني أكسيد الكربون تحت الأرض، فإن الطريقة الأرخص للحصول على الهيدروجين– الذي يصعب نقله لمسافات طويلة– قد تكون باستيراد الغاز الطبيعي ثم تحويله إلى هيدروجين في مواقع تكون قريبة من الأماكن التي سيتم استخدامه فيها. وهذا تترتب عليه المخاطر والتبعيات نفسها التي يمثلها نقل الغاز الطبيعي اليوم. والأسوأ من ذلك، هو البلدان التي تفتقر إلى كل من الغاز وقدرات التخزين، مثل كوريا الجنوبية؛ التي سيتعين عليها استيراد الهيدروجين الأزرق، والهيدروجين الأخضر، والأمونيا؛ ستظل معرضة للخطر حتى يتم تطوير سوق أكبر وأكثر تنوعاً للهيدروجين والأمونيا.
……………
– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز“:
https://www.foreignaffairs.com/articles/world/2021-11-30/geopolitics-energy-green-upheaval
(**) جيسون بوردوف، المدير المؤسس لمركز سياسة الطاقة العالمية في كلية الشؤون الدولية والعامة في جامعة كولومبيا، شارك في تأسيس كلية كولومبيا للمناخ. وميغان إل أوسوليفان، أستاذة في الشؤون الدولية – كلية هارفارد كينيدي ومؤلفة كتاب “المكاسب المفاجئة: كيف تقلب وفرة الطاقة الجديدة السياسة العالمية وتعزز قوة أميركا”.
(***) المعادن الحرجة هي المعادن وغير المعدنية التي تعتبر حيوية للرفاهية الاقتصادية للاقتصادات الرئيسية والناشئة في العالم، ومع ذلك قد يكون إمداداتها معرضة للخطر بسبب الندرة الجيولوجية أو القضايا الجيوسياسية أو السياسة التجارية أو عوامل أخرى.
ـــــــــــــــــــ
* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.