ماجد كيالي *
الوضع الفلسطيني في غاية الصعوبة والتعقيد والأهم أنه بالغ الانكشاف إزاء المداخلات الخارجية العربية والإقليمية والدولية ما يحد من القدرة على التغيير أو التجديد إن لم يجعل منهما أمرا مستحيلا.
حتى الآن لم أقع على أي نصّ سياسي فلسطيني يجيب حقا على الأسئلة التي تطرحها التحديات أو المخاطر أو المشكلات التي يواجهها الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، فما وقع عليه، وهو كثير جدا، مجرد توصيفات وتحليلات، لا أكثر، مع التقدير لكل من حاول وكتب، أما الإجابة على سؤال: ما العمل؟ فكانت فقيرة جدا، أو أتت على شكل رغبات أو شعارات أو عموميات.
ما يلفت الانتباه، أيضا، أن معظم محاولات الإجابة على السؤال الشهير “اللينيني”، “ما العمل؟” أتت متشابهة في كل الأحوال، كرد على الانقسام أو على خطة ترامب “صفقة القرن” أو على خطة الضم لنتنياهو أو على خطوة التطبيع، وهي للأسف تأتي مكررة بين محلل وآخر، ومثقف وآخر، ومفكر وآخر، وإن بتلاوين مختلفة، وعلى الأغلب فهي تأتي على شكل وصفات “روشيتات” صيدلانية، والأهم إنها تصف ذات الدواء لكل داء، فالدواء الأحمر للجروح، والسبيرتو للتطهير، والأسبرين للأوجاع.
المشكلة أن هذه ليست المرة، أو المرحلة، الأولى التي يحصل فيها ذلك، بل إن ذلك يستمر نتيجة عدة عوامل، أهمها:
أولا، عدم مساءلة التجربة الوطنية الفلسطينية، في المراحل السابقة، في الأردن ولبنان والضفة وغزة، وأيضا في ما يتعلق بعدم المساءلة في شأن بناء المنظمة أو السلطة، وعدم مراجعة خيارات المقاومة المسلحة والمفاوضة والانتفاضة، أو خيار التحرير أو التسوية، مع كل التقدير للتضحيات المبذولة، والإنجازات المتحققة، إذ ولا مرة تم إخضاع التجربة الوطنية الفلسطينية للفحص والمراجعة والنقد، رغم أننا نتحدث عن تجربة عمرها 55 عاما.
ثانيا، يحصل ذلك بسبب افتقاد الفلسطينيين لمراكز صنع القرار، وافتقادهم للكوادر أو الهيئات التشريعية التمثيلية الجامعية، في ظل سيادة نمط القيادة الفردية، أو في ظل استئثار جماعة ما أو طبقة سياسية ما بتقرير أحوال الشعب الفلسطيني، وخياراته السياسية، منذ نصف قرن، فحتى المجلس الوطني الفلسطيني لم يجتمع سوى مرتين في ربع قرن (الدورة الـ21 عام 1996 والدورة الـ23 في العام 2018، علما أن الدورة الـ22 لعام 2009 عقدت فقط لترميم عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير).
ثالثا، ما يفاقم من تلك المشكلة مسألتان، أولاهما، افتقاد الفلسطينيين لإقليم واحد، نتيجة تشتتهم وتوزعهم على أكثر من بلد، وعلى نظم سياسية متفاوتة، الأمر الذي يحد من استقلاليتهم في اتخاذ قراراتهم، ويعزز من ذلك اعتمادية حركتهم الوطنية في مواردها على الخارج أكثر من اعتمادها على شعبها. وثانيتهما، تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة، تحت الاحتلال، لجزء من شعب على جزء من الأرض، وهي سلطة، تفرض سيطرتها على غالبية الفلسطينيين، وتتحكم بأحوالهم، وبمواردهم، وتقرر في مصيرهم، في ظروف غياب الإجماعات الوطنية والمؤسسات التمثيلية، التي تشارك في صنع القرارات، وصوغ الخيارات، وتعكس رأي غالبية المجتمع، مع فصائل أضحت جامدة ومفوتة، ولم تعد تضيف شيئا.
المهم أن الحديث عن المخاطر والتحديات التي يواجهها شعب فلسطين وحركته الوطنية تستدعي بداهة الحديث عن البديل، لكن تفحص الواقع، والمعطيات المحيطة، يبين أن القصة ليست على تلك السهولة، وأن الفلسطينيين غير متمكنين من أحوالهم تماما، إلى الدرجة التي يستطيعون فيها تغيير خياراتهم، أو تغيير كياناتهم السياسية.
وفي الحقيقة فإن الوضع الفلسطيني في غاية الصعوبة والتعقيد، والأهم أنه بالغ الانكشاف إزاء المداخلات الخارجية، العربية والإقليمية والدولية، ما يحد من القدرة على التغيير أو التجديد، إن لم يجعل منهما أمرا مستحيلا. ويمكن الحديث هنا عن عدة أسباب، أهمها:
أولا، وجود طبقة سياسية متماسكة في المنظمة والسلطة والفصائل، تسيطر على مجمل موارد ومفاصل ومحركات العمل الفلسطيني، وهي بدورها تستند إلى قاعدة شعبية واسعة، تتكون من قرابة ربع مليون موظف (في السلكين المدني/الخدماتي والأمني)، وهي تمثل مجتمعا قائما بذاته من مليون أو مليون ونصف المليون من الأفراد، من الموظفين وعائلاتهم، الذين يعتمدون في موارد عيشهم على السلطة، في الأراضي الفلسطينية المحتلة (1967).
ثانيا، إن الشرعية الفلسطينية لا تنبع اليوم من الوضع الداخلي، وإنما تنبع أكثر من الوضعين العربي والدولي (وأضيف الإسرائيلي بعد قيام السلطة)، فدون تلك الشرعيات لا يمكن لشرعية فلسطينية أن تستقر وتترسخ.
ثالثا، إن الفلسطينيين يعتمدون في مواردهم، بالنسبة للسلطة والمنظمة، على المعونات الخارجية، التي تتأتى من الدول المانحة (عربية أو أجنبية)، وهذه تعيل قرابة ربع مليون موظف، في وضع لم تشتغل القيادة الفلسطينية فيه على تأمين موارد ذاتية من شعبها أو شبكات دعم اجتماعية، ما جعلها خاضعة لارتهان تلك الدول.
رابعا، واضح أن عدم وجود الفلسطينيين في إقليم مستقل، أو في مجتمع، محدد ومتعين، وتوزعهم في بلدان متعددة، مع خضوعهم لأنظمة سياسية مختلفة ومتباينة، يضعف من قدرتهم على التفاعل وإيجاد حقل سياسي طبيعي، وهذا بدوره يسهل على القيادة الفلسطينية، ويصعب من تخليق مجتمع فلسطيني مدني، كما يصعب من قدرة الفلسطينيين على توليد بديل أو على معارضة السياسات والخيارات التي تنتهجها قيادتهم.
خامسا، المشكلة أن الأزمة الفلسطينية لا تقتصر على المنظمة، أو على السلطة، أو وظائفها، فهي فوق ذلك تطول الفصائل جميعها، فثمة فصائل موجودة في الشكل، أما الفصائل الأخرى فهي لا تعيش حياة داخلية طبيعية، وهي لا تعقد مؤتمراتها، وتعيش حالا من التكلس والترهل ما يؤثر، أيضا، على بنية المنظمة والسلطة.
سادسا، لم يعد الزمن العربي أو الدولي، الذي صعدت فيه المقاومة الفلسطينية، في الستينات والسبعينات هو ذاته، أيضا، باتت ثمة أولويات أخرى للأنظمة، كما للمجتمعات العربية، وثمة انهيار في المبنى الدولي والمجتمعي لبلدان المشرق العربي، بخاصة مع صعود الخطر الإيراني في المنطقة.
طبعا هذا الكلام ليس دعوة إلى اليأس، أو إلى نفض اليد، إزاء ضرورة الدفع بالتغيير والتجديد الفلسطينيين، وإنما هو محاولة لتبيان إشكاليات الوضع الفلسطيني، وصعوبة توليد البديل، للسياسات والبنى والخيارات، في مواجهة بعض الدعوات المتسرعة أو التي تستسهل ذلك.
* كاتب وسياسي فلسطيني
المصدر: العرب
التعليقات مغلقة.