تقديم: [المُحرِرْ]
لقد شَكَّل الاختراق الإسرائيلي للقارة الإفريقية جزء من استراتيجية كبرى أَطَّرت تفكير المشروع الصهيوني منذ مرحلة ما قبل إقامة كيانه الاستيطاني في فلسطين المحتلة سنة 1948؛ إذ كانت المستعمرة البريطانية في إفريقيا، واسمها “أوغندا”، كانت واحدة من المقترحات التي تمّ تقديمها لإقامة كيان عليها يحمل اسم إسرائيل من طرف أبو الحركة الصهيونية “تيودور هيرتزل” حين توجه إلى بريطانيا واقترح على وزير المستعمرات فيها “جوزيف تشامبرلين” إقامة كيان لليهود في شرق إفريقيا، وبالضبط في أوغندا كخيار من الخيارات المطروحة (إلى جانب فلسطين، الأرجنتين…).
هذا الخيار فشل بسبب الانقسام الكبير داخل الحركة الصهيونية حول هذا الموضوع. وهو اقتراح كان يستلهم ما كان يعتبره نجاحاً للتجارب الاستيطانية التي كانت تعرفها إفريقيا حينذاك (في شمال القارة مع الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر، وفي جنوب القارة الإفريقية خاصة: في جنوب إفريقيا، روديسيا وناميبيا…).
لذا فتحت حركة التحرر العربي والإفريقي والعالم ثالثي عيونها على خطورة هذا الاختراق واندماجه في بنية حركة الاستعمار الغربي للقارة والقيام بأدوار وظيفية لتبادل المصالح مع مراكز القرار الرأسمالي الدولي أحيانا، وأداة لها في غالب الأحيان؛ الأمر الذي جعل واحدا من أهم رموز حركة التحرر الصاعدة حينها، وهو «الشهيد المهدي بن بركة»، يدق ناقوس الخطر في “ندوة فلسطين العالمية” المنعقدة بالقاهرة من 30 آذار/ مارس إلى 6 نيسان/ أبريل 1965، أي قبل سبعة أشهر بالضبط من اختطافه واغتياله في باريس يوم 29 تشرين الأول/ أكتوبر من السنة نفسها.
تحولت مداخلة «المهدي بن بركة» في “ندوة فلسطين العالمية” تلك إلى رؤية تتضمن استراتيجية عملية لمواجهة الاختراق الإسرائيلي للقارة السمراء، بعد تشخيص هذا الاختراق ورصد مظاهره وسرد مخاطره على عموم الشعوب الإفريقية ومستقبلها، مما جعل منها وثيقة تأسيسية اعتمدتها حركات التحرر العربي والإفريقي كواحدة من أدبياتها الأساسية. وتأتي أهمية الوثيقة إذن في استلهام روحيتها، وفي ما تقدمه من تحليل عميق للأوضاع في إفريقيا حينها، وتحذيرها من الاختراق الإسرائيلي والصهيوني للقارة ككل.
ويقوم موقع «الحرية أولاً» بإعادة نشر هذه الوثيقة التاريخية على جزئين، بعد التدقيق في بعض معطياتها وشرح بعض المفاهيم وأسماء الأعلام الواردة فيها بالهوامش المقترحة، بحكم المتغيرات التي عرفتها الأوضاع الجيوــ استراتيجية في القارة الإفريقية بعد حوالي ستة عقود من صدورها، لعلها تكون مرشداً للمناضلين العرب والأفارقة بوجه الكيان الصهيوني واختراقاته التطبيعية مع عديد الدول الهشة بشرعيتها الشعبية.
وفيما يلي الجزء الثاني والأخير من الوثيقة:
3- فضح التزييف
من هنا نرى أن الدور الذي تقوم به إسرائيل في إفريقيا من الناحية الفنية والاقتصادية، دورٌ يمكن أن يُحدث مغالطة بالنسبة لهذه الدول وبالنسبة للرأي العام الدولي، فلذلك وجب علينا أن نظهر الحقيقة وأن نفضح التزييف، وأن نبين ما هو الدور الاستعماري من وراء هذا كله.
إن إسرائيل تقول أننا في خدمتكم لإعطائكم نموذجاً للتنمية السريعة كبلد متخلف، إننا نعطيكم صورة في إسرائيل عن مجتمع متخلف يتقدم، وعن مجتمع اشتراكي فما هي الحقيقة من وراء هذا كله؟
الحقيقة سمعناها من الرئيس “أحمد بن بيلا” أيضاً في مؤتمر رؤساء الدول الإفريقية في تموز/ يوليو 1964 حيث قال:
“ هذه الاشتراكية هي التي عرفها كل من عرف جبهات القتال، والاشتراكية التي عرفتها شخصياً في ’كاسينو‘ هي اشتراكية المعسكرات المحصنة. إنها اشتراكية الذين أحيطوا بالخطر والذين جعلوا هذه الاشتراكية ضرورة لبقائهم.
وبعد فذلك لا يمنع إسرائيل من أن تكشف عن وجهها الحقيقي في ميادين نشاطها هنا وهناك وخاصة في قارتنا، حيث تغدو إسرائيل أكثر فأكثر الأداة التي هي في الواقع، هذه الأداة الممتازة، وهذه لأن إسرائيل بلد صغير ولكننا ننسى في أغلب الأحيان أن هذا البلد لا يعيش إلا بإعانات تبلغ ملايين الدولارات لدرجة ثلثي ميزانيتها تقريباً. ومازال هناك من يردد تلك الأسطورة التي تقول بأن إسرائيل هي نواة تقدم. وكل الناس يعلمون والدول العربية تعلم أكثر من غيرها أن إسرائيل بدلاً من أن تكون نواة تقدم في هذه المنطقة العربية فإنها تُجمد الموقف وتشجع القوى الأشد رجعية ”.
1- الأسطورة المتناقضة للتخلف والنمو السريع:
ولنعد للأرقام لنعرف الحقيقة من التزييف في وضع إسرائيل.
نوع السكان في إسرائيل يثبت أنها مجتمع استعماري فـ 37% فقط وُلدوا في إسرائيل و35% جاءوا من أوروبا وأمريكا، وهؤلاء سلوكهم في إسرائيل هو كسلوك المستعمرين في مستعمرات الاستيطان حتى بالنسبة لليهود الذين هاجروا من المناطق المتخلفة ونسبتهم 16% من آسيا و 12% من إفريقيا.
ثم توزيع العمل في إسرائيل هو توزيع غير طبيعي، نجد 1/5 يشتغل في الفلاحة و 3/10 في الصناعة و 1/2 في الخدمات، وهذا مجتمع غير طبيعي.
2- التمويل الخارجي:
ثم هذا مجتمع نجد في تمويله أيضاً عاملاً غير طبيعي وهو العامل الخارجي، فإن المساعدة التي تنالها إسرائيل من الخارج تصل إلى 100 دولار للشخص في كل سنة. ويبلغ بليون دولار لملء هذا العجز بعضها من الولايات المتحدة، وبعضها من جبايات اليهود في العالم، وبعضها من التعويضات الألمانية، (هكذا 7000مليون دولار).
وفي ما يخص الاستثمارات الخاصة بلغ ما ورد منها من الخارج فيما بين سنة 1959 و1962 ما يقرب من 500 مليون دولار، 3/5 من أمريكا الشمالية، ومثل هذا في المبلغ سنة 1964 وحدها، حسبما ورد في الكتاب السنوي الرسمي لإسرائيل سنة 1964 Israel Year Book. أما في ميدان التجارة الخارجية فإن العجز ظل يتراوح بين 300 و 400 مليون دولار في السنة حتى سنة 1962.
ولستُ أريد أن أطيل عليكم في الأرقام وإنما أريد أن ألفت نظركم إلى أنه قد بلغت الضريبة على اليهود في الخارج سنة 1963 مبلغاً قيمته 1435 مليون دولار حسب تصريح “جوزيف مايرهوف” رئيس جمعية الجباية اليهودية الموحدة، مع الملاحظة أن80% من الجباية تحصل من 10% من المتبرعين. معنى هذا 80 % من الجباية اليهودية هي من الاحتكارات الاستعمارية الرأسمالية لا من اليهود العاديين الموجودين خارج فلسطين المحتلة.
فاقتصاد إسرائيل ليس الاقتصاد النموذجي الذي يجب أن تنظر إليه الدول الإفريقية من أجل تنميتها، إنه اقتصاد غير متوازن، إنه اقتصاد طفيلي معتمد على الخارج، إنه اقتصاد كما سماه أحد علماء الاقتصاد “(اقتصاد منقول) أو مزروع” “Economie de Transplantation” مثل الاقتصاد الفرنسي الذي كان منقولاً إلى الجزائر، إنه كان اقتصاداً نامياً ولكن هل كان اقتصاداً جزائريا، أبداً.
وهنا يظهر أيضاً زيف الأسطورة لارتفاع مستوى الدخل القومي الإسرائيلي. إن الإحصاءات التي تنشرها إسرائيل تعطي مثلاً إحصاءات مقارنة بين ما هو الدخل القومي للفرد في إسرائيل والدخل القومي للفرد في البلاد الغربية فنجد مثلاً في نشرة رسمية أيار/ مايو 1964 الدخل الفردي هو 940 دولار في السنة للفرد في إسرائيل، بينما الدخل الفردي في البلاد العربية لا يتجاوز 123 دولار.
كل هذا تزييف، إن الدخل في إسرائيل ليس دخلاً قومياً حقيقياً ما دام الاقتصاد اقتصاداً مصطنعاً ويعيش كالطفيليات. فحينئذ لا يمكن أن نعطي قيمة علمية للاقتصاد الإسرائيلي كنموذج، ولا للأرقام التي تنشر والتي تُستخدم للدلالة عل التقدم وعلى سرعة التقدم.
وهناك أبحاث علمية نشرت أخيراً للدلالة على أن نقل النموذج الإسرائيلي غير ممكن.
3- نموذج للتنمية خاطئ ولا يمكن نقله:
كتب أحد علماء الاقتصاد وهو يهودي وموالٍ لإسرائيل في كتاباته وهو أستاذا في تاريخ الاقتصاد والاجتماع في جامعة زيوريخ، وهو “جان هالبرين” يقول:
“ إن ظروف الانطلاق تختلف كثيراً بين إسرائيل وبين الدول الفتية الحديثة عهداً بالاستقلال إلى حدٍ يستحيل معه أن نجعل من إسرائيل نموذجاً لتلك الدول. ويكفي أن نورد فارقاً واحداً أساسياً هو أن الكادر “الملاكات” كان موجوداً في إسرائيل عند نشأتها بينما البلاد الأخرى مفتقرة لمثل تلك الملاكات أشد الافتقار، وشتان بين مستوى شعوبها الثقافي، وبين المستوى التي بدأت معه إسرائيل عند تأسيسيها بفضل الهجرة الأوروبية ”.
وقد أكدت أبحاث أخرى علمية تفصيلة هذا المعنى، فقد صدر كتاب في فرنسا أخيراً للاقتصادي (“جوزيف زلاتزمان”“Joseph zlatzmann”) دروس في التجربة الإسرائيلية (Enseignements et L’Expérience israélienne. Collection Tiers Monde).
هذا الكتاب أيضاً يثبت أن تجربة الكيبوتزيم(16) لا يمكن أن تُنقل إلى البلاد النامية سواءٌ لاستحالة توفير الظروف المالية، أو بسبب فقدان الجهاز من الخبراء الموجودين في إسرائيل (ص 157- 158) وزاد قائلاً: “ إن بعض القرارات الاقتصادية في إسرائيل هي في الحقيقة قرارات سياسية ”. ويشير هنا إلى إنشاء بعض الكيبوتزات على الحدود لا كتجمعات فلاحية ولكن كمعسكرات محصنة.
وهناك أخصائي آخر، أستاذ في الجغرافية “الأستاذ جون دريش(17) Dresch” سُئل في ندوة طلابية في باريس في كانون الثاني/ يناير 1962، وكانت هذه الندوة مخصصة لموضوع الإصلاح الزراعي في بلاد المغرب العربي، وكان الأستاذ ’دريش‘ قد أورد أمثلة كثيرة عن الإصلاح الزراعي التقدمي، وسئل لماذا لم يورِد مثال إسرائيل في هذا الباب، فأجاب قائلا:
“ إن هذا المثال مثالٌ خاطئ لأن التجربة الإسرائيلية ليست تجربة اشتراكية وليست إصلاحاً زراعياً، علاوة على مشاكل الديون التي تتخبط فيها هذه المؤسسات لأنها تعيش في إطار رأسمالي ”.
بعد أن تبين لنا زيف هذا النموذج الاقتصادي الذي يُقَدَّم لإفريقيا، يحق لنا أن نتساءل إذا كان هذا النموذج غير صالح، فما هي مهمته الاستعمارية؟ وما هو هذا الدور الاستعماري لإسرائيل؟
أعتقد أولاً أن مجرد تقديم نموذج خاطئ للتنمية لدولة حديثةْ عهد بالاستقلال هي خدمة للاستعمار، لأن هذا عامل تضليل وتعطيل بالنسبة لهذه الدول.
ولكن هناك مظاهر أبرز من هذا لخدمة الاستعمار. هناك أولاً روابط إسرائيل بالدولة الأكثر إمعاناً في الاستعمار في إفريقيا، وهي إفريقيا الجنوبية، وهذا الموضوع قلّما يتكلم عنه الذين يتحدثون عن إسرائيل. فإسرائيل لها اتصال وثيق بالحكومة الفاشية في جنوب إفريقيا. ويكفي أن نقول مثلاً إن نسبة التجارة مع جنوب إفريقيا في مجموع التجارة الإفريقية، إذا أضفنا إليها أيضاً التجارة مع المستعمرات البرتغالية، تصل إلى 29% في سنة 1961 ونسبة 20% في سنة 1962 و 25% في سنة 1963 وحوالي 20% سنة 1964. نعم هناك انخفاض بعد سنة 1962 بسبب افتتاح أسواق جديدة لإسرائيل في البلاد الحديثة العهد بالاستقلال. ولكن أهم من ذلك العلاقة المالية بين جنوب إفريقيا وإسرائيل، فإن إسرائيل كانت لها ميزة وحدها من سائر الدول، وهي أن كان لها الحق وحدها أن تنقل الأموال بدون مراقبة من جنوب إفريقيا إلى غاية سنة 1962.
لماذا تغيرت هذه الميزة؟ لسبب بسيط هو أن إسرائيل اتخذت موقفاً لمجاراة التيار الإفريقي ضد جنوب إفريقيا، فكان عِقابها أن فُرِضت عليها نفس الرقابة المفروضة على إنجلترا من أجل نقل الأموال، ولكن ذلك لم يغير شيئاً من الروابط الاقتصادية الموجودة بين جنوب إفريقيا وإسرائيل.
وهناك دور استعماري خطير لا بد أن ننتبه إليه، وهو دور الخبراء و دور المتدربين. فقد قلت لكم أيضاً إن هناك بعض التدريبات المُريبة، مثلاً اهتمام إسرائيل بالذات بالنساء، اهتمامها بالشباب وتدريبهم مثلاً على تنظيم منظمات شبيهة بالمنظمات الموجودة في إسرائيل ثم بالخصوص التدريبات العسكرية وتدريبات الشرطة. فإن الجيش الذي يحارب به الاستعمار في الكونغو، جيش “موبوتو سيسيكو”، دُرب قسم المظلات منه في إسرائيل. ويوجد الآن في الكونغو خبراء إسرائيليون مع الجيش الاستعماري. وهناك أيضاً تدريباً حصل لبعض الدول الأخرى في الشرطة وفي المخابرات.
وإذا أردنا أن ندرك خطورة هذه التدريبات فلنُلق نظرة على ما جاء في الصحف أمس. قرأنا بالأمس في تحقيق عن حوادث الكونغو الأخيرة التي تجري الآن، حول الهجوم الأخير الذي وقع على الثوريين في الكونغو(18):
“ إن هناك حقيقة أكثر خطورة فلقد قال لي قادة الثورة الكونغولية، إن إسرائيل تقوم بتدريب جيش أوغندا الذي لا يزيد تعداده عن كتيبتين. وسلاح الطيران الأوغندي عبارة عن بضع طائرات إسرائيلية، وجميع الطيارين من الضباط الإسرائيليين، كما أن قوات حدود أوغندا يشرف على تدريبها وتنظيمها خبراء إسرائيليون. وقال إن لإسرائيل داخل حكومة أوغندا أعواناً يحتلون أكبر المناصب. وقد سبق أن قال لي أحد كبار العسكريين الإفريقيين في جيش أوغندا بأن رئيس الوزراء “ميلتون أوبوتي” يشعر بخطورة النفوذ الإسرائيلي في بلاده، فقد بلغ من تغلغل نفوذهم أن رئيس الوزراء نفسه لا يستطيع أن يتحدث مع أحد تلفونيا في أمر هام لأن تليفونه مراقب، وحكى لي أنه عندما أغارت الطائرات الأمريكية التابعة لحكومة “مويس تشومبي”(19) على أراضي أوغندا مرتين، أصدر رئيس الوزراء أوامره إلى سلاح الطيران برد العدوان وإسقاط الطائرات المغيرة، ولكن الطائرات الإسرائيلية كانت تحلق في السماء ثم تعود إلى قاعدتها في مدينة “عَنْتِيبي”(20)، لتُبلغ بأنها لم تلحَق بطائرات العدو ”.
تلك هي حقيقة الدور الاستعماري في إفريقيا. وقد أكد بالأمس في ندوة صحفية “كريستوف جيبيني”(21) رئيس الثورة الكونغولية بأن إسرائيل تلعب دور تواطؤ مع رئيس الدولة في أوغندا الذي هو سلطان يسمى “الكابـكا” يعني من بقايا أحد الملوك.
هذا الرجل بتواطؤ مع إسرائيل ضد حكومته نفسها وضد “أوبوتي” نفسه.
4- مراحل المعركة لفضح الدور الاستعماري:
فهناك حينئذ معركة بيننا كعرب وكمناضلين ثوريين، وبين هذا التسرب الإسرائيلي. وهذه المعركة يجب أن نعترف أن لها مداً وجزراً، وإننا تارة نكون منتصرين وتارة يكون الاستعمار له الأسبقية في الميدان.
وقد استمرت هذه المعركة سجالاً بيننا وبين الاستعمار في ما يخص الدور الاستعماري لإسرائيل منذ مؤتمر باندونغ. ويجب القول هنا بأن الفضل يرجع إلى الرئيس جمال عبد الناصر بوضع القضية لأول مرة على الصعيد الدولي، بعد أن مُنعت إسرائيل من حضور مؤتمر باندونغ، رغم تدخلات دولتين آسيويتين “الهند وبرمانيا(22)” إذ ذاك لقبولها، فقد استُبعِدت إسرائيل، واتُّخذ، لأول مرة قرار يدين ويفضح هذا الدور الذي تقوم به إسرائيل في السياسة الاستعمارية. يقول بيان المؤتمر المنعقد في مدينة باندونغ الإندونيسية (18- 24) نيسان/ أبريل 1955:
“ نظراً للتوتر السائد في الشرق الأدنى، هذا التوتر الذي أحدثه الوضع في فلسطين، ونظراً للخطر الذي يشكله هذا التوتر ضد السلام العالمي، فإن مؤتمر دول آسيا وإفريقيا يعلن تأييده لحقوق الشعب العربي في فلسطين ويُطالب بتطبيق قرارات الأمم المتحدة وتحقيق حل سلمي للقضية الفلسطينية ”.
وتلك أول مرة اتخذ فيها مثل هذا الموقف بفضل المشاركة العربية الثورية في هذا المؤتمر. إلا أن المواقف الحكومية في الحقيقة لم تكن دائماً في خط مستقيم، بينما مواقف المنظمات الشعبية استمرت في خط عدائي للاستعمار؛ فقد عُقد في القاهرة (من 26 كانون الأول/ ديسمبر 1957- 10 كانون الثاني/ يناير 1958) أول مؤتمر شعبي آسيوي إفريقي. أعلن هذا المؤتمر لأول مرة أن دولة إسرائيل “قاعدة استعمارية تهدد تقدم الشرق الأوسط وسلامته”. وأدان المؤتمر سياسة إسرائيل العدوانية التي تشكل خطراً على السِّلم العالمي، ” وأكد المؤتمر حقوق العرب في فلسطين وأعلن عطفه على اللاجئين الفلسطينيين وتأييده جميع حقوقهم وعودتهم إلى وطنهم ”.
تلك أول خطوة دولية خارج المحيط العربي لإظهار الحقيقة، ولإعلان حق الشعب العربي في فلسطين، وتوالت المؤتمرات كما قلت لكم.
انعقد في نيسان/ أبريل 1958 مؤتمر دول إفريقيا بـ“أكـرا” وهذا المؤتمر اتخذ قراراً بسيطاً عبر فيه عن “ قلقه العميق حول قضية فلسطين التي تشكل عاملاً يهدد الأمن والسلام العالميين ” ويطالب بحل عادل لهذه القضية.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 1958 اجتمعت منظمة الشعوب الإفريقية، ولكن قرارها في هذه المرة تأثر بالمناخ الإفريقي إذ ذاك ولم يهاجم إسرائيل كأداة للاستعمار.
وفي نيسان/ أبريل 1960 اجتمعت منظمة التضامن الإفريقي الآسيوي في “كوناكري” واتخذت قراراً واضحاً في هذا الموضوع، لم يشذ عنه إلا مندوب ليبريا، ولا زلتُ أذكره وهو يعتذر بقوله؟ “ إذا اتخذتُ معكم هذا القرار فإنني سأطرد من حكومتي ”.
وفي آذار/ مارس 1961 اجتمعت منظمة الشعوب الإفريقية في القاهرة، وأعلنت إذ ذاك في قرار واضح حول الاستعمار الجديد، حللته وعرَّفت بحقيقته وبأدواته وأعلنت أن “ إسرائيل دعامة للاستعمار الجديد، وتشكل تهديداً خطيراً على البلاد الإفريقية التي نالت استقلالها حديثاً أو التي على وشك أن تنال الاستقلال ”. وكُرر هذا القرار نفسه في باندونغ في اجتماع للتضامن الآسيوي الإفريقي.
وانعقد مؤتمر الدار البيضاء وهنا استطاعت أيضاً القيادة الثورية العربية أن تفرض قراراً واضحاً في هذا الموضوع؛ إذ أعلن بعد التحذير من الخطر الناتج عن الوضع الراهن في فلسطين والناتج عن حرمان عرب فلسطين من حقوقهم، وإعلان ضرورة حل القضية حلاً عادلاً يرد إلى عرب فلسطين حقوقهم كاملة، ما يلي:
“ يلاحِظ المؤتمر باستنكار أن إسرائيل دأبت دائماً على مناصرة الاستعمار كلما جرى بحث للمسائل الهامة المتعلقة بإفريقيا ولا سيما مسائل الجزائر والكونغو والتجارب الذرية في إفريقيا، ولذلك يُندد المؤتمر بإسرائيل بوصفها أداةً لخدمة الاستعمار بنوعيه القديم والجديد، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل وفي إفريقيا كلها، ويدعو المؤتمر كافة الدول في إفريقيا وآسيا إلى الوقوف أمام هذه السياسة الجديدة التي يستخدمها الاستعمار في خلق قواعد له ”.
هذا قرار مهم لأنه لأول مرة أمضاه، ووقع عليه، ممثلون عن ثلاث دول إفريقية (غينيا- غانا- مالي) لها تبادل دبلوماسي مع إسرائيل. ولكن في الحقيقة لم يكن له مفعول، لم يكن له أثر فعلي، ذلك لأن ظروف مؤتمر الدار البيضاء في الحقيقة كانت ظروفاً مُزيفة. بعض الدول اجتمعت للدفاع عن نفسها، وبعض الدول لتسّتر خيانتها بالنسبة للكونغو. والحقيقـة أنه كانت مناسبة أخرى لتضليل الشعوب عن طريق بعض المؤتمرات التي يلعب فيها الاستعمار الجديد دوره.
وبدأت بعد قرار الدار البيضاء حرب دبلوماسية بين إسرائيل وبين القيادة العربية الثورية المتمثلة في القاهرة. وبدأت القاهرة تدعو الزعماء الأفارقة لتبين لهم حقيقة الوضع بالنسبة للمعركة العربية، بينما إسرائيل أيضاً توالي دعواتها للرؤساء الأفارقة. وكانت سنتا 1961/1962 سنتين لتبادل الزيارات بين المعسكر الثوري العربي وبين الرؤساء الأفارقة، وبين المعسكر الاستعماري المتمثل في إسرائيل وبين الرؤساء الأفارقة.
وانعقد مؤتمر دول عدم الانحياز في أيلول/ سبتمبر 1961، ولكن في هذه المناسبة سجل الاستعمار انتصاراً حيث أنه لم يُتخذ قرار واضح بنفس الوضوح الذي كان عليه قرار مؤتمر باندونج، ولم يكن أيضاً بنفس الوضوح الذي كان عليه قرار دول عدم الانحياز في القاهرة بعد ذلك بسنتين، في تشرين الأول/ أكتوبر 1963.
أخذت إسرائيل تعتبر أنها بدأت تنجح في مهمتها الدبلوماسية، ولهذا بالذات بدأت الدول الإفريقية باتخاذ موقف ضد جنوب إفريقيا في الأمم المتحدة. ونجحت إسرائيل أيضاً، حيث إنها استطاعت أن تتقدم، باسم وجهة نظرها، 8 دول من إفريقيا وأمريكا اللاتينية بقرار ينادي بالمفاوضة المباشرة على الشكل الذي تطالب به إسرائيل، وإن كان هذا القرار لم ينجح حيث أنه رُفض بـ 46 صوتاً ضد 34 وامتناع 20 ولكنه كان يدل إذ ذاك على بعض النجاح الذي حصلت عليه إسرائيل في الميدان الدولي. وجاء مؤتمر أديس أبابا، وسجل أيضاً هذا المؤتمر بعض النجاح حيث إنه لم يُتخذ أي قرار في موضوع إسرائيل.
وحتى عندما كانت تتخذ بعض الدول الإفريقية بعض المواقف المعادية لإسرائيل، مثلما شهدنا في الدار البيضاء، فإن إسرائيل كانت تستمر في نشاطها الاقتصادي مع تلك الدول. كتبت مثلاً مجلة “الميدل إيست جورنال” قائلة:
“ إنه رغم اتخاذ الدول الإفريقية قرارات وتصريحات غير ودية نحو إسرائيل، فإن تلك الدول ما تزال تعلق أهمية على الاحتفاظ بعلاقاتها مع إسرائيل، وكأنها ترى في تلك التصريحات مجرد مواقف سياسية شكلية لا تمس بأي حال الروابط المُنتجة والمفيدة فنياً واقتصادياً مع إسرائيل، وفي نفس الوقت، فإن إسرائيل تشعر بأن وجود هذه الروابط يساعدها على مواصلة تحقيق مصلحتها القومية ”.
5- الموقف منذ نهاية سنة 1964:
كنا في هذه الفترة في الحقيقة في فترةِ مَدٍّ استعماري، ولكن هذا المد انتهى، وتغير الموقف في آخر سنة 1964، خاصة في الصيف الماضي وبمناسبة المؤتمر الأخير للدول الإفريقية ولدول عدم الانحياز هنا في القاهرة، حيث اتُّخذ قرار صريح في موضوع إسرائيل، وكتبتْ إذ ذاك الصحافة الإسرائيلية تأسف على هذا التغيير لدى دول آسيا وإفريقيا في تشرين الأول/ أكتوبر من سنة 1964. تقول مجلة “إسرائيل إيكونوميست”:
“ إننا نجد إلى جانب العرب مجموعـة من الدول تتخذ من إسرائيل في الميدان السياسي موقفاً بارداً إن لم نقل عدائياً وهي إندونيسيا، أفغانستان، الهند، باكستان، الصومال، غينيا، وبعض الدول الاشتراكية مثل الصين الشعبية وشمال فيتنام وشمال كوريا ”.
كانت تتحدث الصحيفة عن سياسة الدول الآسيوية والإفريقية بالنسبة لإسرائيل، وهنا أظهرت المجلة الشبيهة بالرسمية امتعاضاً كبيراً بالنسبة لتغــير موقف الهند وموقف غينيا بالنسبة لإسرائيل:
“ وهناك من جهة أخرى دول ما تزال تأخذ مبادرات الدفاع عن إسرائيل ضد هجومات العرب في الميدان الدبلوماسي ومنها: برمانيا، ساحل العاج، فولتا العليا، إفريقيا الوسطى، مدغشقر والنيبال ”.
وشعرت إسرائيل فعلاً بالخطر، وقامت “غولدا مائير” في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر 1964 برحلة عبر إفريقيا وواجهت في هذه الرحلة متاعب وخاصة في نيجيريا، واضطرت الصحافة الاستعمارية هناك أن تجند نفسها للدفاع عن إسرائيل، وفضحت غولدا مائير نفسها في ندوة صحفية عندما تحدثت عن الكونغو، ودافعت عن وجهة نظر الاستعمار في الكونغو.
إنه تحوّل في الموقف. وهذا التحول يجب أن نسهر عليه، ويجب أن نعالجه حتى يستمر وحتى يكون المد الثوري أغلب من المناورات الاستعمارية.
6- عوامل النجاح:
وهناك الآن عوامل كثيرة للنجاح يجب أن نسجلها ويجب أن ننتبه إليها. هناك المناخ الجديد في إفريقيا، وبالنسبة للثورة العربية المناخ الجديد الذي أحدثته الانتصارات السياسية والاجتماعية العربية، سواءٌ في المشرق العربي، وفي المغرب العربي، في قاعدة الثورة العربية في المغرب العربي التي هي الجزائر. يجب أن ندرك أن قيام حـكم ثوري في الجزائر كان له دور أساسي في تغيير المفاهيم الإفريقية لدور إسرائيل في إفريقيا.
ثم هناك تجربة عربية في المشرق والمغرب لبناء مجتمع متقدم حقيقة لا يعتمد كالطفيليات على المساعدة الأجنبية، ولكن يعتمد أولاً على نفسه، ولا تكون المساعدة الأجنبية إلا من قبيل أشكال التبادل التي تفرضها الظروف الاقتصادية والتي لا تتنافى مع قواعد التنمية الاقتصادية السليمة.
وهذه التجارب العربية لا تخضع للاستعمار ولا تخضع للاحتكارات الرأسمالية ولا لِحليفيْها الإقطاع والبرجوازية العميلة والمستغِلة. هذه التجارب ستلعب دوراً كبيراً لإقناع المسؤولين في إفريقيا، في إقناع المنظمات الشعبية أولاً وهي في أغلبها مقتنعة، وإقناع المسؤولين الحكوميين ثانياً، بأن المعركة العربية هي معركة ثورية للتحرر والبناء، وهي معركة تحمل لواء التقدم الإنساني والاشتراكية والحرية.
وإن تلك القواعد المادية للثورة العربية في المشرق والمغرب، هي التي ستُمكننا وتُمكِّن قضية فلسطين من أن تخرج من إطارها العاطفي إلى إطارها العملي، حتى يتحقق التحرير الفعلي لفلسطين.
إن قضية فلسطين اليوم دخلت في إطار قضايا حركة التحرر العالمية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي لم تعد قضية عرب ويهود، بل حركة عربية ثورية ضد قوى الاستعمار بلا تعصب عنصري. فلذلك وبسبب هذا المفهوم الإنساني والعملي لقضية فلسطين، يمكننا أن نعتمد على القوى التقدمية والثورية في إفريقيا لتدرك حقيقة هذه القضية، ولتقف بجانب العرب في نضالهم العادل.
يبقى ما هو النموذج الذي يجب أن تسير عليه المعركة التحريرية في فلسطين، هذا النموذج مرتبط بالظروف الخاصة بفلسطين، ولكنه لا يختلف عن النماذج الأخرى التي عرفناها في آسيا وفي إفريقيا وفي أمريكا اللاتينية.
وإن خلاصة القول في هذا الموضوع هي ما ورد على لسان الرئيس جمال عبد الناصر في مؤتمر رؤساء الدول الإفريقية، حيث قال:
“ إن ما حدث لشعب فلسطين شبيه بما حدث لشعب إفريقيا، جاءها المستوطنون الغرباء تحت دعوى السيادة العنصرية. سرقوا الأرض وطردوا أصحابها الأصليين ولم يجدوا سَنَدا من غير الاستعمار يساعدهم ليكونوا أداة له في صوره المختلفة ”.
وكان هذا النداء متجاوباً مع وجهة النظر الثورية الإفريقية، حيث أجاب رئيس مؤتمر الدول الإفريقية في تموز/ يوليو 1964 السيد “أحمد سيكوتوري”؛ إذ قال:
“ إن النداء العاطفي الحار على مستوى عالٍ للضمير الحي، هذا النداء الذي وجهه الآن أخونا وصديقنا رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر في خطابه الافتتاحي لن يذهب دون أن يترك له صدى عظيماً في نفوسنا، وإن هذا المؤتمر قد سجل بروح الارتياح هذا النداء باعتباره خير سبيلٍ نسلكه وخير مسلك فعال يمكن لمؤتمرنا أن يسلكه ليحقق الأماني العميقة للشعوب الإفريقية عند دراسة جميع المشكلات التي تشغل بال الأفارقة بروح إفريقية وروح واقعية، مع العزم الصارم على أن نجد جميعاً حلولاً صائبة رشيدة، ومع التصميم الأكيد على أن نكفل بالعمل الملموس تحرير شعوبنا وسعادتها. ليس هذا فحسب، بل نعمل على خلق عالم جديد، ذلك العالم الذي ننشده ونحلم به جميعاً، عالم العدالة والسلام ”.
هوامش توضيحية:
(16)- (مستوطنة زراعية وعسكرية)..
(17)- (Jean Dresch جغرافي فرنسي (30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1905- 4 آذار/ مارس 1994)..
(18)- (الأهرام، عدد الأربعاء في 31 آذار/ مارس 1965)..
(19)- (أحد عملاء الاستعمار البلجيكي، قاتل الشهيد لومومبا وقائد حركة انفصال كاتانغا عن الكونغو بعد استقلالها)..
(20)- (كانت عاصمة أوغندا قبل استقلالها سنة 1962)..
(21)- (أحد قادة الثورة الكونغولية الذين أسسوا سنة 1964 “الحركة الثورية لتحرير الكونغو” تحت اسم “سيمبا”، وتعني الأسد باللغة السواحلية، بمشاركة “بير موليلي” و”غاستون ساموليت” لمواجهة نظام “موبوتو سيسيكو” العميل للمخابرات الغربية)..
(22)- (جمهورية ميانمار حالياً)..
ـــــــــــــــــــــــــــ
* مناضل وسياسي مغربي، وقومي عربي، كان قبل اختطافه واغتياله عام 1965 قائداً للمعارضة المغربية ومدافعاً عن قضايا الحرية والسلام في العالم.
(**) مداخلة الشهيد المهدي بن بركة في ندوة فلسطين العالمية بالقاهرة بين 30 آذار/ مارس إلى 6 نيسان/ أبريل 1965، قبل أشهر من اختطافه واغتياله.
المصدر: ”هسبريس” المغربية و”الحوار المتمدن”
التعليقات مغلقة.