منى فرح *
الحاكم المستقبلي للسعودية، صاحب رؤية تشبه حلم “حركة عدم الانحياز” في السبعينيات، وهو لن يقبل بأن تبقى بلاده لاعباً من الدرجة الثانية. ويعتقد أن للرياض الحق في العمل مع كوكبة متغيرة من الشركاء من أجل تحريك الأسواق وتشكيل نتائج سياسية مفيدة لبلاده. “ولن يتمكن أحد من منعه”، بحسب تقرير لـ“كارين إي. يونغ” نشره موقع “فورين أفيرز”.
في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر، وافقت منظمة البلدان المصدرة للبترول والدول العشر الشريكة لها على خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً. كان القرار متوقعاً وصادماً في آن واحد. كان متوقعاً لأن “أوبك بلاس” سبق وأوضحت أنها ستُخفض الإنتاج. وكان صادماً لأن السعودية تربطها بالولايات المتحدة شراكة أمنية وثيقة، ومع ذلك لم تستمع لنداءات متكررة للحفاظ على مستوى الإنتاج كما هو (…) لا سيما في ضوء ارتفاع أسعار النفط والضغوط الناتجة عن ارتفاع معدلات التضخم في العالم. فالاجتماع الذي عقده وزير الطاقة السعودي عبدالعزيز بن سلمان آل سعود، مع نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك (المشمول بالعقوبات الأميركية) للإعلان عن خفض الإنتاج أصاب البيت الأبيض بصدمة، وهو الذي اعتقد أنه توصل إلى اتفاق خاص مع الرياض لزيادة الإمدادات (خلال قمة جدة)، وفقاً لتقرير حديث نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”.
صانعو السياسات والمحللون الأميركيون انتقدوا الرياض لاستقلاليتها المفاجئة. كذلك انتقدوا الرئيس جو بايدن بسبب طريقته غير الأنيقة لعقد صفقات. فخلال حملته الانتخابية، غالباً ما ندَّد بايدن بولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان (MBS)، بسبب سجله في مجال حقوق الإنسان. ومع ذلك سعى ليلتقي به في تموز/ يوليو الماضي. بالنسبة لبعض المحللين، فإن قرار خفض الإنتاج دليل على أن الرياض لن تكون أبداً شريكاً موثوقاً (أو مُطيعاً)، وأن زيارة بايدن لبن سلمان كانت خطأً سياسياً (…).
“عدم انحياز” جديدة:
واشنطن؛ التي اتخذت قرارات مزعجة بالنسبة للسعوديين؛ ينقصها فهم كيف تصوغ السعودية اليوم سياستها الاقتصادية والخارجية. ببساطة، تستعد هذه المملكة، تحت إشراف MBS، لإدارة اقتصاد سياسي عالمي يختلف كلياً عما كان، وتحديداً عن ذلك الذي تتصوره إدارة بايدن (https://www.foreignaffairs.com/topics/biden-administration). وكان البيت الأبيض قد ركَّز في استراتيجيته للأمن القومي، التي صدرت حديثاً، على كيفية الفوز في منافسة الصين (…).
صحيح أن كلاً من الديموقراطيين والجمهوريين أصبحوا أقل دعماً للشراكة الثنائية مع السعودية، إلَّا أن السياسة الخارجية الأميركية (https://www.foreignaffairs.com/topics/us-foreign-policy) قد لا تكون السبب الرئيسي لتصدع العلاقات. في الواقع، تُجري الرياض تغييرات رئيسية في سياساتها الداخلية والخارجية. وMBS لن يقبل بأن تبقى بلاده لاعباً من الدرجة الثانية في نظام دولي متشعب شبيه بالنظام الذي كان قائماً خلال الحرب الباردة. فهو يرى أن النظام الجيوسياسي الناشئ مرن، ويتألف من مجموعة من الأجزاء المتشابكة. وبالتالي، هو يعتقد أن للرياض حق في العمل مع كوكبة متغيرة من الشركاء من أجل تحريك الأسواق وتشكيل نتائج سياسية مفيدة لبلاده. وهو يعتقد كذلك أن السعودية ستضطر إلى حماية اقتصادها مع تقلب الطلب العالمي على الطاقة والنفط. وإذا نجحت، فلن يتمكن أحد من منعها من شق مسار مستقل وتولي ريادة نوع مختلف من التنمية الاقتصادية. هذه الرؤية تشبه حلم “حركة عدم الانحياز” في السبعينيات، باستثناء أن السمة الموحدة هي الانتهازية القومية وليس الصحوة ما بعد الاستعمار.
قد يكون MBS على حق. فالعالم اليوم يدخل فترة من انعدام الأمن في مجال الطاقة، والطلب على الهيدروكربونات سيتزايد ولمدة 20 عاماً على الأقل. وهذا يمكن أن يمنح المملكة مزيداً من القوة. لقد أصبح النظام الدولي أكثر مرونة. ويمكن لاقتصادات السوق الناشئة بشكل عام، والأسواق السعودية (https://www.foreignaffairs.com/regions/saudi-arabia) على وجه الخصوص، أن تطور دوراً جوهرياً لها في الشؤون العالمية.
العالم بين يديك!
من وجهة نظر الرياض، المستقبل هو للأسواق الناشئة، التي شكَّلت 67% من إجمالي الناتج المحلي العالمي (بين 2011-2021)، وهي تمثل اليوم 49%. ومن المتوقع أن تنمو خلال السنوات الأربع المقبلة بمعدل 3.9% سنوياً؛ أي أسرع من تلك الموجودة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ وبالتالي قد تشكل حصة متزايدة من حجم التجارة العالمية.
في الواقع، تُعَدْ السعودية واحدة من أهم الأسواق الناشئة في العالم، وفقاً لقادتها. فهي موطن لاقتصاد كبير مع ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، تُصدّر ما يكفي من النفط للتأثير على أسعار الطاقة العالمية، واستضافت قمة “مجموعة العشرين” في العام 2020. وقبل أربع سنوات من هذا الحدث، كشفت النقاب عن رؤيتها للعام 2030، التي تقدم مستقبلاً طموحاً تتوقف فيه الدولة عن الاعتماد على الوقود الكربوني وتبني مدناً مستقبلية يمكنها تحمل جميع مخاطر المناخ.
“خطة 2030” منحت المواطنين السعوديين والمسؤولين الحكوميين؛ على حد سواء؛ ثقة عارمة. فدول الخليج، وبينها السعودية، ترى نفسها الآن كنماذج للنمو والتنمية، وتشعر بالحاجة إلى إعادة توجيه تحالفاتها للتحضير لنظام عالمي ربما يكون أقل استقراراً في حقبة ما بعد أميركا. “أوبك بلاس” هو نموذج عن المستقبل الذي يخطط له السعوديون (…)، ودليل على أنهم على استعداد لتحدي الأميركيين من أجل تحقيق أهدافهم.
الشراكة الروسية-السعودية، التي أُطلقت كجزء من “أوبك بلاس”، هي بمثابة “رمز خاص” لوجهة نظر الرياض لسياستها الخارجية الجديدة.. في عام 2010، بدأت الولايات المتحدة في إنتاج كميات أكبر وأكبر من النفط الصخري، ما أدَّى إلى إغراق الأسواق العالمية وانخفاض الأسعار. وقد شكَّل ذلك تحدياً للدور التقليدي للسعودية كمصدر مهيمن للطاقة الفائضة في أسواق النفط، وقوَّض قدرتها على التحكم في الإمدادات العالمية. ولكن من خلال الشراكة مع روسيا، يمكن للسعودية أن تخلق رافعة أكثر سيطرة وتحكماً لإجبار أسعار النفط على الانخفاض، مما يؤدي إلى تجويع منافستها الأميركية للاستثمار من خلال تصعيب حصول الشركات الأميركية على أرباح (…). يُذكر أن الشراكة الروسية السعودية كانت أقل في آذار/مارس 2020، عندما انهارت السوق الآسيوية للنفط تحت وطأة جائحة كورونا، مما وضع كلا البلدين في منافسة شرسة. ومع ذلك، لا تزال موسكو والرياض تعتبران أن التنسيق بينهما أفضل طريقة للتقدم في اقتصاد عالمي يحتاج إلى النفط (…).
من منظور تجاري، أعطى الغزو الروسي لأوكرانيا (https://www.foreignaffairs.com/tags/war-ukraine) السعوديين مزيداً من الأسباب لمواصلة الشراكة مع روسيا. وترى الرياض أن الإجراءات المنسقة التي يتخذها الغرب من أجل السيطرة على واردات الطاقة الروسية وقمعها، بما في ذلك وضع سقف لسعر النفط الروسي، هي “كارتل” للمشترين يهدد الاقتصاد السعودي (…).
لا شك أن واشنطن لديها القليل من الصبر حيال حسابات الرياض التجارية. وهي تنظر إلى قرار خفض إنتاج النفط على أنه “صفعة على الوجه، ورفض للشراكة الثنائية”. لكن من وجهة نظر MBS للعالم، فإن ما تعتقده واشنطن ليس حاسماً. يمكن للرياض العمل مع أي شخص عندما يكون ذلك مناسباً، وهذا يعني أن المملكة تستطيع تحقيق التوازن بين شراكاتها التجارية – بما في ذلك مع روسيا (http://-https//www.foreignaffairs.com/regions/russian-federation)– جنباً إلى جنب مع احتياجاتها الأمنية، والتي تعتمد فيها بشكل كبير على الولايات المتحدة.
العديد من صانعي السياسة الأميركيين دعوا البيت الأبيض إلى التهديد بخفض مبيعات الأسلحة لإظهار أن توازن محمد بن سلمان لا يمكن أن ينجح. لكن، وبرغم أن الرياض تفضل بالتأكيد الاستمرار في شراء الأسلحة الأميركية، فقد لا يرى MBS أن هكذا تهديد مثير للقلق (…). ومن المرجح أن تضغط الصناعات العسكرية بقوة لمنع أي خفض أو وقف البيع للسعوديين.
والأهم من ذلك، أن الخليج يُعيد بالفعل ضبط علاقته الأمنية مع واشنطن. ولا تتعلق هذه الخطوة بتراجع مبيعات الأسلحة، بل بتراجع رغبة الولايات المتحدة في استخدام قواتها الخاصة لحماية دول المنطقة. أميركا ليست الشريك الأمني الذي كانت عليه في الماضي. هذا ما أوضحه الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما (https://www.foreignaffairs.com/topics/obama-administration)، عندما صرح بأنه يتعين على السعودية “مشاركة الجوار” مع إيران. كما أن الرئيس السابق، دونالد ترامب (https://www.foreignaffairs.com/topics/trump-administration)، جعل عدم اهتمام واشنطن واضحاً عندما رفض الرد على الهجمات (الحوثية) التي طالت البنية التحتية النفطية السعودية عام 2019..
تعرف السعودية أنه ليس لديها بديل إذا قطعت أميركا إمداداتها لها من الأسلحة، وأن روسيا غير قادرة على توفير ما تحتاج إليه. لذلك، فهي تحاول التعجيل بالتحول الاقتصادي الذي يربط اقتصادها بشكل أوثق بالأسواق الرئيسية، وهذا جهدٌ أظهر بعض النجاح بالفعل. لقد اتهمت واشنطن دول الخليج بأنها ودودة جداً مع فلاديمير بوتين، لكن ذلك لم يمنع الحكومات الأوروبية من الاندفاع إلى أسواق الطاقة في المنطقة، بما في ذلك الأسواق السعودية. فمنذ بدء الحرب في أوكرانيا، ولتأمين حاجتها من الطاقة، وقعت الدول الأوروبية اليائسة اتفاقيات تعاون (https://www.reuters.com/business/energy/saudi-arabia-agrees-memorandum-cooperation-with-britain-energy-sector-spa-2022-10-04/) طويلة الأمد مع الرياض ودول خليجية أخرى. والأهم من ذلك، وافقت حكومات أوروبية على تصدير أسلحة جديدة للسعوديين (…). فبرغم الانزعاج الحاصل في واشنطن، قد تكون الرياض على صواب: فالنظام الدولي مرن بما فيه الكفاية، والمملكة مهمة بما فيه الكفاية، بحيث أنها تستطيع أن تختار الطرف الذي يناسبها.
الاستعداد للتأثير:
القرارات النفطية التي تتخذها الرياض ليست مدفوعة بالشؤون الدولية وحدها. فكما أرادت إدارة بايدن من السعوديين إبقاء تخفيضات إنتاج “أوبك بلاس” بعيداً عن انتخابات التجديد النصفي الأميركية (…)، فإن سياسة النفط السعودية مدفوعة أيضاً بالحسابات المحلية. فولي العهد يحب تحديد الأهداف ثم تجاوزها، بما في ذلك قرارات “أوبك بلاس”. وكانت حكومته قد أشارت إلى أنه سيكون هناك خفض للإنتاج يتراوح بين مليون و1.5 مليون برميل يومياً. بدا الهدف الأعلى في النهاية مُصمَّماً تقريباً لعرض قوة MBS شخصياً، أي: التوضيح لشعبه أنه يستطيع خفض الإنتاج إلى مستويات أقل حتى من تلك المتوقعة بالرغم من كل الضغوط الخارجية.
إن قرار “أوبك بلاس” يخدم غرضاً ملموساً للاقتصاد السعودي. إن خفض الإنتاج يؤدي إلى توليد طاقة إنتاجية فائضة للمملكة، مما يمنحها مجالاً لزيادة الإنتاج مؤقتاً إذا شهد الاقتصاد العالمي انخفاضاً مفاجئاً من مصدر توريد آخر، مثل روسيا. كما أنه رسالة إلى المستثمرين بأن الحكومة السعودية ملتزمة بالحفاظ على الأرباح أو على الأقل خلق أرضية للأسعار، مما يشجع الشركات على زيادة الإنفاق على قطاع البترول.
والأهم من ذلك، ان الهدف من القرار هو منع التقلبات الحادة في الأسعار. فبرغم ارتفاع الطلب، تشعر الحكومة السعودية بالقلق من أن الطلب العالمي قد ينخفض بشكل حاد إذا غاص الاقتصاد العالمي في ركود أعمق وأكثر انتشاراً. كانت السياسة المالية السعودية حذرة للسبب ذاته (…).
بدلاً من ذلك، تستعد السعودية لمواجهة أي تأثير يتسبب به انهيار الطلب لإمدادات نفطية جديدة. فمع استمرار الحرب في أوكرانيا ستزداد التهديدات التي تطال أمن الطاقة عالمياً. إن سياسات الطاقة قيد الدراسة في البيت الأبيض ومن شأنها أن تسمح لوزارة العدل بمقاضاة الدول السيادية بشأن تحديد الأسعار، وسيكون لذلك تأثير مخيف على أي استثمار جديد في قطاع النفط والغاز، وسيزيد تعطيل عمليات التكرير والتسليم. فقد زادت الصين (https://www.foreignaffairs.com/regions/china) (أهم سوق تصدير للمملكة) من وارداتها من النفط الروسي، مما يهدد حصة الرياض في السوق. وهي الأن تشتري بكميات أصغر، وذلك بفضل توقعات النمو (https://www.foreignaffairs.com/china/how-china-trapped-itself) البطيئة للبلاد والتزام بكين المستمر بسياسة عدم التعرض لجائحة (https://www.foreignaffairs.com/articles/china/2022-05-17/collateral-damage-chinas-covid-war) مثل كورونا. كل هذه المؤشرات تقلق السعوديين وتهدد عائدات النفط، وتهدد أيضاً شرعية الرياض كقوة لاستقرار السوق العالمية.
بالنسبة للسعودية، النفط هو أداة رئيسية تستخدمها الدولة للتأثير على الشؤون الدولية وجذب الاهتمام العالمي. وبالتالي أصبحت الاستجابة لهذه التهديدات لحظة حاسمة بالنسبة للقيادة الشابة والنخب التكنوقراطية في المملكة. ومن خلال العمل مع روسيا وإزاحة الولايات المتحدة عن مرتبة الأولوية، فإنهم يأملون في حماية سلطة بلادهم على أسعار النفط ومعها خططهم ورؤيتهم للمستقبل.
من غير الواضح ما إذا كانت هذه النُخب ستنجح. لكن من الواضح أن بلادهم وأميركا تستعدان لاقتصادين عالميين مختلفين. أحدهما يرى دوراً أكثر قوة في السياسة الدولية والتجارة للأسواق الناشئة. والآخر يرى أن الدول تتخذ شيئاً من الانعطاف نحو الداخل وتركز على استقلالها في مجال الطاقة، مع التأكيد على المشاركة القائمة على القيم عند التفاعل مع النظام الدولي. سيظل النفط جزءاً من السياسة الخارجية لكلا البلدين. لكنهما بالتأكيد يسيران في اتجاهات مختلفة. قد تجد واشنطن والرياض قريباً أنهما متنافسان في كثير من الأحيان؛ في أسواق النفط ونماذج التنمية الاقتصادية؛ أكثر من كونهما شريكين.
…………………
– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز“:
https://www.foreignaffairs.com/saudi-arabia/how-saudi-arabia-sees-world
(*) كارين إي يونغ، باحثة أولى في مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا.
ـــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.