الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أوروبا في دوامة الغاز المسال

بشير عبد الفتاح *

من 41% إلى 7%، هبطت الواردات الأوروبية من الغاز الروسي، الذي تهدد موسكو بالوقف التام لإمداداته، حالة إقدام الأوروبيين على فرض حد أقصى لأسعاره. ورغم تنامي الواردات الغازية للقارة العجوز، عبر خطوط الأنابيب المنبعثة من أذربيجان، وشمال أفريقيا، والنرويج، فإنها تظل دون الحصة التي كانت توفرها روسيا. دهراً، تستغرق ترقية شبكة خطوط الأنابيب الأوروبية، حتى تصير مؤهلة لاستقبال واردات الغاز المسال من مصادر بديلة متنوعة. ولم يفلح التوافق الأوروبي بشأن خفض استهلاك الطاقة، خلال الشتاء المقبل بنسبة 15%، في لجم الارتفاع الصاروخي لأسعار الغاز، التي تضاعفت مرات ثلاث، حتى تجاوزت 230 يورو لكل ميجاواط/ ساعة. في حين، يستبعد اختصاصيون، استقرار إمدادات الطاقة، وعودة أسعار الغاز في أوروبا إلى طبيعتها، قبل بضع سنين.

وبينما يمضي الأوروبيون باتجاه التحرر التدريجي من واردات الغاز الروسية، توطئة لإدراك الاستقلال الطاقوي، بحلول عام 2030، يطل الغاز الطبيعي المسال، كبديل انتقالي حيوي. وبناءً عليه، انبرت الدول الأوروبية في تأهيل بنيتها التحتية الطاقوية، وإمكاناتها اللوجيستية، لمضاعفة وارداتها منه بنحو 52 مليار متر مكعب هذا العام. وتتوقع تقديرات وكالة الطاقة الدولية، ارتفاعا في الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي المسال، من نحو 72 مليون طن سنويا عام 2021، إلى أكثر من110 ملايين طن، بحلول العام 2030.

إلى جانب قطر، واستراليا، ومصر، يعول الأوروبيون على الولايات المتحدة، كمصدر موثوق، لسد احتياجاتهم الغازية السائلة. خصوصاً أنها بصدد التحول إلى أكبر مصدَر له عالمياً، بحلول عام 2025، بسعة إنتاج تتجاوز 100مليون طن سنويا، إثر رفع متوسط ​​صادراتها اليومية بنسبة 12٪، لتبلغ 11.2 مليار قدم مكعب خلال الأشهر الستة الماضية. وقد وجهت الولايات المتحدة 74%، من غازها الطبيعي المسال إلى أوروبا طوال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري، مقارنة مع متوسط ​​سنوي بلغ 34%، العام الماضي. إذ حصلت المملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، على 71٪ من صادرات الغاز المسال الأمريكي، ليصبحا أكبر مستورد له، بعد تخطيهما المنافس الأسيوي، الذي كان يتقدم المستوردين فيما مضى.

علاوة على الأضرار البيئية الناجمة عن التوسع في إنتاج واستعمال الغاز الطبيعي، يشكل سقف القدرة التشغيلية، تحدياً أمام اضطلاع الولايات المتحدة بدور المخلص الطاقوي لأوروبا. فبغض النظر عن مزاحمة المستوردين الآسيويين، وبينما تعهد الرئيس، بايدن، في آذار/ مارس الماضي، بمضاعفة صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، أفضى الانفجار، الذى زلزل منشأة «فريبورت» للغاز، بولاية تكساس، خلال حزيران/ يونيو الماضي، إلى تقليص تلك الصادرات. ورغم بلوغ القدرة التصديرية للغاز الطبيعي الأمريكي المسال، ذروتها عند 12 مليار قدم مكعب يومياً، قبل هذا الحادث، إلا أنها لم تعوض نقص الغاز الروسي للأوروبيين. في الاثناء، يكابد المستهلكون وأصحاب المصانع الأمريكيون، معضلة ارتفاع الأسعار، الناجم عن تفاقم صادرات الغاز الطبيعي الأمريكي المسال، بما يُجّهِز على فائض المخزون الوطني منه. حيث أبدت وكالة معلومات الطاقة الأمريكية، قلقها من انخفاض المخزونات الأمريكية بنسبة 12٪، عن المتوسط الذي كانت تبلغه في ذات التوقيت، خلال السنوات الخمس المنقضية.

نظراً لاعتماد أوروبا على الغاز الروسي لسنين عددا، تعاني معظم بلدان القارة العجوز، عدم وجود بنية تحتية طاقوية مواتية، للتعاطي مع التدفقات الهائلة من الغاز المسال المستورد. ومن ثم، تظل اللوجيستيات أحد أبرز المعوقات أمام خطة فك الارتباط الطاقوي، بين روسيا وأوروبا. إذ تحتاج الأخيرة إلى حاويات وناقلات لاستقدام الغاز المسال القادم من خارج الديار. كما تنقصها مستودعات للاستقبال، ومنصات للإسالة، إضافة إلى محطات لإعادة “تغويز” الغاز المسال، ضمن عملية فنية كثيفة الطاقة ورأس المال. ويبقى الأوروبيون بحاجة إلى خطوط أنابيب لنقل الغاز المسال الجديد، بعد الانتهاء من تغويزه، تمهيداً لإعادة توزيعه فيما بينهم، وهو ما يتطلب فيضاً من الأموال، والوقت، والتفاهمات بين الفرقاء الأوروبيين.

ومنذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في شباط/ فبراير الماضي، هرعت دول الاتحاد الأوروبي إلى زيادة سعة محطات الغاز المسال لديها. خاصة بعدما أكدت السلطات في إسبانيا، التي تمتلك وحدها ست محطات لاستقبال الغاز الطبيعي المسال وتغييزه، بما يجعلها أكبر مركز لتغييز الغاز المسال في أوروبا، أن الزيادة الهائلة في الواردات الأوروبية من الغاز الطبيعي المسال، تجاوزت قدرة منشآت الاستيراد على استقبال الناقلات القادمة. ومن ثم، أعلن الأوروبيون عن تدشين 24 مشروعاً لبناء محطات دائمة جديدة. وريثما يتم إنجازها، بدأت ألمانيا تأجير وحدات عائمة، لتغويز الغاز المسال، ثم تخزينه. حيث وقَعَت، في أيار/ مايو الماضي، عقوداً لاستئجار أربع وحدات تغويز عائمة، بسعة استيراد تتراوح ما بين 25 و 29 مليار متر مكعب سنوياً. كما شرعت في إقامة ثلاث دائمة. وخصصت هولندا 160 مليون يورو، لاستئجار وحدة تغويز عائمة، وأخرى لزيادة قدرة استيراد الغاز المسال في ميناء إيمشافن، إلى ثمانية مليارات متر مكعب سنويا. فيما وافقت الحكومة الإسبانية على تشغيل محطة لإعادة التغويز، أوائل العام المقبل.

أما بخصوص المعضلة اللوجيستية، فقد حذرت صحيفة «بيلد» الألمانية، من احتمالات إخفاق خطة تأمين الغاز المسال كبديل عن الغاز الروسي، خلال فصل الشتاء، بواقع 13 مليار متر مكعب، جراء العجز الحاد في سفن وحاويات النقل. خصوصاً مع افتقار الأسطول التجاري الألماني إلى ناقلات يمكنها الإبحار بشحنات الغاز المسال لمسافات طويلة. ففي حين لا يتخطى عدد الناقلات الضخمة المتاحة حول العالم 500 ناقلة فقط، يتعاظم الطلب على خدماتها بشكل متنامٍ، فيما ترتبط غالبيتها بعقود مسبقة طويلة الأجل. الأمر الذي يقوض قدرة الأوروبيين على تخزين كميات إضافية من واردات الغاز المسال، التي تتطلب أسطولاً من الناقلات، بدلاً من ثماني فقط يعتمدون عليها حالياً.

أسفر التدافع الأوروبي على استيراد الغاز المسال، عن زيادة الطلب على شراء ناقلات جديدة. في الوقت الذي قفزت أسعار استئجار الناقلات الحالية، مما حلق بأسعار الغاز في أوروبا وآسيا، إلى مستويات قياسية. ويتوقع المراقبون ارتفاع أسعار الغاز وكلفة نقله إلى آفاق أبعد، حالة استئناف الصين أنشطتها الاقتصادية قبيل الشتاء، وتنامي الطلب العالمي مجدداً، بعد تراجعه جراء الإغلاق المرتبط بجائحة «كورونا».

تحت وطأة الهرولة الأوروبية تلقاء ناقلات الغاز المسال، بغية ملء مرافق التخزين قبل موسم التدفئة، ارتفعت أسعار الإيجار اليومي للناقلات، بين منتصف أيلول/ سبتمبر، ومنتصف تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، من 47 ألف دولار، العام الماضي، ثم 64 ألف دولار الآن، إلى 105، و250 ألف دولار في اليوم، للسفن المتجهة من الولايات المتحدة إلى أوروبا. ومع بداية الشهر الجاري، بلغت أسعار شحن الغاز المسال في المحيط الهادئ، أكثر من 267 ألف دولار، بعدما توقفت قبل الأزمة عند متوسط 14.7 ألف دولار. ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، قفز متوسط تكلفة استئجار سفينة ليوم واحد، من 14.3 ألف دولار، إلى 400 ألف دولار في بعض الأحيان. ويتوقع المحللون مزيداً من تفاقم الأسعار، مع تهافت الشركات والحكومات لتخزين المزيد من الغاز، والتسابق لحجز الناقلات على أساس طويل الأجل.

رغم الارتفاع الجنوني في أسعارها، احتدم التدافع على شراء ناقلات الغاز المسال، وبعدما بلغ الطلب العالمي 257 سفينة جديدة، عزفت شركات تصنيع السفن في كوريا الجنوبية، وهي أكبر منتج عالمي لتلك الناقلات، عن تقبل أي طلبات شراء إضافية حتى عام 2027. ومن شأن تنامي أسعار شراء الناقلات، أو تأجيرها، أن يرفع أسعار الغاز الطبيعي المسال في جميع أنحاء العالم. ومع اقتراب المخزونات من سعتها القصوى، استعداداً لفصل الشتاء، الخالي تقريباً من الوقود الروسي، تلجأ المرافق والشركات، إلى تخزين الغاز الطبيعي المسال بشكل متزايد في السفن العائمة، وهو ما يقلص العدد المتاح منها. ولما كانت قطر، واحدة من أعتى مُصدري الغاز الطبيعي المسال عالمياً، وأكثرهم امتلاكاً لناقلاته الضخمة الحديثة، فقد راهنت عليها دول الاتحاد الأوروبي، للفطام عن الغاز الروسي. حيث شرعت في إبرام عقود طويلة الأجل معها، باعتبارها مصدراً موثوقاً لواردات الغاز المسال.

بتفننهم في استنهاض إمكاناتهم اللوجيستية، وإعادة تأهيل بنيتهم التحتية الطاقوية، بغية مضاعفة وارداتهم من الغاز المسال، يُمعن الأوروبيون في تقويض استقلالهم الطاقوي. فعن عمد أو بغيره، قد ينخرطون في تكريس استدامة تبعيتهم الغازية للخارج. فما إن يتحرروا من ربقة المٌورد الروسي المُريب، حتى يسقطوا في براثن مُوردين آخرين من مشارب شتى.

* كاتب أكاديمي وباحث مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.