إسلام أبو العز *
بات العالم يترقب آخر أمل في حدوث خرق سياسي بلقاء يجمع بين جو بايدن وفلاديمير بوتين في قمة جاكرتا، لعله ينجح في كبح جماح الانزلاق نحو شتاء يؤسس لحرب عالمية نووية.
ماذا لو أصبح مصير الحضارة الذكية للبشر في يد جنرال مرتاب ورئيس مشوش وراعي بقر متهور ومُنظر مجنون؟ أجاب المخرج العبقري ستانلي كوبريك (https://ar.wikipedia.org/wiki/ستانلي_كوبريك) قبل 50 عاماً على هذا السؤال عبر فيلمه الحربي الكوميدي Dr. Strangelove or: How I Learned to Stop Worrying and Love the Bomb؟ (https://www.imdb.com/title/tt0057012/)، بأن الهلاك النووي أمر حتمي وإن كانت دوافعه عبثية مثل ترجمة خاطئة لأوامر روتينية.
يتفق آخر قائد للقوات الاستراتيجية الجوية النووية الأميركية، الجنرال جورج لي باتلر، مع رؤية كوبريك السينمائية الساخرة، ويوضح في مذكراته وخطاباته العديدة عقب تقاعده في أوائل التسعينيات الماضية وانخراطه في حركة (نزع الأسلحة النووية)، أن نجاة الحضارة البشرية من خطر الفناء النووي إبان سنوات الحرب الباردة جاء عبر “مزيج إعجازي من الحظ والمهارة الشخصية والتدخل الإلهي.. وهي أمور لا يُعوّل عليها كثيراً في المستقبل مع استمرار المقامرة بمصير البشر في لعبة الروليت النووي”.
هل نحن أمام مبالغة خطابية أو خيال سينمائي؟
ثمة وقائع حدثت بالفعل خلال عقود الحرب الباردة، أبرزها أزمة الصواريخ الكوبية، في مثل هذه الأيام قبل ستين عاماً (عام 1962)، والتي على الرغم من تسويتها سياسياً وقتها، إلا أنها شهدت حادثة خطيرة متمثلة في تعطل أنظمة الإنذار والاتصال بإحدى الغواصات النووية السوفييتية جنوب المحيط الأطلنطي، وتبين أن الدافع الوحيد لامتناع قائدها عن إطلاق صاروخ نووي، هو قراره الشخصي فقط، وهو ما تكرر في السنوات التالية حوالي 5 مرات، منها إطلاق إنذار هجوم نووي كاذب عام 1972 في الاتحاد السوفييتي، وللمرة الثانية يكون القرار الشخصي للضابط المسؤول هو تجاهل هذا الإنذار الذي اتضح أنه بسبب عبث الدببة البرية بأحد أجهزة نظام الإنذار المبكر النووي!
بين التكتيكي والاستراتيجي:
ومع قرب انتهاء 2022، تتنحى هذه العوامل الإنسانية والقدرية، لحساب إرادة ذاتية وموضوعية تجعل من استخدام أسلحة الدمار الشامل، وعلى رأسها الأسلحة النووية، خياراً مطروحاً، وليس عامل ردع ضمن توازن رعب نووي، مثلما كان الحال إبان الحرب الباردة.
في نهاية شباط/ فبراير الماضي كنا أمام “عملية عسكرية روسية” على أرض أوكرانيا. بعد ثمانية أشهر، ثمة استسهال روسي وأميركي في الحديث عن واقعية التهديد النووي وأنه ليس مجرد مناورة أو خداع، كما يجري التلاعب النفسي والمعنوي في الداخل الأميركي لاعتبارات انتخابية، عبر محاولات تهوين الخطر النووي لمستوى تكتيكي وهو ما تحبذه أصوات داخل معسكري الاستقطاب الداخلي هناك وبشكل تاريخي يمتد منذ حرب فيتنام، أي استخدام عيارات تكتيكية انشطارية أقل من 10 كيلو طن، أي تقريباً بنفس القوة التدميرية لقنبلتي هيروشيما وناغازاكي، وليس عيارات استراتيجية اندماجية تستهدف محو بلادهم وتالياً الحضارة الإنسانية كما كان توازن (الرعب النووي)، بل مجرد رؤوس تكتيكية حالة استخدامها في حرب بين روسيا والغرب ستخلف عشرات الملايين من الضحايا وصولاً لأكثر من مئة مليون إذا دخلت مرحلة القصف والقصف المضاد، حسب تقديرات مختصين، أي أكثر من ضحايا الحربين العالميتين الأولى والثانية، ناهيك عن إطلاق مرحلة جديدة، يُعتاد فيها على استخدام أسلحة الدمار الشامل وعلى رأسها النووي في إدارة الصراعات الإقليمية والدولية!.
من التهديد إلى الاستخدام:
وبخلاف الخطاب السياسي والإعلامي المتحمس للخيارات النووية، واستدراكها لاحقاً بالتهوين والتخفيف والتصحيح، فإن الإجراءات العملية خلال الأسابيع القليلة الماضية، من مناورات وتحريك منصات إطلاق بأنواعها، وزيادة الترسانة النووية وتوسيع المظلات النووية، بل وتجارب إطلاق صواريخ باليستية لدول تمتلك القنبلة النووية بالفعل ككوريا الشمالية والهند، كانت مُحملة بالرسائل بدءاً باستعادة أجواء الرعب النووي إبان الحرب الباردة، لكن الأهم هو بتوفر إرادة استخدام السلاح النووي، لدواعٍ عديدة أبسطها هو إنهاء الحرب الجارية، سواء بتفكك وانهيار “روسيا البوتينية”، أو بفرض معادلات قوة جديدة على الساحة الدولية ليست إرادة واشنطن والعواصم الأنجلوسكسونية مركزها، وهي أهداف ثمن تحقيقها بالنووي التكتيكي زهيد في نظر أطراف الصراع الحالي، وليس كما كان الحال إبان القرن الماضي، حيث توازن رعب مفاده قصف شامل بين القوتين العظمتين بالرؤوس النووية الإستراتيجية ثم النهاية.. أي باختصار دخل استخدام النووي التكتيكي حيز الممكن استخدامه من أسلحة الدمار الشامل.
الوقت الضائع:
دفعت هذه الصورة القاتمة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، طيلة الشهور القليلة الماضية إلى تكرار عبارة “أن العالم على بعد خطوة واحدة غير محسوبة من حرب نووية مدمرة“، واقتراب عقارب (ساعة القيامة) (https://ar.wikipedia.org/wiki/ساعة_القيامة) لدقيقتين قبل منتصف ليل النهاية، وذلك بالإضافة لعشرات التصريحات المحذرة من استخدام السلاح النووي، واتخاذ إجراءات الاحتراز والنجاة مثل فتح الملاجئ النووية في دول الجوار الأوكراني، وشراء الحكومة الأميركية شحنات أدوية تستخدم في حالة الطوارئ النووية بمئات الملايين من الدولارات، كذلك تجارب إطلاق الصواريخ الباليستية في الأسابيع القليلة الماضية، وأخيراً تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن حول أن تهديد موسكو باستخدام السلاح النووي ليس مجرد مناورة أو خداع، وتالياً حديثه عن هشاشة الوضع السياسي في باكستان وعلاقة ذلك بأمن ترساناتها النووية وما يتعلق بالتنافس النووي مع الهند، وهو ما يتعارض مع بيانات البيت الأبيض السابقة والتالية على هذا التصريحات البايدنية المشوشة، بأنهم لا يعتقدون بجدية مثل هذا التهديد.
نمر من ورق أم يضغط على الزر؟
يأتي هذا التعارض الرسمي الأميركي ضمن سياق أوسع يتعلق بتقليص الاستقطاب الداخلي من خلال استعادة أجواء الحرب الباردة وخلق عداوة خارجية غرضها توحيد الموقف الداخلي المتهتك، والذي بات بعد شهور من الحرب الأوكرانية و”هتلرة” بوتين، يقع ضمن حدود صفرية بين مختلف مراكز صنع القرار في الداخل الأميركي (https://www.politico.com/news/2022/10/19/white-house-gop-ukraine-war-funding-00062624 ).
ولا يختلف هذا الحزب الأميركي أو ذاك على أولوية المضي قدماً بدعم وتسليح كييف بأسلحة متطورة لها الفضل في التراجع الميداني الكبير للقوات الروسية مقابل اختراق ملحوظ من القوات الأوكرانية على محاور الأقاليم الأربعة المضمومة حديثاً للاتحاد الروسي (لوغانسك، زابورجيا، خيرسون، ودونتيسك) وآخرها مدينة ليمان الاستراتيجية، ومن ثم التعويل على أن إطالة أمد الحرب واندحار القوات الروسية سيدفع الكرملين لاستخدام أسلحة دمار شامل، ومن ثم المزيد من عزل وتجريد روسيا من صلاحياتها الأممية وفي مجلس الأمن. وهي المقاربة الأميركية التي تجعل خط اللاعودة النووي (https://www.interregional.com/استعادة-الردع/?fbclid=IwAR1snetJ0rMdug5TKa6o-TXaMboXQsvsfucI0PkS1c-1vfUqIFB2j_qjBNk) أقرب حتى من موعد انتخابات الرئاسية الأميركية عام 2024، أو حتى انتخابات التجديد النصفي الشهر القادم، التي تأتي بموازاة قمة العشرين بجاكرتا.
تصعيد محسوب أم قفز في الفراغ؟
وبخلاف مكالمة بين وزيري الدفاع الروسي والأميركي، لتأمين استدامة خط الاتصال العسكري كما الدبلوماسي بين واشنطن وموسكو وعدد من العواصم الأوربية، لا مؤشرات جدية على حدوث هكذا خرق دبلوماسي في المدى المنظور، بل على العكس، حيث تتعاطى كل الأطراف بكافة المستويات على أن الحرب مستمرة لسنوات ليست بالقليلة. ليصبح الممكن سياسياً حالياً هو كبح التهور النووي بأشكاله الممتدة من استخدام “قنبلة قذرة” (https://arabic.cnn.com/world/article/2022/10/23/russia-ukraine-dirty-bomb?fbclid=IwAR1snetJ0rMdug5TKa6o-TXaMboXQsvsfucI0PkS1c-1vfUqIFB2j_qjBNk) إلى الرؤوس الانشطارية، كأولوية لا تمنع الاستمرار في مسلسل التصعيد والتصعيد المضاد بكافة الأشكال، وأخطرها ما يجري حالياً من تكثيف التورط المباشر حيال الحرب في أوكرانيا، كمنظور استقطابي حاد لا ينعكس فقط على ملفات الطاقة (https://roayahstudies.com/2022/02/20/جليد-ونار-وغاز-مبارزة-ثلاثية-يستفيد-منها-الشرق-الأوسط/) والغذاء، بل يتسع لمستويات عسكرية تربط وتيرة التصعيد أو التهدئة في مختلف أقاليم العالم من وسط آسيا للشرق الأوسط بمجريات الميدان الأوكراني.
وحتى نهاية الشتاء القادم، سنشهد استمرار سياسة التصعيد والتصعيد المضاد، وسيكون سقف التقدم السياسي في هذا الفاصل الزمني محصوراً في هامش محدود، ومتمثلاً في الحيلولة دون أن يشمل التصعيد أسلحة الدمار الشامل بأنواعها بما في ذلك النووي التكتيكي. أما ما بعد هذا الشتاء، ونتائجه الميدانية والاقتصادية والمعيشية، وانعكاساته الانتخابية، أميركياً وأوروبياً، فقد يدفع أطراف الصراع نحو خيارات صفرية بشكل متسارع، وهو ما تؤكده الإجراءات النووية الأخيرة على أرض الواقع كخيار أخير دخل حيز الممكن، خاصة مع غياب أي أفق سياسي ليس لإيقاف الحرب وعدم تحولها إلى حرب عالمية رسمياً، بل فقط الحيلولة دون تحولها لحرب نووية عبر هوامش ضيقة توفرها قمة جاكرتا لمجموعة دول العشرين.
* كاتب صحافي مصري ومحلل مختص بالشؤون الإقليمية والعلاقات الدولية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.