تقديم: [المُحرِرْ]
لقد شَكَّل الاختراق الإسرائيلي للقارة الإفريقية جزء من استراتيجية كبرى أَطَّرت تفكير المشروع الصهيوني منذ مرحلة ما قبل إقامة كيانه الاستيطاني في فلسطين المحتلة سنة 1948؛ إذ كانت المستعمرة البريطانية في إفريقيا، واسمها “أوغندا”، كانت واحدة من المقترحات التي تمّ تقديمها لإقامة كيان عليها يحمل اسم إسرائيل من طرف أبو الحركة الصهيونية “تيودور هيرتزل” حين توجه إلى بريطانيا واقترح على وزير المستعمرات فيها “جوزيف تشامبرلين” إقامة كيان لليهود في شرق إفريقيا، وبالضبط في أوغندا كخيار من الخيارات المطروحة (إلى جانب فلسطين، الأرجنتين…).
هذا الخيار فشل بسبب الانقسام الكبير داخل الحركة الصهيونية حول هذا الموضوع. وهو اقتراح كان يستلهم ما كان يعتبره نجاحاً للتجارب الاستيطانية التي كانت تعرفها إفريقيا حينذاك (في شمال القارة مع الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر، وفي جنوب القارة الإفريقية خاصة: في جنوب إفريقيا، روديسيا وناميبيا…).
لذا فتحت حركة التحرر العربي والإفريقي والعالم ثالثي عيونها على خطورة هذا الاختراق واندماجه في بنية حركة الاستعمار الغربي للقارة والقيام بأدوار وظيفية لتبادل المصالح مع مراكز القرار الرأسمالي الدولي أحيانا، وأداة لها في غالب الأحيان؛ الأمر الذي جعل واحدا من أهم رموز حركة التحرر الصاعدة حينها، وهو «الشهيد المهدي بن بركة»، يدق ناقوس الخطر في “ندوة فلسطين العالمية” المنعقدة بالقاهرة من 30 آذار/ مارس إلى 6 نيسان/ أبريل 1965، أي قبل سبعة أشهر بالضبط من اختطافه واغتياله في باريس يوم 29 تشرين الأول/ أكتوبر من السنة نفسها.
وهو الاغتيال الذي نجد لإفريقيا علاقة وطيدة به، حيث كانت حركة ’بن بركة‘ بين عواصمها المستقلة حديثاً (انطلاقاً من القاهرة والجزائر العاصمة)، وحصوله بوسائله الخاصة، على وثائق للمخابرات الأمريكية متعلقة باستهداف استقلال تلك الدول واستهداف قادة حركة التحرر الإفريقية (مثل “كوامي نكروما” قائد غانا، و“باتريس لومومبا” قائد حركة استقلال الكونغو…)، وتحذيرهم من ذلك، وتنسيقه مع رموز حركة التحرر في إفريقيا جمال عبد الناصر، أحمد بن بلة، لومومبا، نيكروما، موديبوكيتا، سيكوتوري… إضافة إلى تحضيره لمؤتمر القارات الثلاث؛ عواملٌ جعلت قرار الاغتيال جاهزاً في مطابخ عواصم القرار الاستعماري، قبل تنفيذه في باريس ذات ليلة خريفية باردة.
تحولت مداخلة «المهدي بن بركة» في “ندوة فلسطين العالمية” تلك إلى رؤية تتضمن استراتيجية عملية لمواجهة الاختراق الإسرائيلي للقارة السمراء، بعد تشخيص هذا الاختراق ورصد مظاهره وسرد مخاطره على عموم الشعوب الإفريقية ومستقبلها، مما جعل منها وثيقة تأسيسية اعتمدتها حركات التحرر العربي والإفريقي كواحدة من أدبياتها الأساسية. وتأتي أهمية الوثيقة إذن في استلهام روحيتها، وفي ما تقدمه من تحليل عميق للأوضاع في إفريقيا حينها، وتحذيرها من الاختراق الإسرائيلي والصهيوني للقارة ككل.
ومن المفارقات أن المهدي بن بركة يحذر فيها من صناعة نُخبة إفريقية في إسرائيل سيكون لها دور بارز في تسهيل الاختراق، وكانت الـ“توغو” من الدول التي يذكرها في وثيقته هذه، إضافة إلى الكثير من الدول الإفريقية، خاصة تلك التي كانت تعاني هشاشة في التكوين والبناء، مما يجعل الاختراق سهلاً وسريعاً.
ورغم نجاح بعض الاختراقات هنا وهناك، فإن الكيان الإسرائيلي لايزال جسماً غريباً وكياناً يجهد ذاته كي ينفذ كامل مخططاته في القارة الإفريقية بظروف الغياب العربي الفاضح، ويقوم موقع «الحرية أولاً» بإعادة نشر هذه الوثيقة التاريخية على جزئين، بعد التدقيق في بعض معطياتها وشرح بعض المفاهيم وأسماء الأعلام الواردة فيها بالهوامش المقترحة، بحكم المتغيرات التي عرفتها الأوضاع الجيوــ استراتيجية في القارة الإفريقية بعد حوالي ستة عقود من صدورها، لعلها تكون مرشداً للمناضلين العرب والأفارقة بوجه الكيان الصهيوني واختراقاته التطبيعية مع عديد الدول الهشة بشرعيتها الشعبية.
وفيما يلي الجزء الأول من الوثيقة:
أيها الإخوة،
رغم الظروف التي يعيشها شعبنا في المغرب حيث تعلمون أن المذابح الوحشية التي تعرض لها طلابنا وجماهيرنا الشعبية، حتى تجاوز عدد القتلى 250 قتيلاً وتجاوز عدد المسجونين الآلاف والمحكوم عليهم جملةً إلى اليوم أزيد من ألف(1)، كل ذلك لم يمنعنا من حضور هذه الندوة(**) لنعبر لإخواننا عن تضامننا غير المشروط، التام واللانهائي في المعركة لتحرير فلسطين.
وإن الموضوع الذي شرفني الإخوة بأن طلبوا مني تقديمه في هذه الندوة هو { دور “إسرائيل” في إفريقيا }، أو يمكن أن نسميه بالواقع الإسرائيلي في القارة الإفريقية. فمن واجبنا أن نعرف هذا الواقع كما أنه من واجبنا أن نعلن رفضنا لهذا الواقع ككل واقع استعماري، لأننا نرفضه كعرب ونرفضه كمناضلين ثوريين، نرفضه كعرب لأن دور إسرائيل في إفريقيا هو جزء من مخطط استعماري ضد الثورة العربية، ونرفضه كمناضلين ثوريين لأن دور إسرائيل في إفريقيا جزء من الخطة الاستعمارية ضد الحركة التحررية العالمية.
إن إسرائيل تعّتبِر أن دورها في إفريقيا وفي مجموع البلاد المتخلفة دور حيوي. وقد قال “بن جوريون”(2) أمام المؤتمر الصهيوني الـ 25: “ إن المستقبل الاقتصادي الإسرائيلي ووضعها الدولي يتوقفان على الروابط التي نجتهد إقامتها مع إفريقيا وآسيا ”، وقال “ليفي اشكول”(3): “ إن مستقبل الأجيال المقبلة في إسرائيل مرتبط بمقدار كبير بنشاطنا في القارة الإفريقية ”.
ومن الواجب علينا في هذه الندوة أن نواجه هذا الموضوع، مواجهة علمية وموضوعية فنعرف كيف استطاعت إسرائيل أن تلعب دوراً في إفريقيا، وهي تلعبه، وكيف نستطيع نحن أن نمنع إسرائيل أن تكون أداة للاستعمار في إفريقيا ضد مطامح الشعب العربي وضد مطامح الشعوب الإفريقية نفسها.
1- الاستعداد للمهمة.. الصورة التي ترسمها إسرائيل لنفسها:
إن هذه الأداة قد أعِدّت لتقوم بهذه المهمة. فالاستعمار يصوغ أداته لتقوم بواجبها ضد مطامح الشعوب، سواءً كانت هذه الأداة حكماً عميلاً أو منظمة مصطنعة أو حُكماً/ دخيلاً مثل إسرائيل. وقد حرصت إسرائيل على أن تكوّن من نفسها وتعطي لوجهها صورة تناسب وتمهد وتسهل هذه المهمة، فقد أرادت ان تكون بالنسبة للدول المتخلفة وبالنسبة لدول إفريقيا الفتية بالخصوص النموذج المثالي الذي يجب أن يُحتذى، والنموذج الذي يجب أن يُمنح لهذه الدول الخبرة التي هي في حاجة إليها لمواجهة المشاكل التي تجدها أمامها غداة (الاستقلال).
فقد قالت جولدا مائير(4) مثلاً أمام البرلمان الإسرائيلي لتبرير سياسة إسرائيل بإفريقيا: “ إننا دولة ديمقراطية وصغيرة ليست لها مطامع توسعية، وتتمتع بالخصال التي تلفت نظر الأفارقة، فنحن مثلهم دولة جديدة واجهت وما تزال تواجه مشاكل متشابهة، وقد اكتسبت بعض التجارب الفريدة في مناهج التنمية وفي أساليب الرواد التي قد تفيد هذه الدول ”.
نعم هذه الأسطورة، وسنرى أنها أسطورة، ولكن كان لها مفعول. فقد نجد مثلاً “موديبو كيتا”(5) وهو أحد الزعماء في إفريقيا الثورية قد انخدع بها. ماذا كان يقول سنة 1958 بسبب اتصالاته الأولى بإسرائيل، وعدم معرفته لحقيقة الوضع في إسرائيل؟
قال “موديبو كيتا”: “ لقد أصبحت إسرائيل قُبلة تحج إليها الشعوب الإفريقية لتستلهم منها أسلوب بناء بلادها. وأن إسرائيل غدت بحق المثال الحي للشكل الإنساني الذي يبنى على أساسه المجتمع الجديد ”. ونستمع إلى أحد الطلبة يتحدث قائلاً: “ يمكنني إذا ذهبت إلى الولايات المتحدة أن أدرس تاريخ التنمية الاقتصادية ولكن إذا ذهبت إلى إسرائيل فإنني أستطيع أن أشاهد النمو فعلاً ”. ونجد الرئيس ’نيريري‘(6)، وهو أحد زعماء إفريقيا التقدمية أيضاً يقول في تشرين الثاني/ نوفمبر 1960: “ إن إسرائيل بلد صغير ولكن يمكنها أن تفيد كثيراً بلداً كبلادي، ويمكننا أن نتعلم منها كثيراً، لأن مشاكلنا ومشاكل “تنجانيقا” تشبه مشاكل إسرائيل. ما هي هذه المشاكل؟ يقول ’نيريري‘: “ إنها مهمتان رئيسيتان تنتظراننا: بناء الأمة وتغيير وجه الأرض طبيعياً واقتصادياً ”.
هكذا مهدت لنفسها إسرائيل لتقوم بدورها، وهكذا صيغت الأداة لتقوم بمهمتها، فما هي هذه المهمة؟ وما هي الدوافع التي دفعت بإسرائيل ودفعت بالاستعمار لاستعمال إسرائيل لتقوم بمهمتها في آسيا وخاصة في إفريقيا؟.
أ- العوامل الدافعة:
إنها من نوعين كما قلنا، من جانب خدمة لأهدافها ضد العرب، ومن جانب ثانٍ خدمة للاستعمار الدولي.
لقد كان من المهم بالنسبة لإسرائيل بعد ما ضُرب عليها الحصار العربي أن تحطم هذا الحصار، وأن تبحث عن متنفس وعن سوق في آسيا وإفريقيا، وفي نفس الوقت أن تعمل على تطويق البلاد العربية بالموالين لوجهة نظر إسرائيل.
يقول بن جوريون أمام الكنيست في تشرين الأول/ أكتوبر 1960: “ إن عطف الأمم القريبة والبعيدة وصداقتها لنا العاملان اللذان يمكناننا مع الزمن من أن نخترق سور الحقد والمقاطعة الذي يحيط بنا ”.
فإسرائيل أسِسَتْ في قلب الأمة العربية لتغزو البلاد العربية مثل ما كان يغزوها الاستعمار، وبافتقادها لهذه السوق العربية، أخذت تبحث عن سوق جديدة أو ما يمكن أن نسميه “ رئة جديدة تتنفس منها ”.
والمهمة الثانية، علاوة على هذه الرئة الحيوية، فإن إسرائيل ومن ورائها الاستعمار تريد تجنيد الأصوات في الأمم المتحدة نظراً لأهمية الوزن الدولي الذي أصبح يشكله المجموعة الإفريقية والأسيوية طمعاً في الحصول على تأييد أو على الأقل على موقف حياد.
وهنا، يجب أن نعطي أهمية كبرى للدور الذي تلعبه هذه الدول الإفريقية الجديدة في المنظمات الدولية، سواءً كانت هذه المنظمات إفريقية أو الأمم المتحدة نفسها. ففي تموز/ يوليو 1963 مثلاً، نجحت إسرائيل بعض الشيء بعد أن انعقد المؤتمر الأول لرؤساء الدول الإفريقية بأديس أبابا، حيث أن هذا المؤتمر المنعقد في أيار/ ماي 1963 لم يتخذ أي قرار بإدانة إسرائيل. فراحت إسرائيل تعتبر هذا انتصاراً لها، وكتبت مجلة الإيكونوميست الإسرائيلية في تموز/ يوليو 1963 غداة هذا المؤتمر تقول: “ إننا لا نغالي إذا قلنا بأن ضغط الرأي العام الإفريقي، سوف يلعب دوراً حاسما في أية تسوية في الشرق الأوسط. وليس معنى هذا أن مثل هذه التسوية يمكن أن تتحقق في المستقبل القريب، ولكن معنى هذا أن أي سياسي عربي يرغب في أن يلعب دوراً فعالاً في إفريقيا، لا بد له أن يحسب حساباً يزداد أهمية مع الزمن للمتاعب التي سيتعرض لها مع الأفارقة، إذا ما أثار فكرة الحرب ضد إسرائيل ”.
وتزيد المجلة قائلة: “ ولقد أصبح عدد كبير من الدول الصديقة لإسرائيل من البلاد المسلمة خاصة، مثل السنغال وسيراليون وتشاد، ومن التي تشتمل على نسبة كبيرة مهمة من المسلمين مثل تنجانيقا ونيجيريا، هذه الدول أصبحت توالي إسرائيل ”، وبذلك تقول هذه المجلة وهي الشبيهة بالرسمية لإسرائيل: “ أحدثنا ثغرة كبرى جديدة في الجبهة الإسلامية المعادية لإسرائيل، التي تعبَ العرب في محاولة خلقها منذ نشوء (الدولة اليهودية) منذ سنة 1948 ”.
هذا هو الغرض الأول، وهذا هو العامل الأول لأن تقوم إسرائيل بمجهود متواصل لكسب الدول الإفريقية الفتية.
وهناك عامل ثاني، يمكن أن نقول أيضاً إنه رئيس وهو خدمة المصالح الاستعمارية الدولية.
هنا يجب أن أقف وقفة قصيرة، لألفت نظركم إلى أن الاستعمار قد غير خططه أمام الدفع الثوري الآسيوي والإفريقي والأمريكي- اللاتيني، وعندما وجد نفسه مضطراً للاعتراف بالاستقلال مثلاً، وللتنازل أمام هذه الإرادة الثورية، بقي حريصاً على أن يحتفظ بمصالحه الأساسية الاقتصادية والاستراتيجية، بما يسمى بأساليب الاستعمار الجديد، وهو تارة يكون عن طرق الحكومات العميلة، وتارة عن طريق الاتفاقية للتعاون المزعوم، وأخرى عن طريق التآمر إذا اقتضى الحال.
وكثيراً ما يتساءل الناس، وبالأخص في الرأي العام الدولي، لماذا تتهمون إسرائيل بأنها أداة للاستعمار؟ إنها تقدم الخدمات لهذه الدول الإفريقية، إنها تريد أن تتاجر معهم، وهي الدولة التي ليست لها مطامع توسعية كما قالت “جولدا مائير” آنفاً.
والحقيقة أن اكتشاف الدور العميل للاستعمار بالنسبة لإسرائيل في إفريقيا، أمر صعب ودقيق، ولا أدل عليه من تردد الثوريين الأفارقة نفسهم في اتخاذ موقف صريح قبل السنة الماضية، ولكن لدينا وثائق ولدينا قرائن تثبت هذه الصلة بين دور إسرائيل وبين الخطة الاستعمارية الدولية.
لدينا محضر هذه الندوة التي كان لها مغزى هام، حيث أنها كشفت عن أحد الجوانب لدور إسرائيل في خدمة الاستعمار في إفريقيا. هذه الندوة نشرتها مجلة “لاش”(7)، وقد نُظمت في أيار/ مايو 1962 غداة اتفاقية “ايفيان”. وعند اقتراب إعلان استقلال الجزائر نُظمت ندوة بين بعض الشخصيات الفرنسية، لتعرف هل هناك تحول في السياسية الفرنسية تجاه إسرائيل بعد استقلال الجزائر. وكان من بين المواضيع التي أثيرت هي موضوع انضمام إسرائيل الى السوق الأوروبية المشتركة، وضرورة تأييد فرنسا لهذا الانضمام.
وقد حضر هذه الندوة شخصيات بارزة في فرنسا مثل “ريمون آرون، ودانييل بيير، وليو هامو، وسفير فرنسا في إسرائيل، وأحد الاستعماريين الفرنسيين الذين لهم صلة وثيقة بإسرائيل وهو رولان بري”، وأخذ ’رولان‘ يدافع عن وجهة نظر إسرائيل فيما يتعلق بدخولها للسوق الأوروبية المشتركة قائلاً: “ إن مسألة الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة بالنسبة لإسرائيل ذات أهمية قصوى. لا لأنها تتعلق فقط بجانب التبادل التجاري بينها وبين دول السوق، بل لأنها تتصل بموضوع تولية إسرائيل اهتماماً متزايداً لأنه مرتبط بمستقبلها الاقتصادي، وهو موضوع علاقتها مع العالم المتخلف بإفريقيا وآسيا ”.
ولا شك أنه إذا نظرنا إلى الموضوع من وجهة نظر المصالح الاقتصادية البحتة بدول السوق الأوروبية المشتركة، فإنه من العسير أن نجد مستنداً لإثبات فائدة الانضمام بالنسبة للمجموعة الأوروبية، ولذلك أرى أن المستند الحقيقي، إنما هو من الناحية السياسية.
يقول “رولان بري”: “ يجب علينا أن نعتبر إسرائيل تسرباً للغرب في المناطق التي انصرفت عن الغرب، يجب أن ننظر إلى إسرائيل كأداة لتغلغل النفوذ الغربي بالنسبة للبلاد المتخلفة في إفريقيا وآسيا ”. ولذلك يقول رولان بري: “ أعتقد أنه من حقنا أن نطالب بانضمام إسرائيل إلى السوق الأوروبية المشتركة استناداً إلى هذه الحُجة بالذات ”.
من هنا نفهم هذه الفقرة التي وردت في خطاب الرئيس أحمد بن بيلا في مؤتمر الدول الإفريقية المنعقد بالقاهرة عاصمة الجمهورية العربية المتحدة في تموز/ يوليو 1963 عندما قال: “ إن إسرائيل تحل محل الإمبريالية في كل مكان ترحل عنه، فتقرض رؤوس أموالها وبالأحرى رؤوس أموال البنوك الأوروبية، والفنيين الذين دربوا في مصانعها وفي معاملها برؤوس أموال أوروبية، وأينما اضطرت الامبريالية إلى التخلي عن مكانها تأتي إسرائيل لتعرض خدماتها ”.
وحينئذ نرى أن هذه الأداة التي هي إسرائيل، هي في خدمة أغراض استعمارية محلية بالنسبة للثورة العربية، ولأغراض دولية بالنسبة للاستعمار عامة، وهي تشارك مع هذا الاستعمار في عمليات النهب الاستعماري لثروات إفريقيا إذا نظرنا إلى شكل التجارة التي بينها وبين هذه البلاد.
وأمام هذه الأداة التي صيغت للقيام بهذه المهمة، هناك أيضاً شروط وُفرت لهذه الأداة حتى تقوم بمهمتها، وأن هذه الاداة جدية لذلك فإن الاستعمار لا بد أن يواجه الموضوع بجدية، ومن هنا أيضاً يلزمنا نحن من الوجهة النظرية الثورية أن نوجه أيضاً معركتنا ضد الاستعمار بنفس الجدية.
ب- توفير شروط النجاح:
هذه الأداة أرادت أن تلعب دورها بجد، فبدأت تصور نفسها كنموذج مثالي للتنمية، ولكن ايضا أخذت تدرس المشاكل الإفريقية بجد حتى تواجهها وتواجه الجانب الفني من عملها بكفاءة، ومن وراء الجانب الفني لخدمة الاستعمارية.
بدأت إسرائيل تقدم نفسها بالنسبة للدول الإفريقية كالنموذج المثالي، يقول “بن غوريون” في نشرة لوزارة الخارجية: “ لقد خلقت دولتنا نوعاً جديداً من المجتمعات يلاءم بصفة خاصة البلاد الفتية، وهذا النوع يقوم على أسس التساند المتبادل والتعاون الحر. وقد اهتدينا بفضله إلى نظرة جديدة للعمل نضمن للعامل التقدم والرفاهية. ويقوم هذا النوع من المجتمعات على جيش لا يستطيع فحسب أن يسهر على الأمن القومي، بل ويكون كذلك أحد العوامل الرئيسية لانصهار فئات المجتمع ”.
هذه هي المشاكل التي تنتظر إفريقيا إجابة عنها: كيف يبنى المجتمع الجديد؟ وكيف تصهر الفئات المختلفة لهذا المجتمع ؟ وجاءت إسرائيل بالجواب على هذه الأسئلة.
وهناك أيضاً مسائل اقتصادية علمية تواجهها إفريقيا وجاءت إسرائيل أيضاً ببعض الإجابات على هذه الأسئلة. فهناك أخصائيون درسوا المشاكل الزراعية “الفلاحية” التي تناسب المجتمع الإفريقي. وهناك تجربة للتنظيم الفلاحي أخذ يقدمها الإسرائيليون بالنسبة لأفريقيا للتنمية في الميدان القروي، وهي نماذج “Mochavin و kiffonzim” وبدأ تطبيقها فعلاً في بعض الجهات في آسيا وإفريقيا في برمانيا(8) وفي نيجيريا، ثم هناك مشاكل خاصة بالبلاد القاحلة أخذت تدرسها إسرائيل وتجرب أنواع النباتات الصالحة في البلاد الصحراوية بالنقب. ودرست كذلك أنواع الري التي تحتاج إليها البلاد الإفريقية، وأنواع الأمراض المتشابهة، فاختص بعض العلماء الإسرائيليين في الأمراض التي تخص البلاد الحارة. ثم أولت إسرائيل اهتماماً خاصاً بأنظمة الشباب محاولة تعميمها على البلاد الإفريقية.
وأهم من هذا كونت إسرائيل خبراء يمتازون بعقلية الرواد، وهؤلاء الخبراء هم الذين يُرّسَلون إلى إفريقيا للقيام بمهماتهم، يقول “برنار رايخ”، أحد كبار الصحفيين وقد زار إفريقيا وشاهد دور الخبراء الإسرائيليين في إفريقيا: “ بينما الفنيون الأوروبيون والأمريكيون يتطلبون المكاتب المكيفة ولا يظهرون إلا ببدلات أنيقة وبقمصانهم البيض وهم يدربون الفلاحين الأفارقة على وسائل تنمية الإنتاج، نجد الخبير الإسرائيلي في أغلب الأحيان وسط الحقول مع الفلاحين لابساً الشورت الكاكي والقمصان المفتوحة قصيرة الأكمام ”.
تلك هي الأداة التي هيئتها إسرائيل لتقوم بمهمتها في إفريقيا.
2- أنواع المساعدات والنشاطات في إفريقيا:
هذه المهمة لها جانب فني مهم كما قلنا، وإن جانبها المهم خفي، نجده مثلاً في التكوين والتدريب في قلب إسرائيل، نجده في البعثات الفنية التي تُرسل لإسرائيل، نجده في الشركات التي تتعاقد فيها إسرائيل مع المؤسسات الاقتصادية المحلية.
أ- تفيد الإحصائيات الرسمية مثلاً، أن عدد الخبراء الذين أرسلتهم إسرائيل للبلاد النامية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، من 1958 إلى 1963 وصل 1500 خبيراً، منهم 1098 لإفريقيا وحدها. وفي سنة 1963 وحدها، أرسل 544 خبير لـ58 دولة نامية منهم 424 خبيرا لـ30 دولة إفريقية.
عدد الطلبة الذين يأخذون المنح من إسرائيل للتدريب بلغ في مجموع السنوات من 1958 إلى 1963، 6165 طالباً منهم 3431 من إفريقيا وحدها. بلغ عدد الطلاب الممنوحين سنة 1963 من إفريقيا في إسرائيل 1231 طالب إفريقي من 36 دولة. بعض هؤلاء الطلبة يدرسون في إسرائيل. في المعهد العبري بالقدس، باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مع قسط أساسي من العبرية. وقد خُصص مثلاً جناح طبي للأفارقة يصل عددهم مثلاً 20 في كل سنة، وتستمر الدراسة مدة 6 سنوات. وأن بعض هؤلاء الطلبة المبعوثين يحصلون على منح دولية كالمنظمة الدولية للصحة.
هناك طلبة من المعهد البيطري وبعضهم في مركز الطاقة النووية، ومعهد التكنيون بـ”حيفا” للكهرباء والفلاحة. وهناك المعهد الآسيوي الإفريقي للتدريب النقابي. وهذا المعهد يجب أن نقول عنه كلمة، لأنه يلعب دوراً مهماً بالنسبة لإفريقيا فهو معهد أسسته المنظمة النقابية الإسرائيلية “الهستدروت” بمساعدة من النقابة الأمريكية، هذه النقابة التي دفعت في السنة الأولى 180 ألف دولار لهذا المعهد. وقد حضر الدورة الأولى 60 وفداً من نقابات داهومي(9)، الحبشة(10)، غانا، ساحل العاج، كينيا، ليبيريا، نيجيريا، روديسيا(11)، السنغال، مالي، تشاد، غينيا. ووصلت الدورات حتى الآن إلى 10 دورات .نعم، بعض الدول التي كانت ممثلة في الماضي لم تعد ممثلة؛ مثلاً في سنة 1962 نجد فقط نقابات أنجولا، الكاميرون، إفريقيا الوسطى، موريتيوس، النيجر، رواندا، السنغال، تشاد.
ثم هناك نوع آخر من الدراسات وهي المؤتمرات: مثلاً المؤتمر العالمي الذي عقد في روحوبوت(12) آب/ غشت 1961 كان موضوعه العلم في خدمة الدول النامية، حضره عشرون وفداً من آسيا و إفريقيا. ومن إفريقيا، الكونغو “ليوبولدفيل”(13)، سيراليون، الكونغو “يرازافيل”، توغو . وعقدت ندوة أخرى علمية في آب/ غشت 1963 حول التخطيط القروي. وعقدت ندوة لكبار موظفي إفريقيا من 20 كانون الأول/ ديسمبر 1960 إلى 26 نيسان/ أبريل 1961، حضرها 26 متدرباً من إفريقيا، و 16 من الكونغو “ليوبولدفيل” وحدها.
وعقدت ندوة لنساء إفريقيا تحت عنوان دور المرأة في المجتمع النامي، دامت ستة أسابيع، وحضرته 63 امرأة من الكاميرون، الكونغو، داهومي، اثيوبيا، الغابون، ساحل العاج، كينيا، ليبيريا، مدغشقر، نيجيريا، تنجانيقا(14)، السنغال، سيراليون، أوغندا، فولتا العليا(15).
وأخيراً في آذار/ مارس 1964 أي منذ أسبوعين عقد مؤتمر دولي خاص بالحياة التعاونية حضره خبراء حتى من أوروبا الشرقية (10 خبراء) و 8 من أوروبا وأمريكا و 6 من كل من إفريقيا وآسيا و6 من أمريكا اللاتينية حول دور المؤسسات التعاونية في التنمية القروية. هذا جانب من نشاط إسرائيل في افريقيا.
ب- هناك جانب ثانٍ هو البعثات، هذه البعثات تشتغل إما بالشؤون الفلاحية أو بمحاربة الأمراض أو بالتخطيط القروي أو بتنظيم المواصلات وأيضاً بالقوات المسلحة. ونسيت أن أقول لكم، إن من جملة التدريبات التي نُظمت في إسرائيل، تدريبات خاصة بتنظيم الشباب، وتدريب رجال المظلات في الكونغو مثلاً.
ج- أما النوع الثالث من النشاط الإسرائيلي في إفريقيا فهو: المساعدة الاقتصادية إما على شكل شركات وإما على شكل قروض. وهذا قليل، ابتدأت إسرائيل بدفع أول قرض لـ”غانا” في سنة 1956. لأن غانا كانت هي المركز الأول لإسرائيل وانتهى دورها الآن فيه وكان القرض الأول قد بلغ 20 مليون دولار.
ولكن الخطة التي تتبعها إسرائيل في الميدان الاقتصادي هي علاوة على الخبراء وعلى التدريب، تكوين شركات مختلطة بين الدولة الحاكمة أو بين مؤسسات خاصة فيها وبين شركات إسرائيلية أهمها: شركة صوليل بونيه solel boneh التي هي من مؤسسات الهستدروت، والتي تمولها بعض المؤسسات الاستثمارية الأمريكية.
هذه الشركات تؤسس على أن 60% من الأسهم من رأس مال الدولة الإفريقية و 40% من “صوليل بونيه”. ولكن هذا أسلوب يفهمه الرأسماليون، وهو أسلوب يترك الأغلبية الصورية للدولة، وفي الحقيقة يبقى عنصر أساسي وهو التجهيز والخدمات، تقوم بها الشركة ذات النسبة الأقل، وقد بلغ رواج صوليل بونيه في إفريقيا سنة 1960 أكثر من 16 مليون دولار.
والمشاريع التي تقوم بها هذه الشركات تنتشر في إفريقيا ولها ميادين مختلفة. مثلاً في نيجيريا تقوم ببناء طرق ومباني مصانع وفنادق ومدارس ومبان حكومية وحي طلابي ومركز كهرباء؛ في سيراليون برلمان ومبان حكومية ومطار وبنك؛ في ساحل العاج مبان عمومية ومحطة إذاعة وتلفزيون ومخابر؛ في الحبشة بناء الطرق ومطار ومجارٍ؛ في تنجنيقا بناء فندق كليمانجارو، وفي جيبوتي مخازن في المرسى والمطار ..إلخ.
………………..
هوامش توضيحية:
(1)- أحداث 23 آذار/ مارس 1965..
(2)- أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، وُلد في بولندا باسم “دافيد غرين”..
(3)- (ثالث رئيس وزراء للكيان الصهيوني، وُلد في أوكرانيا سنة 1895 حين كانت جزء من الامبراطورية الروسية)..
(4)- (رابع رئيس وزراء للكيان الصهيوني، وُلدت في أوكرانيا باسم غولدا مابوفيتز، وهاجرت إلى أمريكا حيث استقرت لمدة 15 سنة، وبعدها هاجرت إلى فلسطين المحتلة)..
(5)- (أول رئيس لجمهورية مالي من 1960 إلى 1968)..
(6)- (رئيس جمهورية تنزانيا من 1964 إلى 1985)..
(7)- (وهي مجلة صهيونية تصدر بفرنسا)..
(8)- (هي جمهورية بورما أو ميانمار الحالية)..
(9)- (جمهورية بِنين حالياً)..
(10)- (جمهورية إثيوبيا حالياً)..
(11)- (الاسم الاستعماري لجمهورية “زيمبابوي” حالياً حتى سقوط نظام الفصل العنصري فيها سنة 1980)..
(12)- (توجد على بُعد 35 كلم جنوب تل أبيب في فلسطين المحتلة وتضم “معهد وايزمان للعلوم”)..
(13)- (الاسم الاستعماري البلجيكي للكونغو الديموقراطية حاليا)..
(14)- (جمهورية تنزانيا حاليا)..
(15)- (الاسم الاستعماري لجمهورية بوركينافاسو حاليا الذي قام الرئيس الشهيد “توماس سانكارا” بتغييره بعد سنة من وصوله إلى السلطة في 4 آب/ غشت 1984)..
……………..
يتبع.. جزء ثانٍ وأخير
ـــــــــــــــــــــــــــ
* مناضل وسياسي مغربي، وقومي عربي، كان قبل اختطافه واغتياله عام 1965 قائداً للمعارضة المغربية ومدافعاً عن قضايا الحرية والسلام في العالم.
(**) مداخلة الشهيد المهدي بن بركة في ندوة فلسطين العالمية بالقاهرة بين 30 آذار/ مارس إلى 6 نيسان/ أبريل 1965، قبل أشهر من اختطافه واغتياله.
المصدر: ”هسبريس” المغربية و”الحوار المتمدن”
التعليقات مغلقة.