فيصل عكلة *
بعد سيطرة نظام أسد على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة في ريفي حماه وإدلب وحصر ملايين المهجرين في بقعة جغرافية ضيقة تفتقر إلى المساحات الخصبة لإنتشار الجبال في أغلب مناطقها، الأمر الذي يوجب على القوى المسيطرة البحث عن أفضل الحلول للإستفادة مما تبقى من هذه الأراضي الزراعية ولكن هل يحدث هذا الأمر؟ للأسف محزن ما يحدث لأراضي الشمال، الزحف العمراني في سباق محموم مع المخيمات لإلتهام ما تبقى لدينا من أرض زراعية، رغم الكثافة السكانية الهائلة في الشمال الغربي من سورية، إثر حملات التهجير القسري، وندرة الأراضي الزراعية فيه، إلا أنّ الأراضي الزراعية تُقضم، أينما وجهتَ نظرك ترى الخيام في السهول وعلى ذرى الجبال وبين الأشجار وفوق الهضاب، حتى سكة القطار الوحيدة التي تعبر المحرر باتجاه الساحل لم تسلم من الخيام بل وجدها الناس ملائمة لبناء خيامهم!
في جوار مدينة (الدانا) الحدودية وعلى أرض زراعية خصبة انتشرت المخيمات، صحيفة إشراق زارت أحد هذه المخيمات والتقت مدير المخيم (أبو الخير) وسألناه عن سبب اختيارهم لهذه الأرض عند انشاء المخيم فأجاب:
(في الليالي الباردة نزحنا من ريف حلب الجنوبي قبل سنوات عدة بعد أن فوجئنا بوصول قوات النظام إلى مشارف البلدة، فررنا بأطفالنا وبما نلبس وتركنا خلفنا كل شيئ، وحطت بنا الرحال هنا، صاحب الأرض هذه أعطانا إياها مجانًا لنقيم عليها وما زلنا فيها).
التقينا خلال جولتنا في مخيمات (تل الكرامة) القريبة من مدينة الدانا الأستاذ( راجح أبو أحمد) وهو مسؤول أحد المخيمات وسألناه عن سبب بقائهم في هذه الأرض الزراعية مع صعوبة التنقل في فصل الشتاء الذي يبدأ في هذه الأيام، أخبرنا أنه راجع دائرة أملاك الدولة للحصول على أرض جبلية لنقل المخيم إليها فأخبروه عن تشكيل لجنة فنية ستعمل على فرز المنطقة الجبلية وتخصيصها للمخيمات وذلك بغية عودة الأرض الزراعية، فعلًا خصصوا لهم مساحة مناسبة من أرض جبلية قريبة، وسألناه عن إمكانية توفر الأموال اللازمة لنقل المخيم في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها النازحون هذه الأيام فأجاب: بأنّ بعض المنظمات الانسانية ستعمل على إنشاء المخيم بعد فرشه وتجهيز بنيته التحتية وقال: للأسف كنا نتوقع أن نزوحنا مؤقت ولكن طال بنا الأمد.
يُذكر أن المنظمات الإنسانية تنشئ في هذه الأيام عشرات الآلاف من الوحدات السكنية وتعمل على توزيعها على ساكني الخيام علَّها تخفف عنهم مأساة المعيشة في الخيم رغم شكاوي النازحين من ضيق تلك المساحة وتقارب المساكن من بعضها.
سألنا المهندس المساعد عباس الكامل وقد أشرف على إنشاء بعض المخيمات عن دواعي استخدام الأراضي الزراعية في بناء المخيمات فأجاب: (إنشاء المخيمات في الأراضي الزراعية حدث بعد آخر موجة نزوح وانحسار المناطق المحررة وظهور العديد من المخيمات العشوائية والنظامية. وهذا الأمر خطير جدًا ويؤدي إلى تناقص الإنتاج الزراعي من محاصيل شتوية وصيفية حتى أشجار الزيتون تناقص عددها مع مرور الزمن، كما أن البناء في المناطق الجبلية أقل تكلفة من الأراضي الزراعية من حيث الكلفة الانشائية، ويكون البناء محمي من العوامل الجوية والفيضانات التي تحدث بالسهول والأراضي الزراعية، ويكون في مأمن من الهبوطات والإنزلاقات والتصدّع، وتمنّى من جميع الإدارات والمجالس المحلية والمنظمات العمل على إنشاء مخيماتها في المناطق الجبلية ونقل المخيمات العشوائية من الأراضي الزراعية إليها). سألنا السيد عبد الله حسين وهو أحد المشرفين على مخيم مُقام في أرض زراعية قرب (سرمدا) عن سبب اختيارهم هذه الأرض رغم قرب الجبل من المخيم فقال: (سهولة بناء المخيم على الأرض الزراعية وخاصة في فترة النزوح الكبير حيث كنا بحاجة إلى السرعة لتجنيب الناس المبيت في العراء، لأن المناطق الجبلية تحتاج إلى كلفة تأسيسية مرتفعة ناهيك عن الإجراءات الروتينية في العقود وروتين الدوائر الرسمية وهو الأمر الذي جعلنا نختار الحل الأسرع والأرخص!)
أيضًا التقينا المهندس جميل الخضر مسؤول سابق في دائرة أملاك الدولة وسألناه عن رؤيته للواقع الزراعي الحالي في الشمال المحرر فأجاب: (بعد تقلص المساحات الزراعية بشكل كبير مقارنة بعدد السكان تدهورت الزراعة وأمسى التراجع الكبير في القطاع الزراعي بشقيّه النباتي والحيواني، فإن كانت خسارتننا ٠٦% من الأراضي فخسارتنا من الثروة الحيوانية تزيد عن ٠٧% وهذا وبال على الأهالي، كما أن استسهال الناس عمل المخيمات في الأراضي الزراعية، وهو ما سبب انحسار المناطق في المناطق المزروعة رغم قرب المناطق الجبلية كما هو الحال في مناطق (سرمدا ،الدانا)، بينما منطقة غصن الزيتون قد يكون الوضع مختلف قليلاً بما يخص الأمور الزراعية لتوفر مساحات زراعية أوسع)، أما الحلول المقترحة حسب ما أراه تتمثل بضرورة البحث عن المحاصيل البديلة، وأن نبتعد عن التفكير بالمحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والقطن والشوندر السكري أو ما شابه لأن ذلك يحتاج معامل والقمح نستورده مطحونًا وهو متوفر رغم غلائه إضافة إلى دعم المنظمات للنازحين، وعليه يجب اللجوء إلى زراعات أخرى مثل محاصيل الخضار والفواكه والأشجار المثمرة مثل التين التي فقدناها في مناطقنا حيث يمكن زراعتها في هذه المناطق (الجبلية أونصف الوعرة).
إنّ نقص وتآكل الأراضي الزراعية خطر وجودي كما هو خطر المدافع والطيران حسب رأي الناس هنا، وعليه يتوجب الحفاظ على استمرارية توفر الغذاء وتأمين حقوق أطفالنا المستقبلية كما يتوجب علينا تسليم الأرض لهم دون تشوه بيئي أوعجز في تأمين الغذاء، فهل سنعمل على ذلك؟ ذلك ما نأمله ويأمله خمسة ملايين مشرد يقطنون هذه البقعة التي تحيط بها الأخطار من كل جانب!
* كاتب سوري
المصدر: إشراق
التعليقات مغلقة.