الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

زيارة إلى بهاء طاهر

عبد الله السناوي *

تحت وطأة تقادم السنين وآلام المرض المبرحة صارح بطل قصة «بهاء طاهر» الجديدة نفسه بأنه قد «شاخ فلا تكابر»، «عاند من تطيق له عناداً».

«ذلك الوخز الحاد في الساق قرب الفخذين يأتي ثم يختفي، في الحقيقية يأتي ثم يبقى، لكنه أحياناً ينساه، الآن صعب أن ينساه. ربما لأنه سارَ كثيراً كي يصل إلى هذا المكان. ذكريات يا فندم!».. «ابتسم في سره مرة أخرى.. أي ذكريات يا أستاذ وأنت نفسك أصبحت ذكرى؟».

في ذلك النص القصصي البديع شيء من تجربة الأديب نفسه مع المرض وآلامه، التي أبعدته لسنوات طويلة عن المحافل الثقافية، دون أن تكون تقريراً طبياً عن حالته الصحية.

بعد اثنتي عشرة سنة أعدنا قراءة «بهاء طاهر» من جديد بقصة قصيرة عن «الحب المختلس» وحيرة الإنسان أمام معنى حياته، ما هو حقيقي وراسخ في الوجدان بالحنين وما هو عابر لا يستحق التوقف عنده بالتذكر.

«هل سيأتي وقت ينسى فيه كل شيء!؟ حتى نوال؟ فماذا يبقى الأفضل أن يرحل قبل ذلك».

تبدو قصته «نوال»، التي نشرت على صفحات جريدة «الشروق» (https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=23012021&id=54eb3ec2-c79d-4574-aa52-9d60949670c2)، كما لو أنها مقاربة جديدة أكثر حزناً مما تبدى في آخر قصصه: «لم أعرف أن الطواويس تطير»، التي نشرت عام (2009) على صفحات جريدة «العربي».

سألته: «هل نبرة اليأس من طبيعة الدراما أم تعبير عما يجيشُ بداخلك؟».. وأخذت أتلو على مسامعه المقطع الأخير: «نظرتُ نحو الطاووس المأسور، الذي كانت بعض ريشاته الملونة تبرز من ثقوب الشبكة وهو ينتفض، وقلت لنفسي وأنا أنصرف يا طائري العجوز أشباه عوادينا». الكلمتان الأخيرتان لأمير الشعراء «أحمد شوقي»، أي أننا نشبه بعضنا الآخر.

قال: «النص عن المقاومة لا اليأس وأرجوك ألا تقلق».. ثم «لا تنسَ أن لا شيء يفوق جمال الطواويس غير قبح أصواتها».

ثنائية اليأس والمقاومة بدت أكثر حضوراً فى «نوال»، حيث الحياة تكاد تتلخص فيما تبقت في ذاكرته من مشاعر قديمة لا تغادره.

«كان دبيب النمل في ساقيه يتحول بسرعة إلى لسع النحل. أراد أن يصرخ ولكنه

همس وهو ينظر أمامه مخاطباً البحر:

     ساعدني يا صديقي. ساعديني يا نوال.

     ولكن دموعاً نزلت من عينيه ولم يعد يرى البحر.

     أحنى رأسه وغمغم وهو يقبض على الحاجز ويتشبث به: «كله يهون».

     إنه الألم الإنساني، والذاكرة التي تعني الحياة رغم قسوتها.

«نوال» في توقيتها ورسائلها- رغم انها ليست جديدة- تعليق بلغة الأدب على ما صرح به قبل أيام الدكتور «صلاح فضل» رئيس مجمع اللغة العربية من أنه لم يتم ترشيح «بهاء طاهر» لـ«جائزة نوبل في الآداب»؛ لأنه يعيش في عزلة تامة، ولا يرد على أية اتصالات هاتفية.

لم يكن يصح أن يصدر مثل هذا التفسير عن ناقد أدبى كبير، فمثل هذه الجوائز تمنح بالجدارة الأدبية وحدها لا بشهادات طبية معتمدة!

«بهاء» لا يخفي أمراضه ولا يتستر على آلامه، لا تستهويه السياسة بمعناها الحزبي أو المباشر لكنه لا يتورع عن المشاركة في أي عمل وطني، ملتزماً بفكرة جوهرية تسكنه عنوانها: «مسؤولية المثقف».

هكذا مضى متكئاً على عصاه إلى ميدان التحرير وشارك بحماس شاب في جميع الفاعليات التي جرت قبل ثورة كانون الثاني/ يناير وبعدها من «كفاية» إلى اعتصام المثقفين في وزارة الثقافة الذي كان رمزه الأول ضد «أخونة» الثقافة المصرية.

من فرط التواضع في كلماته وتصرفاته يلحُّ عليك السؤال مرة بعد أخرى: هل يدرك هذا الرجل أن قامته لا تضاهيها قامة أخرى لأي أديب عربي آخر على قيد الحياة؟

يتحدث بصوت يكاد لا يسمع، يستملح السخريات المصرية ويرويها وهو يغالب ضحكه حتى في شدة مرضه، يكتب بقلم رصاص رواياته وقصصه القصيرة قبل أن يعيد كتابتها من جديد مرة بعد أخرى حتى يستريح لما كتب ويرى أنه يستحق أن يطالعه القارئ ثم لا يظهر عليه أنه قد أودع لتوه المكتبة العربية شيئاً يستحق أن ينفش ريشه كطاووس.

لا يخفي تأثره بنهج اثنين من أساتذته: «نجيب محفوظ» و«يحيى حقي»، فالأول وهو سيد الرواية العربية يمشي في الشوارع ويجلس على المقاهي ويحتضن شباب الأدباء، يسمع بأكثر مما يتكلم بينما كل كلمة منه تحفظها ذاكرة مستمعيه وتخلد في المرويات الشفاهية.. والثاني هو واحد من أهم الأدباء المصريين في القرن العشرين، لكنه لم يكن مغرماً بالأضواء ويفضل أن يكتب في المجلات الأقل انتشاراً إذا ما كانت أكثر جدية.

استوعب الدرس مبكراً من أستاذيّه والدرس وافق طبيعته المتأملة التي تميل لطلب السلام النفسي.

غير أن ذلك كله لا يعني أن من ساروا على هذا الدرب لا يعرفون قدر أنفسهم أو قيمة ما أسهموا به في تاريخ الأدب العربي الحديث.

في عالمه الروائي انعكاس لعالمه الحقيقي، فلسفته في الحياة وأحلامه المجهضة وتجاربه في المنفى.

قضيته الأساسية: أزمة الثقافة والمثقفين.

الأدب لا يكون عظيماً إلا بقدر أن يصدر من مواهب تعرف كيف تمزج الخاص والعام، تلتقط ما هو عميق بين ركام التفاصيل الصغيرة بحثاً عن معنى أو قيمة أو قضية.

كما في الحياة تماماً فإن أعماله الروائية لا تثرثر ولا تطيل بغير ضرورة فنية، وعباراته ذات إيقاع شعري، لأنه هو نفسه شاعر كامن يحفظ قصائد «المتنبي» و«شوقي» وصديقه القديم «صلاح عبدالصبور» وتُطربه ملحميات صديق آخر هو «عبدالرحمن الأبنودي».

روايته «واحة الغروب» تعكس شواغله الفكرية والتاريخية بصورة مثيرة، فقد بنى الرواية كلها على تفجير معبد تاريخي قديم في الواحات بعد الثورة العُرابية بسنوات دون أية معلومات إضافية، كان يمكنه أن يوظف الواقعة درامياً على أنها عمل إرهابي، لكنه كأديب حقيقي وضعها في سياق آخر عن خيانة المثقف بعد هزيمة الثورة، في هدم المعبد تعبير عن الضجر من عبء التاريخ وخيانات المثقفين.

لم تكن الشخصيات الأوروبية التي احتوتها أغلب رواياته، مقحمة على أي سياق درامي، كلها رُسمت بصورة بالغة البساطة والعمق تختلف جذرياً عن أية طريقة انتهجها أسلافه من الأدباء المصريين والعرب كـ«عصفور من الشرق» لـ«توفيق الحكيم» و«قنديل أم هاشم» لـ«يحيى حقي» و«موسم الهجرة إلى الشمال» لـ«الطيب صالح» و«الحي اللاتيني» لـ«سهيل إدريس».

رغم محورية أزمات المثقفين في مجمل أعماله إلا أنها لا تلخص عوالمه، وأي أديب كبير لا تلخصه قضية واحدة ولا يحتويه عالم واحد، ولا تكفيه زيارة واحدة إلى إرثه الأدبي الرفيع.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.