عمار ديوب *
شكّل التدخل العسكري الروسي في سورية بداية النهاية للثورة ولفوضى السلاح، حيث كان لتعدّد الفصائل وتشتّت قوتها وتذمّر السكان من ممارساتها، وبالتالي ضعفها، وغياب أيّ مبرّرات لاستمراريتها، تأثير مباشر على إجلاء تلك الفصائل من مناطقها، وجاء هذا بعد التدمير الروسي الممنهج للمناطق الواقعة تحت سلطة تلك الفصائل، وتشكيل مجموعة الدول الضامنة (روسيا، وتركيا وإيران)، والبدء بمسارات روسيا عبر أستانة وسوتشي، ولاحقاً اللجنة الدستورية، ومناطق خفض التصعيد.
ساعد وجود تركيا ضمن تلك المجموعة، والعلاقات الروسية التركية الخاصة، روسيا على إنهاء المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وسرّع بالتهجير الديموغرافي، ولم تبق إلّا إدلب وأرياف حلب والمناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والمحميّة أميركياً، بينما شُطبت درعا وغوطة دمشق وشمال حمص وحماه، كمناطق لخفض للتصعيد في 2018، واستعادها النظام.
الفصائل على الحدود:
حُشرت الفصائل في نهاية 2018 في المناطق المتاخمة للحدود مع تركيا، فاستراح النظام، وأصبحت سورية أربعاً؛ منطقة “قسد”، ومنطقة هيئة تحرير الشام، ومنطقة الفصائل المدعومة من تركيا، وهناك النظام. في الأيام الأخيرة، هاجمت هيئة تحرير الشام، وهي قوة عسكرية مسيطرة على مدينة إدلب، وتتحكّم بها اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، بلدة عفرين وجرت بعض المعارك وحاولت السيطرة على غيرها، وكانت خاضعةً من قبل لفوضى الفصائل المسلحة، وتوصل الفيلق الثالث، وهو من تشكيلات الجيش الوطني السوري، المُشكّل بإشرافٍ تركيٍّ، وهيئة تحرير الشام إلى اتفاقٍ، وشمل بقية بلدات أرياف حلب الشمالية والشرقية، وبالتالي أصبحت لدينا ثلاث سوريات؛ لم يصمد هذا الاتفاق بشكل كامل، وانتهى بالتدخل التركي المباشر، وبسبب الرفض الشعبي الواسع، ورفض بعض الفصائل العسكرية.
أتت معركة الهيئة بعد اعتماد تركيا سياسة جديدة، وهي محاولة التطبيع مع النظام، وهذا ما أثار نقاشاتٍ كثيرة، تضمّنت أن تدخلها في عفرين جاء بضوء أخضر تركي. هذه السياسة هي نتاج اتفاقات وسياسات مشتركة بين الرئيسين التركي أردوغان والروسي بوتين، وبما يخدم مصالح الدولتين أولاً. وبالتأكيد من أجل أن يفوز أردوغان في انتخابات 2023، وهذا يتطلب إيجاد الحل لعدّة مسائل: إعادة العلاقة مع دمشق وترحيل اللاجئين السوريين إلى الداخل السوري وإنهاء التنظيم العسكري الكردي، “قسد”، وهي قضايا أساسية في الداخل التركي، وبما يَسحب هذه الأوراق من يد المعارضة التركية، التي لا تنفك تثيرها، وتستند إليها من أجل الانتصار بالانتخابات المقبلة.
افتقاد الفصائل، وكل سلطات الأمر الواقع، استقلاليتها وتبعيتها للدول الإقليمية والعالمية، بعد الأعوام الأولى للثورة، شكّل انتقالة في الوضع السوري، حيث أصبحت تلك السوريات تابعة، وهذا قاد إلى ضرورة تصفية فوضى السلاح وحصره، ضمن سياسة اجتثاث الثورة، والانتقال إلى المصالحة بين النظام والمعارضة، وهي القضية المطروحة بقوّةٍ، ومنذ أن وافقت المعارضة على الدخول بمسارات روسيا، وتخلّت بذلك عن القرارات الدولية التي تؤكّد ضرورة تغيير النظام وليس المصالحة معه، والانتقال إلى نظام ديمقراطي عبر تشكيل هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات.
فوضى الفصائل وشمولية الهيئة:
لماذا لم تتّحد الفصائل ولم تشكّل قوّة مستقلة تطيح النظام وترفض التدخل الخارجي في سياساتها إلّا بما يتوافق مع مصالح الانتقال الديمقراطي واستنادا إلى القرارات الدولية؛ هذا سؤال السوريين المؤلم ومنذ 2011. الحسم السريع لصالح هيئة تحرير الشام في بلدات الشمال تتويج لذلك المسار، حيث هُمّشت بقية الفصائل التي لم تتحد من أصله، وبالتالي هَمّشت نفسها أيضاً، ودُعِمت الهيئة من الخارج بقوّة، وقد امتلكت، بوصفها حركة جهادية، رؤية شمولية للسيطرة، ووضعت لنفسها هدف الوصول إلى السلطة منذ تشكلت في بداية 2012، وتصارعت طويلاً مع الفصائل، وفي كل سورية، وخسرت معارك وربحت أخرى، لكنها أحكمت سيطرتها على إدلب، وأقامت سلطتها “الانتقالية”، إمارتها في إدلب، وأجهزت على كل الفصائل، الوطنية، والإسلامية، والجهادية، وسواها، وكذلك على عناصر الفصائل التي هُجّرت من بقية المدن، حتى استقرّ الأمر لها، وتحاول الآن أن تعيد الكرّة ذاتها مع فصائل الشمال، وتهدف إلى السيطرة على عائدات المعابر من ناحية، وعلى بقية الفصائل من ناحية أخرى، وهذا سيظلّ حلمها، وإنْ أخفق حالياً.
تتضمّن سياسات هيئة تحرير الشام في إدلب فتح المعابر وقمع السكان وإيقاف المعارك على الجبهات والانسحاب من المناطق التي اتفق عليها كل من بوتين وأردوغان، وهي تحمي مصالح الدول الضامنة، وقد كانت فصائل متحالفة معها (فيلق الشام)، الضامنة بدورها للاتفاقيات بين تركيا وروسيا في مدينة إدلب، ورافقت بمركباتٍ عسكريةٍ وحمت الدوريات الروسية على خطوط الفصل بين النظام وإدلب، وسواه كثير، وكلّه، يقول إن الهيئة تحوز سياسة خاصة بها، وأقرب إلى تركيا، ولكنها في المحصلة الأخيرة يستفيد منها النظام في تأبيد نفسه جهة مقبولة بالمقارنة معها.
لو طاب الاستقرار لهيئة تحرير الشام في أرياف حلب لعملت على تفكيك الفصائل مباشرةً، كما فعلت في إدلب، وكما حاولت ذلك في كل مناطق سورية، وفرضت سيطرتها الأحادية. خشية الأتراك من سحق تلك الأرياف التابعة لها من أميركا أو روسيا، وليس لأن فيها فصائل خاضعة لها، فهي مناطق نفوذها الكبير في سورية حالياً، هو ما حسم أمرهم بخصوص إعادة هيئة تحرير الشام إلى إدلب، فهي فصيلٌ جهاديٌّ محلي، كما تُعرّف نفسها، ومصنّفة حركة إرهابية، وبالتالي، يجب محاربتها، ولا سيما أن روسيا وأميركا تدّعيان أن سبب وجودهما في سورية هو محاربة الإرهاب. وهناك مشروع إسكان اللاجئين الذين ستعيدهم تركيا في الأشهر المقبلة، وهذا لن يتحقّق عن طريق سيطرة هيئة تحرير الشام على تلك الأرياف، حيث ستلعب “قسد” دوراً كبيراً في حث الأميركان على القيام بعمليات عسكرية ضدها، كما فعلت ضد داعش.
هناك من رأى، وهذا الرأي يتكرّر، أن الهيئة ستُقيم إقليماً سنيّاً واسعاً، وبالتالي، من الطبيعي أن تتوسّع إلى أرياف حلب، فهي كحركة حماس في غزة أو حزب الله في جنوب لبنان، وهناك من يترك لخياله العنان، فيقول إنّها كحركة طالبان، وستسيطر على كل سورية. وينطلق هذا الرأي من السماح إقليمياً ودولياً للهيئة بالسيطرة على إدلب. لنناقش الأمر: ترفض روسيا هذا الأمر على المدى الطويل، فهي مناهضة لقوىً كهذه، وتتشدّد ضدها، ثمّ أنّها تحمي النظام و”أقلياته”، وكذلك تحارب أميركا مشاريع كهذه. وبالطبع، تركيا مرتبطة بتحالفات واتفاقيات مع روسيا، وهناك التصنيف الأميركي، وفي مجلس الأمن، للهيئة باعتبارها تنظيماً إرهابياً.
من فصائل محلية إلى السلفية والجهادية:
رافقت مشكلة فوضى السلاح الثورة منذ أن راحت تشكل مجموعات عسكرية صغيرة لحماية المتظاهرين من قمع قوات النظام، أي بعد الأشهر الأولى للثورة. في تلك المرحلة، تمّ رفض تشكيل جسد موحد للقطاع العسكري، وما شُكِل منها، كالمجالس العسكرية كان هامشياً واندثر، وتمّ إبعاد الضباط المنشقين عن قيادة الفصائل. لقد تشكّلت الفصائل المحلية ضمن العقلية الأسرية والقبلية، ولاحقاً نمت وهيمنت السلفية والجهادية، وأتى “داعش” من العراق، وهَدم الحدود، وبنى خلافته، وكثير من التقارير تؤكد دور إيران والنظام السوري والعراقي في دخول داعش إلى سورية، وبهدف اجتثاث الفصائل المسيطرة على بلدات كثيرة من الحسكة ودير الزور والرقة، وهو ما حدث، وكانت الرقة أوّل مدينة تخرج عن سيطرة النظام بشكل كامل.
لم تحتَج بداية الفصائل المحلية إلى دعمٍ ماليٍّ وعسكريٍّ واسع، وكانت تستفيد من تحرير الثورة الشعبية لبعض البلدات، وتسيطر على الأسلحة من ثكنات الجيش النظامي، وتؤمن احتياجاتها المالية من السوريين، ولكن ومع اعتماد النظام الخيار العسكري، ولم يعد يكتفي بالخيار الأمني ومليشيات الشبيحة، كان لا بد من تطوير العمل العسكري المعارض، وهذا ما لم يحدث إطلاقاً؛ إن حالة التفتت الفصائلي في الشمال الراهنة، والاختلاف بين الفصائل ومسؤوليتها عن مقتل الصحافي محمد أبو غنوم وزوجته وجنينها، شكلت فرصة مثالية لهيئة تحرير الشام لتسيطر عليه. لقد تشكلت مئات الفصائل في أواخر عام 2011 ولاحقاً، ومع تعطل الاقتصاد وإطالة أمد الثورة، ودخول إيران وحزب الله والمليشيات الشيعية التابعة لإيران، أصبحت الأوضاع سيئة للغاية بمناطق الثورة، فوافقت على تلقي الدعم الأميركي والخليجي والتركي، ولكنه ظلَّ ضمن حدود هامشية ودون مضادات للطيران، وراق تعدد الفصائل للدول المتدخلة، حيث يسهل السيطرة عليها، وكل من تلك الفصائل فَتح صلات خاصة به معها. كانت تلك السياسة ضد مصالح الثورة، وضد تنظيم العمل العسكري، فشهدت سورية معارك كثيرة لم تشارك بها كافة الجبهات، فكانت المعارك تتم في درعا، فتصمت جبهات غوطتي دمشق، وكذلك الأمر في بقية المدن، والعكس صحيح. كانت سياسة فاشلة بامتياز، وحصلت معارك كثيرة بين الفصائل ذاتها من أجل السيطرة على المدن أو البلدات، وقُتِل بسببها آلاف المقاتلين منذ 2011 في الغوطة الشرقية بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن. وبرزت ظاهرة أمراء الحرب والنهب وإتاوات المعابر بين مناطق النظام والفصائل وتركيا و”قسد”، ولم تمتلك الفصائل رؤية سياسية محدّدة، ولم تخضع للمجلس الوطني السوري أو الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية لاحقاً، أو حتى للمجالس المحلية.
رفضت الفصائل السلفية والجهادية أيّ علاقات مع المؤسسات السياسية للمعارضة، ولكنها، ورغم الدعم غير المشروط من جمعيات وأفراد في العالم فهو لم يعد كافياً ويؤمن احتياجاتها، ولا سيما أن الحرب السورية امتدّت، وبالتالي خضعت بدورها للدول والمؤسسات الداعمة، وكانت تتحرّك ضمن سياسات كل من أميركا وروسيا وتركيا ودول الخليج، وما شذّ منها عن ذلك كداعش مثلاً أو سواه، شُنّت عليه المعارك، أو تشكلت ضدّه التحالفات الدولية من أجل القضاء على الإرهاب.
المشكلة الكبرى في العمل العسكري كان الإبعاد المدروس والممنهج للضباط عن قيادته، وهذا فتح المجال واسعاً لفوضى الفصائل والسلاح ولضعف أدائها وعدم قدرتها على القيام بمعارك كبرى، وعلى مساحة سورية، وهذا أدّى إلى دخول “داعش” إلى شرق سورية وتغلغله في بقية مناطق سورية، وأعطى لجبهة النصرة القوّة لتسيطر على إدلب، وبلدات محيطة بها من اللاذقية وحلب وحماه، وسَحقت الفصائل فيها. امتلك تنظيم داعش وجبهة النصرة أيديولوجيا، وقيادة مركزية، وسياسة واضحة للسيطرة على كل المناطق المحرّرة، والسلطة لاحقاً، وضَبطا التمويل الخارجي وسواه بمؤسساتٍ محدّدة، وشيدا مؤسسات “سيادية” لتدبير شؤون المواطنين.
عدم قدرة الثورة على إنتاج قيادة سياسية لها في 2011، سمح للمعارضة بالتسلّط عليها وتمثيلها عالمياً، وشكّلت رداءة قيادات المعارضة، واستغلال مناصبها القيادية للثراء الشخصي، والتفريط بحقوق السوريين، أسباباً متعدّدةً لغياب الرؤية الوطنية عن سياساتها ومواقفها وممارساتها، والخضوع للدول وللمؤسسات المانحة للمال، وكان لذلك الخضوع أسوأ الخيارات على تطوّر الثورة ومستقبلها. وقد تكرّر الأمر ذاته لدى الفصائل بكل مسمّياتها. كان في مقدور جبهات درعا والغوطتين وأرياف مدينة دمشق الدخول إلى العاصمة في 2012 وبعدها، ولكن حال دون ذلك خضوع تلك الفصائل للدول التي لا تريد بأي حالٍ سقوط العاصمة، وكلُّ منها لأسبابها، ولا سيما أن تجارب سقوط العواصم العربية في العراق وليبيا ولاحقاً اليمن كانت كارثية بكل المقاييس.
التحوّلات التي أجرتها هيئة تحرير الشام على سياساتها، وتخلّيها عن الارتباط بتنظيم القاعدة ومحاربتها بعض التنظيمات السلفية والجهادية في إدلب، وأبقت على بعضها الآخر للمساومة مع الدول التي تتفاوض معها بين وقتٍ وآخر، وبعث الجولاني رسائل طمأنينة إلى كلٍّ من الدروز والمسيحيين، وهم أقليات دينية. وشكلت الهيئة حكومة إنقاذ وإدارات مدنية لتدبير شؤون الناس، وخضوعها لاتفاقيات الدول الضامنة. هذه التحولات هي التي أكسبتها ثقة الأتراك في إدلب، وربما ثقة روسيا وأميركا، ثم إنّ قيادات الهيئة لم تتم ملاحقتها. المقصد هنا أن هيئة تحرير الشام تمتلك بنية عسكرية وأمنية موحدة، وليس فيها أيّ فصائل تتبنّى سياسات مستقلة أو يمكن أن تعارض سياساتها العامة، كما فعلت فصائل كثيرة في الجيش الوطني، المنضوي فيه الفيلق الثالث، ولم يشارك كل من الفيلقين الأول والثاني في معارك عفرين أخيرا.
مستقبل أرياف حلب:
لعب السوريون، أصحاب تلك البلدات والمهجّرون إليها، في أرياف حلب الدور المركزي في طرد الهيئة، حينما تظاهروا بشكل منظم، ولأكثر من أسبوع، فكيف إن انتخبوا قيادة سياسية تمثلهم، وبذلك يتمكّنون من فرض مطالبهم على الجهات المسيطرة في بلداتهم ومدنهم ومناطق اللجوء ومخيماته.
هل بمقدور الفصائل التي لم تستطع الاستمرار بالسيطرة على أرياف حلب بشكلٍ كامل، أن تستعيد قوتها وتشكّل جيشاً وطنياً بامتياز، كما تحلم بعض تيارات في المعارضة؟ هذا موضوع شائك؛ فالفصائل ظلّت فصائل، رغم انضوائها ضمن “الجيش الوطني السوري”، أي لم تنتقل إلى صفوفه أفرادا، بل مجموعات، والأسوأ أن الثقة بها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام ضعيفة؛ فهي كانت قوةً قهريةً على الناس، وهناك ملفات فساد كبيرة ضدها، وكان اهتمامها الأساسي تحصيل الموارد من المعابر أو التنافس على خدمة الأتراك، أو الاكتفاء بتعزيز سيطرتها على هذه البلدة ونهبها أو تلك، أو الاقتتال في ما بينها. ولهذا لم تَقبل الانضواء بالوطني بشكل فردي، وكذلك لم تستطع الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف أو المجلس الإسلامي السوري أو بقية الفصائل فرض سلطةٍ شاملةٍ على تلك المناطق، وكانت السلطات متعدّدة. وهذا لن يتغير أبداً، والأن سيفرض الأتراك السيطرة والسلطة عبر فصائل مقرّبة منهم (هيئة ثائرون مثلاً)، وقد يفرضون تفكيك بعض الفصائل التي ترفض الإذعان الكامل لهم، كالجبهة الشامية، أو جيش الإسلام.
نعم، يمكن للسوريين في البلدات خارج إدلب أن يلعبوا دوراً محورياً ويشكلوا سلطة شعبية مستقلة، وتكمن مشكلتهم في أنهم لم يطرحوا قضية تشكيل السلطة من أصله. وبالتالي، سيظلون تحت سيطرة الفصائل والإدارات المدنية التابعة لـ”الائتلاف”، وهذا يعني أن الشعب “الثائر” لم يطوّر مفاهيمه منذ 2011، وضرورة أن ينتخب قواه السياسية والنقابية والإدارية بشكل مستقل، وينتزع حقوقه من قوى الأمر الواقع، وبدءاً بالائتلاف ومؤسساته وحكومته المؤقتة والفصائل، وكذلك الأمر مع الأتراك.
قسد والفصائل:
السؤال الآن: هل يمكن للفصائل الابتعاد عن تركيا والتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، كما تَطرح بعض الأوساط في المعارضة السورية؟ وهل تستطيع “قسد” استيعاب الفصائل، وتشكيل قوة سورية معارضة كبيرة، كردية وعربية وسريانية وتركمانية وسواها، وعلى قدم المساواة، وتتخلّى عن هيمنتها القومية. يؤكّد غياب أيّ مفاوضات بين الطرفين أن هذا الاحتمال غير ممكن من أصله، رغم أنّ من الأحلام التي فكّر بها سوريون كثيرون، في الحقيقة، ما هو محض وهم، فليست “قسد” مؤهلة لذلك ولا الفصائل؛ فهي لم تقبل قوات البشمركة الكردية التابعة للمجلس الوطني الكردي، فكيف ستقبل هذه الفصائل، وأيضاً لم تستطع التحالف مع قوات المغاوير المتمركزة في قاعدة التنف، والمدعومة من قوات التحالف الدولي ضد الإرهاب، وأميركا، أي الجهة ذاتها التي تدعم “قسد”. الفصائل بدورها لا تمتلك جرأة الابتعاد كثيراً عن تركيا، وهي موجودة على حدودها.. إذاً، التفكير الوهمي لا يصنع واقعاً من معطيات غير واقعية.
حصر السلاح وضرورة الانتفاضة:
قضية حصر السلاح لدى الدول المتدخلة في الشأن السوري مركزية منذ بدأت مسارات روسيا، وجرى ذلك في مناطق معينة وبفصائل محدّدة، وهذا عكس دورها في الحفاظ على فوضوية السلاح في الأعوام الأولى للثورة. خلافات الدول المتحكّمة بالشأن السوري هي ما يُعطل الوصول إلى أي اتفاق بخصوص الحل السياسي، ولكن الحصر ذاك متفق عليه، وتميل أغلب التحليلات إلى أن ذلك مترافقٌ مع ترسيم خطوط السوريات تلك، وبهدف شطبها لصالح احتكار النظام لها، أي نظام، حينما يحصل الحل السياسي.
هل من دورٍ ما حالياً للسوريين. هو سؤالٌ نكرّره حينما نكتب عن الشأن السوري، وينطلق من بؤس واقعهم وحالة الهزيمة المسيطرة على وعيهم، وتعدّد القوى المسيطرة على حياتهم؟ نعم. رغم التحليل أعلاه، للقوى المؤثرة على الداخل السوري، فإن غياب الحل يعطي للسوريين فرصة استئناف دورهم. انعكس تأزّم الأوضاع في السوريات الأربع تأزّماً شديداً على فاعلية السوريين أيضاً، ولكن الحرب أخيرا في عفرين أوضحت أن للشعب دوراً كبيراً في تغيير المعطيات، وإجبار الفصائل على تغيير سياساتها، والوقوف ضد هيئة تحرير الشام، الأكثر تنظيماً وخبرة قتالية وأصولية.
القضية الجديدة في سورية هي تفاقم الأوضاع، والتململ الشديد في كافة المناطق السورية. إن هذه الأوضاع تستدعي إنتاج قوى مجتمعية وسياسية ثورية، وهذا هو الرهان حالياً. وعدا عن هذا الوضع، هناك استمرار الحرب على أوكرانيا وضعف روسيا والانتفاضة الإيرانية، والدعم الأميركي المحدود لقسد، وتشتت قوّة الفصائل، فهي لا تمتلك سلطة قمعية كهيئة تحرير الشام، بالتالي هناك فرصة ثمينة لعودة السوريين للانتفاض من جديد، وهو ما شهدته أرياف حلب الشمالية والشرقية أخيرا، وما تشهده مناطق “قسد” في بعض الأوقات، وهناك درعا والسويداء، اللتان لم تستقرا بعد. وهذا يستدعي إخراج كل الفصائل من المدن والبلدات والقرى، واستعادة الاحتجاجات، وتشكيل سلطة إدارية (ويُفترض أن تدعمها الدولة التركية)، ومعنية بتدبير شؤون المواطنين العامة من تعليم وصحة وقضاء وشرطة ونظافة وسواها، ويتطلب ذلك خطاباً وطنياً جامعاً، تغيب عنه المفردات الدينية بصفة خاصة.
كان استخدام الدين بالسياسة كارثياً على مصير الثورة السورية، بكل مكوناتها السياسية والعسكرية وسواها، وأنتج لنا عشرات القوى الإسلامية، السلفية والجهادية، والتي كَفّرت بعضها بعضاً ولا تزال، وكان كارثياً أيضاً على النظام، فأصبح رهينةً بيد إيران وبأوهامه عن التجانس “الطائفي”، وبالتالي يجب تحييد وتنزيه الدين أولاً وإعادته كمرجعية أخلاقية لكل السوريين، وليس لطائفةٍ بعينها، فيصبح الإسلام للجميع، وكذلك المسيحية، وأيضاً بقية المذاهب، والتقدّم بمطالب سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة، وجامعة لكل السوريين.
حصر السلاح مرحلة أولى في إطار سحبه لاحقاً، وإعادة احتكار الدولة السورية له، وهذا من أسباب كل المسارات الروسية منذ 2015، والتي جرت بموافقة تركيا والقوى والفصائل التابعة لها من السوريين، وأيضاً بموافقة أميركية، حينما وافقت على تسليم درعا في 2018، ولم ترفض مسارات روسيا بشكل حاسم. ولهذا جرى الحفاظ على هذه الدولة من الدول المتدخلة بالشأن السوري ومُنِعَ إسقاطها، وهذا موضوعٌ متروكٌ إلى حين الوصول إلى اتفاق سياسي في سورية، وهو مستبعدٌ حالياً، وبالتالي، سيستمر السلاح في السوريات الأربع، وسيستمر تفاقم الأزمات، وهذا هو المدخل لفرضيتنا بضرورة العودة إلى الانتفاض (رغم التعقيدات الكبيرة أمام تجدّده)، وبمطالب مجتمعية واسعة، ولكن محدّدة أيضاً، وعبر التنسيق بين السوريات، وبعيداً عن اللعب بالأديان أو الطوائف أو المذاهب، وكذلك القوميات.
هل ينهض السوريون رغم كل عوامل الإحباط والشعور بالهزيمة وتعدّد سلطات الأمر الواقع، وتعقيدات موضوع الهوية ومفهوم الوطن الواحد، وغياب التوافق الدولي حول البدء بالحل السياسي، والأزمات الدولية الشديدة.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.