الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مراجعة لكتاب ” الثورة في شبه الجزيرة العربية؛ The revolt in Arabia “

الكاتب: دي. سنوك. هرخرونييه؛ D.Snouck . Hurgronje

معقل زهور عدي*

الجزء السابع والأخير:

لقد كان بالإمكان دائماً وبكثرة رؤية الحقائق السابقة المتعلقة بتأثير لقب الخلافة في المسلمين في التاريخ الاسلامي وعبر مئات السنين, وقد ازدادت وضوحاً في القرون الأخيرة.

مع ذلك فإن الخليفة القوي يُفترض فيه نظرياً أن يضمن الوحدة السياسية لجميع المؤمنين.

ينظر للخليفة كتجسيد حي لوحدة المسلمين وبصورة رئيسية كقائد لجيوشهم ضد أعداء الايمان, أو أنه يحمل لقباً مجرداً من أي معنى حقيقي.

وفي النظام العالمي الحالي لا يمكن تحمل تلك المؤسسات التي تعود للقرون الوسطى ( يقصد الخلافة الإسلامية ), وبالنسبة لتركيا فلا يمكنها العيش بسلام مع بقية دول العالم التي تعيش فيها تجمعات إسلامية ما لم تتخلى بصورة نهائية عن أية ادعاءات تحملها فكرة الخلافة. حتى لو بقي لقب الخلافة كمنصب فخري. وقد فهم ذلك رجال الدولة الأتراك في الفترة الأخيرة بصورة جيدة ( يقصد الاتحاديون ) فإما أنهم استبعدوا فكرة الخلافة في جميع لقاءاتهم الدولية أو هم تسامحوا مع النظرة الخاطئة لزملائهم الأوربيين القائمة على مماثلة الخليفة بالبابا الذي يُعتبر رأس الكنيسة باعتبار أن استمرار مثل ذلك المفهوم لا يضر شيئاً في الواقع.

بالنسبة لعامة المسلمين غير المثقفين ممن لا يقيمون وزناً للآراء المعاصرة والذين استمروا في إعطاء مكانة هامة لفكرة الخلافة البالية ضمن الإطار النظري لنظامهم السياسي فقد ظهروا غالباً على أية حال حاملين لرؤيا إسلامية عامة تهدف لاستعادة ما انتهى منذ زمن بعيد من الحياة الواقعية ولو بصورة أوهام. وغالباً ما كانت تلك الرؤيا محملة بالطموح. أما ما هي فرصة فكرة الخلافة للصعود ثانية على مسرح العلاقات الدولية المعاصرة فقد ظهرت عندما استحضرت الحكومة التركية والتي شجعها تحالفها مع الألمان فكرة الخلافة من التاريخ وهكذا كان الإعلان عن ” الحرب المقدسة ” ( يقصد إعلان الجهاد ) ضد التحالف أول إشارة لنهوض فكرة الخلافة من جديد, هذا الإعلان الذي جاء مرفقاً مع نداء لجميع المسلمين في العالم للمساهمة في تلك الحرب المقدسة. بغض النظر عن السلطات السياسية الملزمين بطاعتها. ( لا شك أن الكاتب يعتبر سلطات الاحتلال الاستعماري ضمنها أيضاً ).

بعد ذلك ظهرت سلسلة من المطبوعات الرسمية وشبه الرسمية تدور كلها حول نظرية مفادها أن السلطان- الخليفة التركي هو وحده وتحت كل الظروف الرجل الذي بيده صلاحية وضع السياسة واتخاذ القرار في العالم الإسلامي ولجميع المسلمين .

لذا ومع أخذ كل ما سبق بعين الاعتبار فقد أصبح من الضروري بإلحاح الإجابة على السؤال حول ما إذا كان شريف مكة يحاول أن يكون منافسا للسلطان محمد رشاد على الخلافة.

إن نظرية الخلافة بغض النظر عمن يحمل ذلك المنصب لا تتفق كلياً مع الظروف السياسية الواقعية المعاصرة, وذلك سيكون صحيحاً بعد انتهاء الحرب ( يقصد الحرب العالمية الأولى ) مثلما أنه كان صحيحا قبلها. ولا يمكن تحمل مثل تلك الفكرة سوى بكون المنصب الذي يمثلها لا قيمة له تماماً بل مجرد منصب فخري فارغ المضمون.

وما تبقى هو أنه ومن خلال ما سبق كتابته حول تاريخ شرافة مكة وظروفها الحالية فإن أية تطلعات نبيلة لشرافة مكة ( يقصد الانفصال عن الدولة العثمانية ) من أجل إمارات محلية لن تواجه ظروفا مناسبة.

وفكرة حصول شرافة مكة على الخلافة قد طُرحت أكثر من مرة من قبل مستشرقين أوربيين متخصصين بالمواضيع الإسلامية , لكن لم تتم مقاربتها في العالم الإسلامي, ومنذ العام 1200م لم يفكر بتبنيها أي شريف لمكة من أحفاد ’قتادة‘ وحتى في الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب على وجه الاطلاق. ومن غير المناسب أن تتم ممارسة التأثير على شريف مكة لدفعه نحو المراهنة على الخلافة حتى من جهات أوربية. وجميعهم يعرفون جيداً كم سيكون حظه بالنجاح ضئيلاً جداً. كما أنهم مقيدون بالتقاليد الغربية ( الموقف التقليدي ألأوربي المستمد من العلمانية ) وأيضاً بالموارد المحدودة للحجاز. ( يقصد عدم قدرة الحجاز على أن يصبح العاصمة السياسية لوحدة اسلامية مفترضة ).

لعلنا لا نقوم بعمل غير ضروري في نقدنا للخطأ الذي يقع فيه كثيرون وهو الرأي القائل بأن انتزاع الحجاز من سلطة الدولة العثمانية يمكن أن ينهي الخلافة التركية بصورة أوتوماتيكية, باعتبار أن الخليفة إنما يؤسس ادعاءه لذلك المنصب على كونه الحامي للمدينتين المقدستين, فمثل ذلك الرأي لا تدعمه القوانين الإسلامية ولا التاريخ, فقد عايشت مكة والمدينة حقبة كانت المدينتان فيها بيد القرامطة الخارجين عن الإسلام, وعندما تخلى القرامطة عن المدينتين لصالح مدعي الخلافة الفاطمي, ومرة ثانية عندما تم تجميد كافة العلاقات مع منصب الخلافة أثناء سيطرة الوهابيين على الحجاز وطردهم الأتراك من مكة والمدينة. وفي كلتا الحالتين السابقتين لم يتعرض أي مسلم لحق الخليفة في حيازته لشرف الخلافة, فمنصب الخلافة استقل عن العلاقة بالمدينتين المقدستين أكثر من مرة.

وبعيداً تماماً عن الطموح السياسي فهناك أسباب كافية شجعت الشريف ’حسين‘ على شق عصا الطاعة للدولة العثمانية, فمن المعروف جيداً أن العلاقة بين السلطان العثماني والشريف حسين كانت رسمية ولم تكن أبداً ودية, ودائماً كان الأشراف يشعرون بوطأة الوصاية التركية, كم أن الأتراك لم يبذلوا جهداً في التقرب من الشعب هناك كي يشعر أنه يجني فائدة من وجود هؤلاء المحتلين. فهم لم يقدموا شيئاً, ولم يكونوا قادرين حتى على تأمين الطرق الموصلة لمكة والمدينة خلال أسابيع الحج.

وفي الجزيرة العربية كما في كل مكان آخر لم يبذل الأتراك جهداً له قيمة لكسب ود الشعب, لقد كانوا غير شعبيين إلى أقصى حد.

( ربما يتحدث الكاتب هنا عن آخر مرحلة في عمر الدولة العثمانية التي شهدت تفكك الدولة وانتشار الفساد واختلال حبل الأمن وفرض ضرائب باهظة لتمويل الجهد العسكري ولتمويل مظاهر البذخ مثل قصري “دولمة بهجة” و”يلدز”, لكن من غير الانصاف تعميم هذه الحالة على كامل تاريخ الدولة العثمانية )

بالنسبة لجمعية الاتحاد والترقي التي أصبحت في سدة الحكم فعلياً للدولة العثمانية منذ العام 1908 فلم تكن متعلقة كثيراً بالمكيين وأمرائهم الهاشميين. وهؤلاء الذين كانوا يزورون استانبول من المكيين بعد العام 1908 كانوا يعودون بمشاعر الصدمة والدهشة من القيم والآراء والتصرفات لتركيا الفتاة.

لقد كان كل اهتمامهم بمكة ومسائل الحج يتركز حول الفائدة التي يمكن للدولة العثمانية أن تجنيها من تلك الوظيفة, تماماً كما يهتم المزارعون بتقديراتهم لمحصول الحصاد.

بالنسبة للجمعية ( الاتحاد والترقي ) التي رفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة كمبادئ لها فسرعان ما انخرطت بالممارسات الاستبدادية في الحكم كتلك التي كانت في عهد السلطان عبد الحميد, أما في مكة فقد اعتبرت مسؤولة عن مشاركة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى والتي كانت لها نتائج سلبية واضحة على مكة والمدينة فقد توقف الحجاج عن القدوم للحج كما جرى تقييد توريدات الأغذية, حتى الشعب في غرب الجزيرة العربية ( ربما يقصد كامل الحجاز ) والذي سبق أن تقبل طواعية سيادة الدولة العثمانية فهو يلعن الآن النظام التركي الحالي. فلا غرابة في أنهم مستعدون لمناشدة قوة عدوة للتحالف التركي- الألماني وهذا ما أشار إليه التلغراف الوارد من رويتر التي تقع إحدى وكالاتها في جدة.

لا يمكن تصور دور لشرافة مكة في الحرب العالمية العظمى فالقوة التي تحت تصرفها لا تزيد عن عدد من الحراس الشخصيين, وبعض المرتزقة, والمشاركة الممكنة لبعض القبائل البدوية, ومن الصعب دمجها بقوة واحدة منسقة, وهم غير منضبطين وغير مدربين, وليس من الممكن تجنيد جيش من سكان مكة أو المدينة في حين يمكن للشريف ’علي‘ الموالي لتركيا أن يجد بينهم بعض الأتباع.

بالنسبة للجزيرة العربية، فهي الآن كما كانت في الماضي منقسمة بطريقة لا أمل فيها تتنازعها العداوات منذ مئة سنة ( يقصد حملة الوهابيين في نجد على الحجاز ثم هزيمتهم أمام جيش محمد علي باشا وعودتهم ثانية لنجد مع بقاء التناقض بينهم وبين الهاشميين إضافة للنزاعات القبلية الأخرى كما في جنوب الجزيرة ) بالتالي فهي ( الجزيرة العربية ) غير مستعدة للمهام الكبيرة.

لكن في الوقت الحاضر فإن تمرداً ضد الأتراك بقيادة الشريف حسين وبدعم من انكلترا يمكن أن يسبب مشكلة جدية للدولة العثمانية خاصة أنه يحدث في مكة المشهورة والمقدسة لدى المسلمين في العالم.

مثل تلك الحملة إذا ما خُطط لها جيداً, ونفذت باقتدار, ستكون ضربة قوية كرد على محاولة حكومة تركيا الفتاة المؤيدة بالحكومة الألمانية لإثارة التعصب الإسلامي ضد أتباع الديانات الأخرى ( يقصد الغرب المسيحي المتحالف ضد ألمانيا وتركيا ) واستخدام تلك المشاعر كأداة للفتنة.

على أية حال فعلى أولئك الذين يكرهون اللعب بنيران التعصب الديني قياساً على ما وصفوا به أنفسهم ( يقصد جمعية تركيا الفتاة العلمانية ) ألا يَغضبوا من نهوض العرب ضدهم, وكل ذلك سيقود إلى وضع نهاية لتلك الضجة المفتعلة التي لا قيمة لها حول ” الخلافة ” و” الجهاد ” والتي كان يمكن أن تؤخذ بجدية.

إلى هنا ينتهي الكتاب المخصص للبحث أساساً في الخلفية التاريخية لشرافة مكة منذ بدء صعودها كظاهرة سياسية في الحجاز مبتعدة عن أصولها الاجتماعية- التقليدية المرتبطة بالمعتقد الديني. وذلك هو محل الاهتمام إذ من الضروري لفهم كل الأحداث اللاحقة امتلاك فكرة واضحة إلى حد ما عن خلفية ظاهرة شرافة مكة وتاريخ تلك الظاهرة, وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية المعقدة.

فالأصل في لقب ” الشريف ” لم يكن أبداً الحاكم السياسي لكنه مجرد إشارة للنسب الشريف, ومن الجلي كيف أن تلك الصفة قد جرى استغلالها لتثبيت حكم عائلة بفروعها المختلفة للمدينتين المقدستين وللحجاز عموماً, وكيف تم ذلك التحول في زمن الفوضى السياسية للدولة العباسية, ثم أصبح مع الزمن أمراً واقعاً مسلماً به بفضل عدة عوامل منها ما يتعلق بضعف الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية للحجاز مما لم يجعله محط المنافسة للسيطرة عليه, بل على النقيض من ذلك, فطبيعته القاحلة وكونه مسرحاً للقبائل البدوية التي لا يمكن السيطرة عليها سوى بصعوبة بالغة جعلته عبئاً على مختلف الدول التي تعاقبت على العالم الإسلامي, بينما كان على تلك الدول الاهتمام مجبرة بمكة والمدينة لما للمدينتين من مكانة مميزة عند جميع المسلمين وكذلك بتأمين طرق الحج التي ظلت دائماً عرضة لغارات البدو, وكذلك تأمين انتظام أعمال الحج والقيام بأعبائه ولو بالحد الأدنى, وكل ذلك أعطى ظاهرة شرافة مكة الفرصة السانحة للظهور والاستمرار.

يضاف لما سبق حاجة القبائل في الحجاز وحولها لزعامة معنوية تكون بمثابة عنوان لهم للتعامل مع الكيانات الدولية المحيطة بهم ولفض نزاعاتهم المزمنة, وربما لإضفاء شيء من الشرعية المستمدة من الموروث على طبيعة أعمالهم التي اتصفت دائماً بالغزو والسلب للقوافل بما فيها قوافل الحج.

تُظهر الاستنتاجات الأخيرة للباحث المرتبطة بالمآلات المتوقعة لثورة الشريف حسين حدود تلك الثورة بناء على الوضع السياسي والاقتصادي والعسكري للحجاز, فهي لن تخرج عن كونها فرصة لفتح جرح في قدم الدولة العثمانية المتحالفة مع الألمان في الحرب العالمية الأولى, ومثل ذلك الجرح سيعرقل المجهود العسكري العثماني ويخلق نوعاً من الإرباك للحكم في استانبول.

ومن الواضح أن البروفسور ’سنوك‘ لم يكن يتصور نجاح تلك الثورة, كما كان بعيداً نوعاً ما عن المخططات السياسية البريطانية- الفرنسية التي كانت قد رسمت بوضوح خارطة المنطقة لما بعد الحرب العالمية الأولى آخذة بالاعتبار تقاسم أراضي الدولة العثمانية الآيلة للانهيار.

لكن تحليل البروفسور ’سنوك‘ يلقي الضوء بصورة غير مباشرة على حقيقة أن ” الثورة العربية الكبرى ” لم تكن لتستطيع أن تفعل شيئاً أكثر من عرقلة جزئية ومؤقتة لجيوش الدولة العثمانية وأن كل ما زاد على ذلك لم يكن سوى محصلة تخطيط ومشاركة الدولة البريطانية التي استخدمت تلك الثورة لغاية مزدوجة: عرقلة المجهود العسكري العثماني واستنزافه في جبهاته الخلفية وصناعة واجهة عربية- إسلامية تفتح الطريق أمام احتلال المنطقة العربية وتقسيمها وفق اتفاق سايكس بيكو سيء الذكر.

{ ملاحظة: يتضمن الكتاب ترجمة من العربية للإنكليزية لإعلان الشريف حسين الثورة العربية الكبرى وقد سبق أن نشرتُ مراجعة لذلك البيان, وأعيد نشره هنا كملحق لهذا البحث. (https://thefreedomfirst.com/2022/09/12/040/)

قراءة في إعلان الشريف حسين الثورة على حكم الدولة العثمانية:

أول ما يلفت النظر في الاعلان كونه موجهاً ليس لأهل الحجاز ولا للعرب ولكن للمسلمين, فهو يستبطن هنا كونه يصدر عن جهة لها مكانتها لدى جميع المسلمين وأعني بذلك شرافة مكة المستأمنين على الحرمين الشريفين في مكة والمدينة, وهو بذلك يشير ضمناً إلى جدارتهم في منافسة الدولة العثمانية التي كانت تعتبر لدى كثير من المسلمين دولة الخلافة الإسلامية وبالتالي لا يجوز ” شرعاً ” الخروج عليها وعصيانها.

ويظهر ذلك التأثير المحدود للأفكار القومية على الأسرة الهاشمية في تلك اللحظة, واختلاط تلك الأفكار بالعناصر الدينية التي يستمد منها الشريف حسين مكانته السياسية.

ينتقل الخطاب بسرعة إلى التذكير باعتراف أمراء مكة ” الأشراف ” بالدولة العثمانية وانضوائهم تحت رايتها بأسلوب يوحي بأن ذلك الاعتراف والتأييد جاء عن قناعة ورضى وليس عن فرض ارادة القوي على الضعيف, وأنهم دافعوا عن الدولة العثمانية حتى ضد أبناء جلدتهم العرب حين أرسلوا جنودهم لقتال التمرد الذي حصل في جنوب الجزيرة في منطقة أبها.

إذن فهم لم يبيتوا العصيان والتآمر على الدولة العثمانية بل قاتلوا من أجل هيبتها وشرفها.

فماذا حصل إذن لإعلان الثورة اليوم؟

يجيب المنشور بطريقة مباشرة وصريحة:

أنتم الذين تغيرتم, فلم تعد الدولة العثمانية تلك الدولة التي ارتضينا رايتها ودافعنا عنها بالدم.

الدولة العثمانية اليوم تحت قبضة جمعية الإتحاد والترقي ذات التوجه القومي العنصري التركي, وهي تتنكر للإسلام الذي قامت تحت رايته.

هذه الجمعية ذات السياسات المتخبطة الفاشلة التي تسببت في خسارة البلقان وتقويض عظمة الدولة العثمانية, وأخيراً الزج في الدولة في معمعان الحرب العالمية مما وضع الدولة في موقف ” الهلكة “.

لقد تسببتم في هلاك الكثيرين من مواطني الدولة ورعاياها, وأفقرتم الملايين حتى اضطر الناس إلى بيع أبواب بيوتهم وأسقفها لشراء ما يقتاتون به من الجوع.

ماذا بعد؟

ثم إنكم تنكرتم للإسلام والشريعة, ودليل ذلك ما كُتب في الصحيفة التي تنطق باسمكم من أن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام هي شر السِيَر, على مرأى ومسمع الوزير الأعظم وجميع المسؤولين, ثم أبطلتم حكم الإسلام في ميراث المرأة بإحداث ميراث يعطي الأنثى مثل الذكر, وحللتم الفطر في رمضان للجنود المقيمين في مكة أو المدينة أو الشام بدعوى أن رفاقهم يقاتلون في حدود الروس !

وقيدتم أيدي السلطان فلم يعد بيده من الأمر شيء حتى تعيين رئيس الكتاب لديه, فكيف يقدر على الاضطلاع بمهام خلافة المسلمين وهو مسلوب الارادة, سجين القصر؟

وهنا يتعرض المنشور لنقطة بالغة الحساسية وهي أن الخلافة لم تعد قائمة لانتفاء شرطها وهو امتلاك السلطة والقرار. فكيف تطالبون المسلمين بطاعة خليفة غير موجود؟

وقد صبرنا على هذه الحالة زمناً حتى تبين تماماً أن الدولة أصبحت بيد جمال باشا وأنور باشا وطلعت بيك.

وقد بلغ الظلم حده بإعدام واحد وعشرين من عظماء أفاضل المسلمين ونوابغ العرب منهم الأمير عمر الجزائري والأمير عارف الشهابي وعبد الحميد الزهراوي وشكري بيك العسلي وغيرهم.

وبعد إعدامهم سلبتم أموالهم وأملاكهم وشردتم عوائلهم ونفيتموهم من بلادهم.

ثم أشار المنشور إلى إطلاق القوة العثمانية القنابل التي سقطت بجوار الكعبة ويبدو أن ذلك قد حصل أثناء المواجهة بين الحامية العثمانية في مكة وقوات الشريف حسين.

وقبل أن يصل المنشور إلى نهايته يقول: لذلك كله لن نترك كياننا الديني والقومي ألعوبة بيد الاتحاديين.

أخيراً: يقرر أن ” البلاد ” قد استقلت فعلاً استقلالاً تاماً بعيداً عن أي تدخل أجنبي. ويبدو واضحاً أن الإعلان قد صدر بعد الاستيلاء على مكة والمدينة والطائف, بالتالي فهو يعني بالبلاد الحجاز على وجه التحديد وليس شيئاً آخر في تلك المرحلة التاريخية.

قد يصدم ذلك الإعلان وما جاء فيه السردية النمطية التي انتشرت مؤخراً في قطاع من الرأي العام في سورية, هذه السردية التي تهمل أن الدولة العثمانية في أواخر عهدها وقبل ثورة الشريف حسين لم تعد دولة الخلافة التي مازالت محل اعتقاد البعض, وعلى النقيض من ذلك فجماعة الاتحاد والترقي هي البيئة الثقافية- السياسية الأصلية التي ولدت منها الأتاتوركية العلمانوية.

لقد انقلبت على يد تلك الجماعة سياسة الدولة العثمانية رأسا على عقب, وأنزلت بالعرب وغيرهم من المظالمِ ما لا يطاق, وزجت بأبنائهم في حروب لم تكن ضرورية وخاسرة.

فكيف لا يمكن توقع صدور ردود فعل لذلك النهج الذي لا يمت بصلة لنهج الدولة العثمانية السابق؟

هل يبرر ذلك الثورة ضد الدولة العثمانية أثناء تكالب دول التحالف ضدها وخلال أشد فترات الحرب؟

هل يبرر ذلك التحالف مع الدولة الاستعمارية الأكبر والأخطر في وقتها أعني بريطانيا؟

لعل التاريخ اللاحق يعفينا من مشقة البحث عن الإجابة عما سبق.

لم تسفر ثورة الشريف حسين لا عن التحرر ولا عن الاستقلال الحقيقي, بل عن الوقوع فريسة بيد الاستعمار الغربي ثم التقسيم ونكبة فلسطين.

لا بد من الإشارة هنا لرأي المفكر والسياسي العروبي الفذ ’’شكيب أرسلان‘‘, الذي بالرغم من تفهمه العميق لدواعي التذمر لدى المثقفين العرب لكنه كان يدرك ببصيرة نافذة أن شعار الانفصال عن الدولة العثمانية في تلك اللحظة التاريخية الحرجة لم يكن يعني واقعياً سوى الوقوع فريسة الذئاب الغربية المتربصة, وأن الحل في الكفاح لتحويل الرابطة العثمانية لما يشبه الاتحاد الفدرالي الذي ينّصف العرب ولا يكشفهم أمام القوى الاستعمارية الغربية.

لكن التاريخ كان له رأيٌ آخــر.}

* ما بين قوسين أو ما أشير إليه كملاحظة هو مني وليس من المؤلف.

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل

التعليقات مغلقة.