خولة مطر *
قال لي ذاك الصديق الذى رحل دون أن أودعه كآخرين كثر في السنوات الأخيرة، قال «ابقي فسيأتي ’بهاء‘ وأريدك أن تتعرفي عليه» وكان هو معتاداً أن يُعرفني لأصدقائه الكثر من فنانين تشكيليين وموسيقيين وصحفيين مخضرمين وشباب.. جلسنا طويلاً ذاك المساء في قهوة زهرة البستان وأنهينا ربما كل المتوفر من مشروبات على قائمة الطلبات من أنواع الشاي والقهوة.. ولم يأتِ ’بهاء‘ الذى انتظرته بحُرقة رغم أني لم أكن أعرف أي ’بهاء‘ هو؟
- • •
جاء النادل ليكرر على صديقي العبقري «أستاذ جميل محتاجين مشاريب تانية؟» لم أستطع الانتظار أكثر فرددت «لا شكراً» ثم وجهت كلامي لـ«جميل» بأننا قد أنهينا كل قائمة المشروبات ولم يأتِ صديقك الذي تنتظره وأنني مضطرة أن أتركه بل إن عليه أن يعود هو الآخر للمنزل في الجيزة وزحمة المواصلات و و و. ضحك أستاذي وصديقي الجميل “جميل عطيه إبراهيم”، وقال كانت فرصتك أن تلتقي بمن قلتِ عنه أنه رائع. جاء رده ليثيرني وتوقفت بعض الشيء لمعرفة من يكون وقبل أن يجيب كنت قد خمنت أنه «بهاء طاهر» ذاك الذي قرأت له «الحب في المنفى» وكانت الرواية التي شدتني للبحث عن كل رواياته بل المحاولة للوصول إليه خاصة أننا كنا نعمل لنفس المنظمة التابعة للأمم المتحدة، إلا أن كل محاولاتي بلقائه باءت بكثير من الفشل، في جنيف حيث كان يقيم قبل أن يتقاعد وحيث ناجى البحيرة وبجعها، أو في القاهرة.
- • •
بشيء من الطفولية المتبقية بعد كل عوامل الزمن تشبثت بيدي جميل لأمنعه من الحركة قبل أن يَعدْ بتحديد موعد مع الرائع بهاء طاهر، فكان أن وعد وهو يقهقه كعادته ويسخر من طفولتي المتأخرة!
- • •
مر وقت ربما طويل ليس بعدد الساعات بل بشغف اللقاء الذي لم يحدث، حتى أن التقيت بـ«بهاء طاهر» وبدأ سيل الحديث الذي لم يعرف الفواصل والنقط بل القفز بين المراحل والفقرات وأنا أكثر من الأسئلة وهو ببهائه المعهود يجيب بكثير من اللطف والجمال.. بعدها كان لي مع الأديب الرائع والمبدع بهاء طاهر لقاءات أحيانا في ذاك المقهى بالزمالك على الناصية قريب من شقته وأخرى في مقاهٍ أخرى.
- • •
فيما كان صلب الأحاديث عن الرواية والأدب، الآن كثير من جلساتنا معاً شملت كيف يكون أديب مبدع مثله يعمل مترجماً في منظمة دولية ببيروقراطيتها ولغتها الخشبية؟ كيف يتحمل هو الجلوس لساعات طويلة وهو يترجم ويستمع لكلام إما أنه صيغ في كتب وتقارير أريد لها أن تروج لفكرة ما، أو أنه جزء من حوار بين مندوبي الدول المدافعين عن الأوضاع في بلدانهم وكلامهم فيه كثير من النفاق إن لم يكن الكذب!
- • •
كان يضحك بهدوء شديد وهو يحاول أن يشرح ويفسر كيف يدمج بين العالمين.. عالم شديد الخصوصية والإبداع والجمال وآخر بعيد جداً عن الجمال وعن الواقعية وربما حتى عن الصدق.. ويردد «دي حكاية ودي حكاية تانية».. لم أفهمه والسنون تمر ولقاءاتنا تقل حتى أصبحت نادرة وفي السنوات الأخيرة انقطعت رغم أننا نستنشق أخباره القادمة عبر المقربين منه وخاصة تلاميذه المبدعين.
- • •
تتحول أعماله إلى مسلسلات تلفزيونية، فنعيد الاتصال للتهنئة والقول أنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يقدموا في المسلسل جمال الرواية التي كتبها.. وهو يدافع بل يكرر على العكس «المسلسل كان جميلاً»..
- • •
’’بهاء‘‘ الذى كان يرى الجمال في تفاصيل اللحظة ويعشقها كما هي بل هو الذي في إحدى الجلسات حاول أن يفسر لماذا كان الانتقال إلى العمل الروتيني في الأمم المتحدة مفيداً أيضاً لبنائه الروائي؟ وهو الذي لم يكن يرى إلا الجمال ويبعد ناظريه عن أي شكل من أشكال القبح رغم أنه كان يعرف أنهما يتجاوران أحياناً.
- • •
عندما مرض جميل واختفى من الصورة، أي مشهد اللقاءات مع الأصدقاء وتعثر الوصول له حتى بدافع مؤازرته في محنته المرضية، بحثنا عن ’’بهاء‘‘ وما هو إلا بعض الوقت حتى اختفى هو الآخر من تجمعات الأصدقاء وابتعد صوته الرقيق بتلك النبرة الخاصة.. استسلمنا ربما إيماناً بحق الأصدقاء حتى لو كانوا أدباء وشخصيات عامة، حقهم في الابتعاد والخصوصية توقفنا عن الإلحاح في الزيارة أو سماع الصوت عبر الهاتف.. فمر الوقت كما كل شيء جميل ليأتي الخبر أن ’’بهاء‘‘ قد رحل أيضاً مثله مثل ’’جميل‘‘ دون وداع حقيقي.. وداع لا علاقة له بصيوان العزاء والسير حتى المدافن، بل وداع يليق به.
* كاتبة صحفية من البحرين
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.