الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مراجعة لكتاب ” الثورة في شبه الجزيرة العربية؛ The revolt in Arabia “

الكاتب: دي. سنوك. هرخرونييه؛ D.Snouck . Hurgronje

معقل زهور عدي*

الجزء السادس:

لم تكن مهمة الحكام الأتراك المنتدبين للحجاز سهلة أبداً, فالشريف القوي سيكون دائماً مستعداً لتخفيض سلطتهم إلى أقل حد, أما الشريف الضعيف فهو وإن يكن مطيعاً لهم لكنه سيبقى عاجزاً عن السيطرة على منافسيه الطامعين من الأشراف من عائلته, وبصورة عامة سيبقى في حالة خوف من مكائد المعارضة.

أما التعاون بين الحكام والأشراف لحفظ الأمن والنظام فقد كان حلما بعيد المنال, فالطرق بين مكة والمدينة وجدة والطائف كانت في حالة مزمنة من انقطاع حبل الأمن. ولم يكن من النادر أن يتمتع قطاع الطرق من البدو بدعم الشريف بالسر .

بالنسبة للشريف ’عون‘ الذي شغل منصب الشرافة بين الأعوام 1882-  1905 فقد كان من النوع القوي الفعال, لكنه كان في الوقت ذاته طاغية جشعاً, وتوحي أفعاله بطموح قيصر المجنون.

فمن حاكم عثماني لآخر يخلفه, كان الجميع يجدون أنفسهم منضوين تحت نفوذه وكان عليهم البقاء في ظله, ولم يختلف الأمر سوى عندما جاء الحاكم العثماني أحمد راتب الذي تسلم حكم الديار المقدسة منذ العام 1892 وحتى وفاة ’عون‘ عام 1905 فقد أغمض عينيه عن الأفعال غير القانونية لـ’عون‘ مقابل شراكة في المنافع التي تحصلها الإدارة من المخالفات .

بعد ذلك تم تعيين ’عبد الله‘ شقيق عون كشريف بديل لمكة والحجاز, لكنه توفي قبل بدء رحلته لبلاده.

ثم عين السلطان الشريف ’علي‘ ابن عم عون “كأمير على مكة” وكان ذلك هو اللقب الذي منح لهؤلاء الأمراء من قبل ممثل الدولة العثمانية بعيداً عن الاحترام للحساسية الممكنة لهذا الموضوع.

وعندما حدثت الثورة في تركيا عام 1908 استسلم كل من الشريف علي وأحمد راتب وخضع أحمد راتب للمسائلة المالية قبل النفي, أما الشريف علي فقد خُلع من منصبه وذهب ليستقر في القاهرة.

وحل مكانه في المنصب ابن عمه ’حسين‘, وسرعان ما ظهر أن ’حسين‘ هذا كان يتطلع إلى استعادة سمعة ومكانة شرافة مكة مستفيداً من الظروف السياسية التي استجدت في الدولة العثمانية.

من المعروف جيداً أن الجزيرة العربية قد نالت نصيبها من الصعوبات العديدة التي كان على حكومة تركيا الفتاة مواجهتها منذ بداية صعودها للسلطة. وهكذا وجد النظام الجديد أن من الأفضل إبقاء ’حسين‘ الذي سبق تعيينه وأن يعطى شيئا من الحرية وقد عمل ’حسين‘ على الاستفادة القصوى من تلك الحرية التي أعطيت له.

خلال الحرب التركية- الإيطالية كانت سلطة الاحتلال التركي في حالة فوضى, خاصة في القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية, وقد طلبت الحكومة التركية من ’حسين‘ المساعدة في فك الحصار عن الحامية العثمانية المحاصرة في أبها, في مقاطعة عسير الجبلية, وبالفعل تمكن ’حسين‘ بجيشه المكون من بعض القبائل البدوية والعبيد الأرقاء والمرتزقة والمسلح بأسلحة قديمة من إنجاز المهمة وإنقاذ الحامية المحاصرة في أبها, وبدون شك فقد ساهمت تلك المهمة في تغيير شعور ’حسين‘ بالتبعية للسلطة العثمانية.

نشرت الوكالة الوطنية للأخبار التركية خبراً مناقضاً لما جاء في وكالة رويتر بما يتعلق بالثورة في الجزيرة العربية مفاده أن تمرداً لمجموعات من قطاع الطرق الذين أغرتهم بريطانيا بالمال قد تم سحقه بسرعة، ولاحقا نشرت الوكالة أن الشريف ’حسين‘ قد تم عزله وإسناد منصبه للشريف علي. وهنا يقفز التساؤل: هل تعني الوكالة الوطنية التركية للأخبار أن الشريف حسين هو ذاته قائد ما أسمته بتمرد مجموعات قطاع الطرق؟ وهل سيتمكن الشريف ’علي‘ الذي يعيش حالياً خارج مكة من الوصول  لمكة؟ كما ليس واضحاً من خبر الوكالة الوطنية فيما إذا كان الشريف علي الذي يوالي الدولة التركية والذي سينهي مرة واحدة تمرد قطاع الطرق هو ذاته الشريف علي الذي عزلته سابقاً الحكومة التركية وعينت الشريف ’حسين‘ مكانه في المنصب؟. لكن من المحتمل جداً أنه هو ذاته, وفي هذه الحالة يفترض أن يكون الشريف علي قد غادر القاهرة قبل الحرب واستقر في استانبول.

هنا نشاهد إعادة لذات اللعبة التي عملت عليها الدولة العثمانية من استخدام شريف ضد آخر, تماماً كما فعلت في الماضي, والمحصلة تعتمد على مَنْ مِنَ الشريفين سيتمكن من جمع القوة الأكبر مما سمي بقطاع الطرق, هل هو علي بما لديه من دعم الأتراك وأصدقائه؟ أم ’حسين‘ المدعوم من قبل الأطراف المعارضة, وبالتأكيد بغض النظر عن الرابح والخاسر فهو يوضح أن ثورة ضد الدولة العثمانية التركية تجري ضمن الظروف الحالية.

على افتراض أن المهاجمين من قطاع الطرق الذين أشار إليهم البيان التركي- الألماني وشريف مكة الذي ورد اسمه في وكالة رويتر هم جهة واحدة, بالتالي يكون الشريف ’حسين‘ شريف مكة قد أعلن وقوفه ضد سلطة الدولة العثمانية, وهنا يأتي السؤال: ماذا يعني الشريف ’حسين‘ بمعارضته سلطة الدولة العثمانية؟

هناك العديد من الكتاب المتخصصين بالإسلام الذين تطرقوا لعدم شرعية إسناد منصب الخلافة للسلطان العثماني- التركي وفقاً للشريعة الاسلامية, هذا المنصب الذي اعتبر منذ أكثر من تسعة قرون من قبل العالم الإسلامي محصوراً بالعرب من قريش الذين انحدر منهم النبي (ص), وكل ما قُدم من تبرير وتسويغ لإسناد منصب الخلافة للسلطان العثماني منذ القرن السادس عشر لم يكن أبداً أمراً متفقاً عليه على وجه العموم. أما كونهم ( العرب ) لم يقوموا بثورة عنيفة لمعارضة سلبهم منصب الخلافة فذلك عائد لقوة الامبراطورية العثمانية وقت أن اتخذ السلطان العثماني لقب خليفة المسلمين, وجزئياً للظروف التاريخية التي لم تكن تسمح للعرب حتى لو استعادوا سيادتهم المغتصبة ( يقصد منصب الخلافة ) باستثمار ذلك في إحراز إنجازات هامة.

في حين أن لقب الخليفة لا يضيف أي شبر من الأرض للمساحة التي انتزعها السلطان  بالسيف, كما أن السلطة الروحية لم تُمنح قط من قبل جماعات المسلمين للخليفة ( المقارنة هنا بين الخليفة عند المسلمين والبابا في الكنيسة الكاثوليكية الذي يمتلك سلطة روحية كاملة ) لكن السلطان العثماني باتخاذه أعلى تسمية يمكن أن يحوز عليها حاكم مسلم بعد الرسول (ص) قد أعلن أن أي أمير أو حاكم مسلم لا يمكن أن يسمح له باعتبار نفسه مساوياً في المكانة لذلك السلطان- الخليفة.

لم يتأثر المسلمون الخاضعون لسلطة السلطان العثماني باتخاذه لقب الخليفة تأثراً ذا قيمة, كما أن المسلمين الخاضعين لحكام مسلمين آخرين كانوا أقل تأثراً, وأقل من الجميع كان تأثر المسلمين الخاضعين لحكومات غير إسلامية. ( الإشارة هنا للأقليات المسلمة وأيضاً للدول تحت الاحتلال الأوربي وهي إشارة مطمئنة خاصة للدول الاستعمارية من أن لقب الخلافة لا يقدم ولا يؤخر في الشعوب الإسلامية التي يستعمرونها ).

ملاحظة: ( لم يتعرض الشريف حسين لمنصب الخليفة العثماني في الإعلان الذي شرح فيه أسباب الثورة عام 1916 لكن وفي 4 آذار 1924 وبعد ان أعلن المجلس الوطني التركي قراره بإلغاء الخلافة في مطلع آذار 1924 قامت وفود عربية من مختلف دول بلاد الشام والعراق والحجاز بمبايعة حسين بن علي بالخلافة في عمان, وفي الخامس من شعبان 1342 الموافق 11 آذار 1924 صدر منشور باسم الخليفة أمير المؤمنين حسين بن علي جاء فيه: ” إن إقدام حكومة أنقرة على إلغاء منصب الخلافة الاسلامية هو الذي جعل أولي الرأي والحل والعقد من علماء الدين المبين في الحرمين الشريفين والمسجد الاقصى وما جاورها من البلدان والأمصار يفاجئوننا ويلزموننا ببيعتهم حرصاً على إقامة شعائر الدين وصيانة الشرع المبين” ).

* ما بين قوسين أو ما أشير إليه كملاحظة هو مني وليس من المؤلف.

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل

التعليقات مغلقة.