محمود الزيباوي *
في أول أيلول/سبتمبر 1921، نشرت صحيفة “المعرض” صورة تذكارية لـ”اعلان لبنان الكبير”، وقالت في تعليقها: في مثل هذا اليوم من العام الماضي في الساعة السادسة بعد الظهر، وقف الجنرال غورو أمام اقصر البارك وأعلن باسم فرنسا وأمام ممثلي الدول المتحالفة والصديقة والألوف العديدة من اللبنانيين استقلال لبنان الكبير بحدوده الطبيعية”…
استعادت الصحيفة قول غورو: “فباسم فرنسا وأمام ممثلي الدول وممثلي الشعب اللبناني من كل الطوائف أعلن استقلال لبنان الكبير من قمم حرمون إلى البحر، ومن النهر الكبير إلى أطراف صور بكل عظمته ومجده”، وكتبت في وصف الصورة المنشورة: “ويُرى الجنرال في هذا الرسم جالساً في الصدر والى يمينه غبطة البطريرك الماروني وإلى يساره فضيلة المفتي، وبينهما الأميرال مونرو الواقف، وإلى جانبهم وورائهم كبار اللبنانيين ورجال الدين والقواد والضباط وأركان المفوضية العليا. ووقف إلى جانب المحتفلين نجيب بك أبو صوان، حاكم بيروت يومئذ، يلقي خطابه الرسمي باسم حكومة العاصمة”.
متى تكوّن “لبنان الكبير بحدوده الطبيعية”، وكيف نال استقلاله؟ تختلف القراءات التاريخية في الإجابة هذا السؤال وتتعدد بشكل كبير، رغم مرور مئة عام على هذا الإعلان. في العام 1962، كتب المؤرخ كمال الصليبي مقالة بعنوان “تعريف موجز بلبنان” في مجلة “الأبحاث” الصادرة عن الجامعة الأميركية في العام 1962، واعتُبر هذا البحث مقدمة لكتابه “تاريخ لبنان الحديث” الذي نشر بعد ثلاث سنوات. في هذه المقالة، استعرض الصليبي بشكل موجز “الهجرة” الداخلية للجماعات أو الطوائف اللبنانية في الفترة التي سبقت ولادة “المتصرفية اللبنانية”، ورأى ان اسم “لبنان” لم يُستعمل استعمالاً رسمياً محدد المضمون إلاّ بعد قيام هذه المتصرفية.
قبل أن تولد الجمهورية اللبنانية، نشأت “الإمارة اللبنانية” تحت حكم الأمراء المعنيين والشهابيين، وتألفت بشكل أساس “من المقاطعات المارونية والدرزية التي كانت إقطاعاً للأمراء، والتي شكلت بعد ذلك متصرفية لبنان”. تجاوز حكم هؤلاء الأمراء في كثير من الأحيان حدود هذه المقاطعات، وبلغت المناطق المتاخمة لها. حكم المعنيون صيدا وبيروت، ودخلت طرابلس ضمن أملاكهم مدة من الزمن. كذلك، حكم الشهابيون هذه المناطق أكثر من مرة، وسيطروا على القسم الأوسط من البقاع الذي كان يُعتبر من الوجهة الرسمية جزءاً من ولاية دمشق، كما سيطروا على سهل عكار. كان البقاع الشمالي خارج سلطة المعنيين والشهابيين، غير أن سكان منطقة بعلبك من المسلمين الشيعة كانوا “على علاقة وثيقة بشؤون الإمارة اللبنانية إلى حد لا يمكن أن يفصل تاريخها عن تاريخ جبل لبنان”. هكذا امتد الحكم المعني والشهابي في الفترة العثمانية من جبال لبنان الشرقية إلى البحر، وضم منطقة تماثل في حدودها الجمهورية اللبنانية التي ولدت في مرحلة لاحقة، غير أن هذه المنطقة لم تكن موحّدة “بسبب الانقسامات العميقة بين الفرق والطوائف اللبنانية المختلفة”.
اعتبر الصليبي “ان المؤرخ ليجد صعوبة في التكلم عن شعب لبناني دون تحفّظ”، وخلص إلى القول بأن الطوائف اللبنانية شكلت في هذه الحقبة ما يُشبه الكونفيديرالية، وأن الاتصال العملي بينها اقتصر على التعاون السياسي والعسكري. عاشت هذه الطوائف جنباً إلى جنب خلال الحكم الشهابي، غير أنها لم تتوحّد، “وهكذا فإن الشعب اللبناني لم يكن حين ذاك أمة ذات وحدة في الهدف، وذات تحسس موحد بكيانها، بل برز كحلف يجمع بين طوائف مختلفة، منظّم على شكل عقد اجتماعي. وتاريخ لبنان منذ القرن الثامن عشر ينطوي في المقام الأول على تطور هذا العقد الاجتماعي، وانعكاس هذا التطور على مجرى التنظيم السياسي للبلاد”.
كيف تحوّلت المتصرفية اللبنانية إلى دولة لبنان الكبير، وكيف تمّ هذا التحوّل؟ سعى كمال الصليبي إلى الإجابة على هذا السؤال في بحث مختصر حول تاريخ الموارنة صدر العام 1970 في كتيبّ من سلسلة “ملف النهار” العام 1970، وأعادت دار نلسن نشره منذ سنوات. في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، نَعِم الموارنة بامتيازات كبيرة، وأصبحت لهم، “كطائفة مسيحية، مكانة سياسية فريدة من نوعها في البلاد العثمانية، وذلك بالإضافة إلى امتيازاتهم الكنسية”، مما أقلق خصومهم الدروز. احتد الصراع بين الفريقين، وقُسم جبل لبنان إلى قائمقاميتين، “واحدة مسيحية تضمّ مناطق بشرّي والكورة والبترون وجبيل وكسروان والمتن، والثانية درزية تضم مناطق الجرد والغرب والشوف”. تفاقم الوضع في السنوات التالية وأدى إلى اندلاع حرب 1860 حيث “باغت الدروز المسيحيين المقيمين في مناطقهم، فانقضّوا عليهم بالتعاون مع الحاميات العثمانية وأهلكوا منهم أعدادا كبيرة”.
إثر هذه المجازر، تدخّلت فرنسا، وأدت المحادثات إلى قيام كيان ممتاز للبنان يرأسه “متصرف مسيحي غير لبناني يعيّنه السلطان من بين رعاياه الكاثوليكيين”. هكذا “نشأت الفكرة اللبنانية وترعرعت في كنف عصبية الموارنة، فغدت الكنيسة المارونية القوام الأساسي لهذه الفكرة والمؤسسة المجسّدة لها في غياب دولة لبنانية تقوم بهذه المهمة”، كما يقول كمال الصليبي في الخلاصة. ومع نهاية الدولة العثمانية، حققت فرنسا حلم الموارنة في أول أيلول 1920 حيث تمّ “إعلان دولة لبنان الكبير بالحدود الحاضرة كدولة مستقلة تحت الانتداب الفرنسي”، وتم بعدها إقرار الدستور، “فقامت هذه الجمهورية تجسّد الفكرة التي نادى بها الموارنة منذ عهد المتصرفية”.
في الصورة التي التقطت عند اعلان ولادة لبنان الكبير، يظهر الجنرال غورو وسط البطريرك الياس الحويك ومفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا، ويظهر المتصرّف نجيب بيه أبو صوان وهو يخطب مرحّباً بالجنرال الفرنسي في بداية الاحتفال: “في هذه الساعة المهيبة التي تدخل التاريخ لتدوين حقبة غير قابلة للانمحاء، بيروت زهرة سوريا، عاصمة لبنان الكبير، مستعيدة أنفاسها الحرة، تحيي فيكم راعيها وتحيي بشخصكم فرنسا المجيدة”. لعب البطريرك الياس حويك دوراً رئيسياً في إعلان لبنان الكبير، ولقّب منذ ذلك الحين ببطريرك لبنان، وتحوّل إلى ما يُشبه الرئيس الفخري للدولة الوليدة، كما تشهد صحافة العشرينات.
في مطلع 1929، في الذكرى الثلاثين “لارتقائه السدة البطريركية التي شاهدته منذ اُسعدت به يجاهد في سبيل استقلال لبنان وهناء أبنائه”، احتفلت الكنيسة المارونية والدولة اللبنانية بالبطريرك حويك، وكتبت صحيفة “المعرض” في هذه المناسبة: “هو صاحب الكلمة الأولى في لبنان بما ناله من ثقة اللبنانيين أجمع، إكليلا لجهاده الطويل، وتقديرا لصنائعه التي لا تُحصى في الدفاع عن حقوقهم والعمل على حقوقهم والعمل على استقلالهم ودعوتهم الى التضامن والألفة”. وفي نهاية 1931، رحل “بطريرك لبنان”، وقال مجلس النواب في تأبينه: “هذا الرجل الكريم الذي كان ممثلاً لجميع الطوائف، وقد أجمعت الأمة على تفويضه بكل ما يتعلق بمستقبل لبنان، وقد رأيناه يجازف بحياته، ويستهدف لمخاطر السفر ومشقّاته وأهواله، رغم شيخوخته ورغم ضعف صحته، وذلك ليطلب للبنان استقلالاً تاماً ويضمن له حقوقه بكل معنى الكلمة، وقد كان وقتئذ نائباً عن كل الطوائف التي تظللها سماء لبنان”.
رثا صاحب “المعرض” ميشال زكور “بطريرك لبنان”، وكتب في افتتاحيته: “اننا عندما ودّعناه الوداع الأخير تضاءلت واضمحلت فينا كل النزعات والأميال ولم تبق لنا الا النزعة اللبنانية تنحني وحدها امام هيكل الرجل الذي كان الدعامة الأقوى في كيان لبنان. هكذا يمضي من بيننا البطريرك الكبير، كاهناً قديساً، ووطنياً مخلصاً. وسيبقى اسمه الطاهر مقروناً الى اسم لبنان ما دام في الوجود وطن يُسمّى لبنان. اننا عاجزون عن القيام بالواجب نحو الفقيد العظيم، ولكن نعيد اليوم في فقده تلك الكلمة المأثورة: ان مجد لبنان اعطي، حقاً، له”. استعادت “المعرض” سيرة الراحل، وأشارت إلى الدور الذي لعبه في فرنسا في السنوات التي سبقت اعلان لبنان الكبير: “في 21 أيار سنة 1905، سافر غبطته والحاشية البطريريكة إلى رومية لتهنئة الحبر الأعظم البابا بيوس العاشر، ثم سافر إلى باريس فقابل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء فمنحته الحكومة الفرنسية اوسمة متعددة، وغادر فرنسا الى الاستانة فوصلها في 17 تشرين الأول سنة 1905 فاستقبله السلطان ودعاه لتناول طعام الإفطار على مائدته وانعم عليه في 2 تشرين الثاني بالوسام العثماني المرصع، ثم ترك الاستانة قاصدا بيروت فوصلها في 7 تشرين الثاني، واستأنف اعمله الشاقة في سبيل أبنائه والوطن”.
كذلك، رثا السياسي والأديب يوسف السودا، الراحل الكبير، فتوقف أمام دوره في بناء صرح الديمان، وقال: “نظر الحويك إلى مهد طائفته في شمالي لبنان، فشجاه ان لا يكون لذلك المهد مقامه الرفيع، فبنى الديمان على شرفة الوادي، قبالة الأرز، فأصبح القصر طيلة ذلك العهد كعبة يحج اليها المتبركون على اختلاف المذاهب والمقامات بين وطنيين وأجانب حتى قيل في هذا القصر أعطي مجد لبنان”. وأضاف الكاتب: “وكما بني للطائفة بناءها بنى الحويك للوطن بناءه، فحمل على اكتافه على باريس سنينه الثمانين، متجشّماً مشقات السفر والبرد، مفادياً بحياته، ملحاً في طلباته، صلباً في وطنيته، فما رجع الا وفي يده عهد بنى عليه استقلال هذا الوطن اللبناني في حدوده الطبيعية”. وختم السودا كلمته بالقول: “لا تسمح ان يجلس على كرسي الحويك إلا من له من الحويك طهارته في الدين وتجرده من الهوى واخلاصه في الوطنية فيعود الى الطائفة حكيمها والى البلاد رجاؤها”.
في المقابل، حيا السياسي السوري، فخري بك البارودي، البطريرك الراحل، وقال باسم الكتلة الوطنية: “غادرنا دمشق لننحني امام الراحل الجليل ونعلن مشاركتنا للبنان بالفاجعة الكبرى التي ألمت به فاهتزت لها رباه ودوى نعيها في ارجاء الشام، فاستعاد الناس ذكريات السنين الطوال التي ما برح فيها ذلك الحبر العظيم يبذل جاهداً في سبيل عشيرته كل ما أوتي من علم وقوة وذكاء وعقيدة فأصبح مقامه موطن الحرمة والاجلال، تعمد اليه رجالات البلاد وتعتمد على نصائحه ووصاياه. قلوبنا خاشعة ذاكرين لعميد لبنان ولرجال طائفته الكبرى ما قاموا به من جلائل الأعمال قديماً وحديثاً في سبيل خدمة العربية ورفع منارها”.
نظم كبار الشعراء أبيات في وداع “عميد لبنان”. امتدح بشارة الخوري “وحيد أمته تقى وهداية”. ووضع امين رشيد نخلة قصيدة مطلعها: “يا شيخ لبنان ورافع أرزه”. ووضع أحمد تقي الدين قصيدة مطلعها: “يا شيخ لبنان لا تبكيك طائفة/ بل الطوائف تبكي خطبك العمما”. ووضع الياس أبو شبكة قصيدة ختامها: “نم واحلم الحلم الكبير على ثرى/ بلد حلمت له بالاستقلال”.
* فنان وكاتب لبناني
المصدر: المدن
التعليقات مغلقة.