الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عندما تصير أرحام أمهاتنا أعداءً لإسرائيل

جواد بولس *

سنصحو، بعد أيام، على واقع جديد في إسرائيل؛ حيث سيتبيّن لنا، نحن المواطنين العرب، أن أكثرية المواطنين اليهود ماضية في انجرافها نحو حالة دينية عصبية عمياء، ممزوجة بعقيدة يمينية فاشية لن تقبل وجود «العربي» بين ظهرانيها كما قبلته، مغلوبة على أمرها، مؤسسات الدولة وحكامها خلال العقود المنصرمة؛ فالعنصرية المقسطة وقمع المواطنين العرب المبرمجين وفق ما تجيزه قوانين «ديمقراطية» الدولة اليهودية، لن تعودا مساطر مناسبة للتعايش في إسرائيل المتحوّرة إلى كيان متوحش وخطير.

من المؤسف أن تنتهي الحملات الحزبية الانتخابية كما بدأت؛ معارك طاحنة بين معسكرات «شقيقة» مجيّشة ومشحونة بذخائر مسمومة، ستترك آثارها بيننا بعد انقضاء المعركة، وجنود يرددون الشعارات المستهلكة التي أهملت مواجهة القضايا الحارقة، وتعاملت مع واقعنا البائس بخفة مستفزة وبتضليل يستسخف بعقول الناس. لقد بات من انتقد وقاطع حزب القائد الفرد النجم، يهلل ويهتف لحزب النجم القائد الفرد.

قد يكون المواطن العادي معذورا إذا انساق وراء وعود برق الخطباء الخلّب، أو إذا غرر به سرابهم، فلولاه «لما واصلوا السير في البيد». بسطاء الناس، أو من كنّا يوما نطلق عليهم اسم الكادحين، طيّبون ويصدّقون النبوءات وأهازيج المطر، ويفرحون لأنين الربابة حين يسري في عروقهم المتعبة، ولا يتأففون عندما يصغون لبحة الناي وهي تناغي «قصب» جدودهم الذي غمره غبار الزمن. هؤلا الكادحون، هكذا افترض، لم يسمعوا تصريح رئيس قسم جراحة القلب والصدر في مستشفى سوروكا، في مدينة بئر السبع، أمام جمهرة من الأكاديميين اليهود، وهو يعبر عن دهشته من عدم مواجهة حكومات إسرائيل لأحد أهمّ المخاطر الموجوده في داخلها، وهو المرأة العربية الولّادة؛ فمن جهة، هكذا صرّح «البروفيسور» في ندوة منزلية أقيمت بحضور الوزيرة أييلت شكيد في بلدة «عومر» بالنقب: «نحن نفهم أن التكاثر هو الذي سيهزمنا، أي الرحم العربي. ومن الجهة الأخرى نقوم بتشجيع ذلك من خلال دفعنا لهم عن أولادهم مخصصات التأمين الوطني». وطالب «جنابه» الوزيرة محاربة هذه الظاهرة الخطيرة من خلال فحص إمكانية تدفيع العائلة العربية غرامة مالية عن ولادة الابن الخامس ومن يليه! أعرف أن الكثيرين بيننا سوف يستخفون بهذا الحدث؛ فهو ليس الأول من نوعه، ولا الأخطر من حيث وقعه الآني؛ لكنني أختلف مع هؤلاء ولا أوافقهم. فنحن لا نستطيع سلخ هذا المشهد المقيت المستفز عن مجمل ما يحصل في شوارع الدولة وميادينها، ولا عن مسلسل الاعتداءات الهمجية شبه اليومية التي يقوم بها أوباش اليمين المنفلتون؛ فضلًا عن كون المتحدث في هذه المداخلة أكاديميا موثرا، وطبيبا يرأس وحدة جراحية مهمة تعالج عشرات المرضى العرب ويعمل معه فيها وفي المستشفى عدد كبير من الأطباء والموظفين/ات العرب. لقد استنكرت رابطة الأطباء العرب في النقب تصريحات العنصري ساهار، وطالبت بفصله من العمل؛ ولكن مدير المستشفى اكتفى بإصدار بيان أوضح فيه أن: «تصريح أحد رؤساء الأقسام في المستشفى، الذي قيل في مناسبة خاصة، لا يمثل مستشفى سوروكا ولا عمّاله. لقد اوضحت الإدارة ذلك لمدير القسم وهو اعتذر عن موقفه». لم نقرأ، للأسف، في بيانهم أي اعتذار واضح عمّا قيل، ولا نفياً لنظرية «الأرحام العربية العدوة». لم تر النخب العربية، من مواقعها الأكاديمية والتشغيلية الوثيرة، خطورة تصريح البروفيسور ساهار، ولم تتطرق إلى كيفية معالجته من قبل إدارة المستشفى وسائر مؤسسات الدولة ذات العلاقة. لقد حافظت تلك الشرائح على صمتها الذي أدمنت عليه منذ سنوات طويلة، حيث ساهم صمتهم منذ سنين في تمادي الزخم الفاشي من جهة، وفي تعزيز مشاعر اليأس بين المواطنين، وهروب الأفواج نحو الهوامش؛ فإما التدين والركون إلى مشيئة الله، وإما «التوحد» وتطليق السياسة ومتاعبها، من جهة اخرى.

توقعت أن يوظف قادة الأحزاب هذه الحادثة في استثارة همم الناس، خاصة همم الأكاديميين العرب واليهود على حد سواء؛ ورغم إصدار بعضهم بيانات شجب واحتجاج، رأينا كيف التصق معظمهم بحملاتهم الدعائية المبرمجة والمعدة من قبل مستشاريهم الإعلاميين، وهؤلاء، كما نعلم، يعملون في التجارة لا في السياسة؛ فدعونا نتصور للحظات أن هذا البروفيسور سيصبح وزير الصحة القادم في حكومة يؤمن جميع وزرائها مثله وأخطر! عندها كيف ستأمن نساء العرب مباضع من يعتبر أرحامهن خطرا على مستقبل إسرائيل وشعبها اليهودي؟ أو من سيحمي ملاكات عمل الأطباء والمحاضرين والمهندسين والمعلمين العرب وغيرهم من انتقامهم الأكيد وكيدهم المعلن؟ ومختصر السؤال نكرره، من سيحمينا من هؤلاء وكيف؟ أمواطنة، أرادوا، هم، أن يحرمونا منها، وجعلناها نحن عرجاء ستكفي؟ أو عدل قضائهم الذي سيقف على رأسه قضاة يمارسون الاستيطان فكراً وسكناً؟ أو ربما هي فزعة أشقائنا العرب الذين سيفتحون أمام مفكرينا وأكاديميينا وطلابنا أبواب جامعاتهم ويضعون ميزانيات مراكز دراساتهم العليا تحت تصرف باحثينا وعلمائنا؟ لقد سألت هذه الأسئلة لمن يدعون إلى مقاطعة الانتخابات، ولا أعني الأفراد منهم، ولم أقرأ رداً صريحاً يتعدى بابي التمني والدعاء، أو عتبة الشعارات المقاتلة التقليدية التي تقال من دون أرصدة عملية. فنحن نعيش وسط مجتمع عنصري ومتطرف دينياً، تهرول قياداته الفاشية نحو سدة الحكم، ويتوجب علينا إفشالهم، والمشاركة في الانتخابات هي وسيلة مهمة في سبيل هذا الجهد، وهي أفضل طبعا من الاستخفاف والمقامرات والمزايدات والمغامرات التي مهما مورست بنيات حسنة ستوصلنا حتما إلى جهنم.

سأصوّت كما صوّتُّ دائما، لصالح قائمة «الجبهة الديمقراطية»، وحليفتها اليوم «الحركة العربية للتغيير»، وأدعو الناس للتصويت لهذه القائمة، كونها عنواناً مجرباً وأصيلاً للنضال الكفاحي الواقعي المشترك، العربي اليهودي، وللوقوف في وجه الاحتلال والعنصريين والفاشيين؛ ومن لا يرغب بها فليصوت لمن سيقف في وجه الفاشية والاحتلال، فمواجهتهم، بجبهة نضالية موحّدة، هي مهمتنا الأولى بعد معركة الانتخابات. ويبقى التصويت، في جميع الأحوال، للأحزاب اليمينية الصهيونية محرّماً طبعا.

* كاتب فلسطيني

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.