توفيق شومان *
في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، حلّت الذكرى السنوية الـ 105للثورة البلشفية في روسيا في 1917. منذ عودة قائد هذه الثورة “فلاديمير إلييتش أوليانوف” المعروف بـ لينين إلى روسيا من منفاه السويسري عبر ألمانيا في نيسان/ أبريل من العام المذكور، ما فتئت الجدالات قائمة حول العلاقة الملتبسة بين لينين وألمانيا، تلك العلاقة، على رأي كثيرين، أوصلت البلاشفة إلى السلطة ليقيموا سلطتهم الحمراء ودولتهم المعروفة بالاتحاد السوفياتي.
تقدِم “موسوعة السياسة” التي كان يرأس تحريرها المفكر البعثي عبد الوهاب الكيالي بطاقة تعريفية بلينين على الوجه التالي:
“قائد الثورة السوفياتية النظري والعملي ومؤسس الإتحاد السوفياتي، بعد أن أُفرج عنه عام 1900 ذهب إلى سويسرا ثم إنكلترا وقام أيضاً بزيارات للمنفيين الثوريين في ألمانيا وفرنسا، وعاد إلى روسيا ليشترك في ثورة 1905 لكنه اضطر عقب فشلها للعودة إلى سويسرا والنمسا وفرنسا، وبعد اندلاع ثورة شباط/فبراير 1917 عاد إلى بتروغراد بمعاونة القيادة العليا الألمانية التي كانت ترجو أن تسفر عودته إلى روسيا عن عرقلة المجهود الحربي الروسي، والمفروض انه نُقل إلى روسيا عبر ألمانيا في قطار مغلق”.
وأما “رفيق” لينين في القطار الألماني وأحد أهم قياديي الصف الشيوعي الأول غريغوري زينوفييف (1883 ـ1936) فتعطيه “موسوعة السياسة” تعريفاً هذا مضمونه:
“ثوري شيوعي وقائد حزبي سوفياتي، في عام 1917 عاد مع لينين في قطار خاص عبر سويسرا والمانيا، الأمر الذي أدى إلى اتهامه ولينين بالضلوع مع ألمانيا عدوة روسيا، وفي صيف عام 1936 صدر حكم على زينوفييف بالإعدام لاشتراكه في تأليف جماعة إرهابية محالفة للغستابو الألماني”.
في هذين التعريفين وفي تعريفات أخرى عن قادة بلاشفة آخرين، يطل “القطار الألماني” في كل منها، وتطل معه سجالات وإشكاليات عميقة رافقت عودة القائد البلشفي لينين إلى روسيا عام 1917 برعاية ألمانية اختُلف حول دوافعها وأسبابها، وخلاصة ما يقال في بعضها إنه لولا ألمانيا ما كانت ثورة البلاشفة ولا سقط نظام القياصرة، وواقع الحال أن تلك السجالات أبكرت وبصورة مدعاة للتفكر والتأمل في طرح أسئلتها حول علاقة لينين والبلاشفة بألمانيا عشية ثورة عام 1917 وما بعدها، ومما قيل آنذاك:
مجلة “المقتطف” اللبنانية ـ المصرية نشرت في الأول من أيار/مايو 1917 تحقيقا بعنوان “الثورة الروسية” جاء فيه “ابتدأت ـ الثورة ـ في بتروغراد في العاشر من آذار/مارس، ففي ذلك اليوم، وهو يوم سبت، اجتمع جمهور كبير من العمال شاكين من قلة الخبز الذي يُعطى لهم ومن عدم الإنصاف في توزيعه، فحاول رجال البوليس تفريقهم بالقوة فقتل كثيرون منهم ومن الجمهور المتفرج عليهم، ورأى بعض جنود الحامية ذلك وهم يعلمون أن الشعب جائع والطعام موجود ولكن لا وصول للشعب إليه لأنه محتكر إما لأن الذين احتكروه تجار يريدون الربح بارتفاع أسعاره، أو لأنه محجوز لغرض سياسي حجزه صنائع الألمان من وزراء الروس لكي تعلو شكوى الشعب ويثور على حكومته فتضطر روسيا إلى الاستسلام وطلب الصلح، رأى الجنود ذلك وأمروا أن يطلقوا الرصاص على الشعب فأبوا وشاركوا الثائرين”.
يثير هذا التحقيق المبكر تساؤلات تفترض على الأقل دوراً لألمانيا في تأجيج الثورة الروسية من خلال وزراء روس محسوبين على ألمانيا المنخرطة ضد روسيا في الحرب العالمية الأولى، وبقعة التساؤلات تلك ستتسع الإنارة عليها في مقالة أخرى في “المقتطف” أيضا (1 ـ 8 ـ 1917) فقد “كان في البلاد ـ روسيا ـ يد ألمانية خفية تحاول إثارة الشعب ليخرج على حكومته ويضطرها إلى عقد الصلح، فاحتكرت الطعام ومنعت وصوله إلى الجياع والجنود”، وبعد حوالي سنتين من انتصار الثورة البلشفية نشرت “المقتطف” في الأول من آب/ أغسطس 1919 مقالة معرّبة ورد فيها أن القائد الشيوعي ليون تروتسكي “افتخر أمام صحافي أميركي سنة 1917 بقوله: إني أتيت وفي جيبي عشرة آلاف جنيه، وهو المبلغ الذي كان الألمان ينقدونه إياه كل شهر” وأضافت في المقالة ذي العنوان “أسباب الثورة الروسية”:
“عملُ البلشفية في روسيا كان في مبدئه مناقضاً للثورة لأن زعماء الثورة كانوا معادين لألمانيا وساعين في تأييد بريطانيا، فبعثت ألمانيا بدعاة البلشفية لكي تقاومهم وتقضي على الحرية وتؤيد الإستبداد”.
التساؤلات ذاتها ستثيرها صحيفة “بيت المقدس” الفلسطينية (1 ـ 9 ـ 1920) حين أدرجت في صفحتها الأولى تقريراً غربياً عن ضابط ألماني قال “إن جماعة من الاشتراكيين الأغنياء في ـ مدينة ـ فرانكفورت أنشأوا قبل نشوب الحرب جمعية سرية عدد أعضائها 200 ليحولوا بالثورة دون الحرب، غير أن الحكومة عثرت على مؤامرتهم واستقدمت احدهم إلى برلين وقالت له وجهوا هذه القوى إلى روسيا ونحن نساعدكم” وفي تعليقها على هذه الرواية كتبت “بيت المقدس” قائلة “لا يُستبعد أن تكون هذه الحكاية حقيقية، ومنها يتضح سبب الملاطفة التي عامل بها الألمان لينين عندما عثروا عليه في سويسرا لينقلوه إلى روسيا”.
لم تخرج مجلة “الهلال” المصرية (1 ـ 12 ـ 1921) عن قائمة الأصابع المشيرة إلى ضلوع ألمانيا بالثورة البلشفية، فقدّمت لقرائها مقالة للجنرال الألماني لودندورف مبتدئة بها بالقول “في هذه المقالة الوجيزة جلاء لأسرار عظيمة الشأن، ولا سيما ما تعلق منها بمساعدة ألمانيا للينين وشركائه على دخول روسيا وإنشاء النظام البلشفي فيها” وفي رواية الجنرال لودندورف:
“شبّت ثورة في روسيا في آذار/ مارس تحت رعاية الحلفاء، وعلى الخصوص السفير الإنكليزي ـ جورج ـ بوكانان، فخلع الحلفاء القيصر حين اكتشفوا أنه كان يبتغي صلحاً منفرداً، تلك الثورة أضعفت الجيش الروسي، الألمان رأوا الفرصة سانحة لسحقه بالقوة العنيفة وإرغام روسيا على الصلح، ولكن لم تكن عندنا القوة الكافية، اعتقد المستشار الإمبراطوري أنه بإرسال لينين إلى أسوج يستطيع أن يعجل الثورة الروسية وأن يقوي النزعة السلمية، ولا ندري من ذا الذي نصح المستشار الإمبراطوري أن يساعد لينين، اعتقدنا في الجيش أن الحزب الديمقراطي الاشتراكي أشار بذلك، لم يكن أركان الحرب يعلمون شيئا عن لينين ولا من هو حتى ولا سمعوا به”.
ويكمل الجنرال لودندورف مستعينا بشهادات آخرين “بعد أن عينت روسيا وزارة من الطبقة الوسطى في ربيع سنة 1917 وظهر أن هذه الوزارة لا تميل إلى مصالحة ألمانيا، رحّبنا بنصيحة رجل كان من البلشفيين مؤداها ان نشحن إلى روسيا فئة البلشفيين الذين كانوا يقيمون في سويسرا، وفي ذلك الحين جمع سفيرنا في الدانمرك حوله زمرة من كل صنف من الناس وجعل يوقد نيران الثورة في روسيا، وبناء على هذه الخطة ألحّ في أن يرسل لينين وتروتسكي إلى روسيا لكي يمهدا طريق البلشفية فيها”.
بعض من مفاعيل السجالات التي دارت في فلك العلاقات البلشفية ـ الألمانية في حينه، كانت تغذيها مواقف لكبار القادة البلشفيين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ومن بينهم لينين نفسه، فصحيفة “الكرمل” الفلسطينية (30 ـ11 ـ1920) أفادت عنه قوله “يجب أن نهاجم فرنسا وبريطانيا في مستعمراتها، نهاجم فرنسا في شمالي إفريقيا ونهاجم بريطانيا في الهند ـ وفي ـ بولونيا يمكننا أن نعتمد على ألمانيا التي تكره بولونيا، فرنسا ألد أعدائنا، في إيطاليا في وسعنا أن نقيم ثورة متى شئنا، الألمان أعواننا أكثر من سائر الناس لأن آمالهم بالنجاة من معاهدة الصلح قائمة على إحداث التشويش والإضطراب، الألمان يطلبون الإنتقام ونحن نطلب الثمرة، فمصالحنا متفقة مبدئياً”.
هذا الموقف المنسوب للينين لم يكن غائبا عن مناخات صحيفة “بيت المقدس” فقد كانت نقلت (28 ـ 8 ـ 1920) عن صحيفة “التايمز” البريطانية “أن الإتحاد الروسي ـ الألماني الذي يتخوف منه الفرنسيون ليس بالأمر الوهمي، والمطلوب ليس إنقاذ بولونيا فقط بل عرقلة مشاريع العسكريين من ألمان وبلشفيك” وعلى ما نقلت “بيت المقدس” في العدد نفسه عن صحيفة “مورننغ بوست” الإنكليزية “أن الهجوم البلشفي غايته الآن فارسوفيا وستكون غايته في نهاية الأمر لندرا ـ مدينة لندن ـ وباريس”.
الطريق إلى روسيا عبر ألمانيا، تطرقت إليها نبذة مستفيضة عن “حياة لينين” منشورة في مجلة “العصور” المصرية في الأول من حزيران/يونيو 1930 لكنها حادت عن التفاصيل بقولها “عندما أعلنت الحرب ـ العالمية الأولى ـ كان لينين في النمسا فاعتقلته الحكومة ثم أطلقت سراحه فسافر إلى سويسرا وفي سنة 1917 سافر إلى روسيا عن طريق ألمانيا”.
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية أعادت مجلة “المقتطف” التذكير(1ـ 12 ـ 1939) بالتعاون السوفياتي ـ الألماني فكتبت “لما نشبت الثورة الروسية الأولى في آذار/مارس 1917 أدركت الحكومة الروسية الجديدة المؤقتة ما للولايات البلطيقية من مكانة حربية فوافقت على استقلالها الذاتي ولكنها لم توافق على انفصالها عن الإمبراطورية الروسية، ولما استوثق الألمان من عجزهم عن الاحتفاظ بتلك الولايات، أذنوا للرفيقين لينين وتروتسكي في اجتياز ألمانيا إلى روسيا، ظناً منهم بأن نشوب ثورة شيوعية يُحدث فيها من الاضطراب والاختلال ما يحملها على موآتتهم، فصدق ظنهم، لأن روسيا بعد الثورة الشيوعية قلبت سياستها رأسا على عقب”.
إن حلقة السجالات حول علاقة لينين بألمانيا حافظت على وتيرتها بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، ومن فصولها:
في الذكرى الثمانين للثورة البلشفية جاء في “الهلال” القاهرية (1 ـ 12 ـ 1997) أن حكومة الكسندر كيرينسكي “التي قامت بعد سقوط القيصرية رفضت الإنسحاب من الحرب المهلكة، فكان لا مفر من نشوب ثورة جديدة هي التي قادها لينين في تشرين الأول/أكتوبر، وقد اتُهم لينين بأنه كان عميلا للألمان لأنه كان يدعو الجنود المتحاربين إلى إلقاء السلاح، ولأن ألمانيا قد ساعدته على الوصول إلى روسيا عائدا من منفاه لكي يقود الثورة التي قادها ويجعل روسيا تعقد صلحا منفردا مع ألمانيا ولو بشروط مهينة هي معاهدة بريست ليتوفسك”.
ولن تبتعد عن هذا المضمون صحيفة “القدس العربي” في التاسع من نيسان/ إبريل2017 ذلك أن “انتقال لينين ورفاقه بالقطار الألماني، قبل مئة عام، هو حدث تأسيسي ـ تفجيري بامتيازـ بالنسبة إلى قرن كامل، ومثلما كانت عليه الحال قبل قرن، يوم انقسم الروس بين من اعتبر لينين خائناً للوطن، لأنه رضي العودة إليه بالتعاون مع العدو، في عز الحرب بين المانيا وروسيا، وبتلقيه أرصدة مالية ألمانية حُولت للحزب البلشفي، في مسار سينتهي إلى كارثة قومية بعد عام على عودته وأشهر على ظفره ورفاقه بالسلطة، بتسليم المانيا أوكرانيا وبيلاروسيا ودول البلطيق و98 طناً من الذهب بموجب صلح بريست ليتوفسك، وبين من لا يزال يرى عكس ذلك”.
وفي الثاني عشر من آب/ أغسطس 2017 نشر موقع “روسيا اليوم” نقلا عن وكالة “نوفوستي” الروسية عرضاً لكتاب “هل كانت حتمية تاريخية؟”، جمع فيه السفير البريطاني السابق في روسيا طوني برينتون مجموعة من المقالات لعدد من المؤرخين الغربيين، من نصوصه:
“عاد لينين إلى روسيا بإيعاز من الخارجية الألمانية، حيث أذن بذلك شخصياً المستشار الألماني آنذاك غولفيغ، لقد وفّرت برلين خمسة ملايين قطعة نقدية ذهبية من أجل انتقال لينين وبداية نشاطه في روسيا، وبعد خمسة أيام كان لينين يستقل القطار من زيوريخ إلى ميناء تمتلكه ألمانيا على بحر البلطيق”.
ويندرج ضمن هذا السياق تحقيق مطول في صحيفة “القبس” الكويتية (2 ـ 1 ـ 2018) من مقتطفاته:
“عاد لينين من منفاه في نيسان/ ابريل 1917 بعد أن قام برحلته الشهيرة في قطار ألماني مختوم مع زوجته وبعض رفاقه، كان القنصل الألماني في ـ مدينة ـ بيرن يقدم مساعدات مالية إلى لينين ورفاقه منذ أيلول/سبتمبر 1915، كان لينين متشوقاً إلى العودة وجرى سعي حثيث بإشراف شخصي من الإمبراطور الألماني ويلهيلم الثاني، كما لعب السفير الألماني في الدنمارك ترتيب الأمور، أخيراً تجمعت في قاعة فندق بوسط زوريخ في الساعة الحادية عشرة صباح يوم الإثنين 27 آذار/مارس مجموعة يتقدمها لينين وزوجته، سُلّمت أسماؤهم كمسافرين في طريق العودة، وكان في وداعهم مجموعة من الغاضبين الذين تعالت هتافاتهم بالسب والشتم وعبارات الخونة وجواسيس الألمان وخنازير ولافتة كتب عليها العار لقابضي الذهب الألماني”.
في كتاب صدر عام 1921 بعنوان “مذكرات لينين عن الحروب الأوروبية” ونقله عامذاك المصري أحمد رفعت من الفرنسية إلى العربية، هذه المقدمة:
“لما اشتدت وطأة الحرب وتزعزعت أركان الدولة الروسية المستبدة من ضربات المطرقة الألمانية الهائلة، خاف لينين أن يخضع القيصر نيقولا الثاني للإمبراطور ـ الألماني ـ غليوم الثاني فيُبرم الصلح معه وتفلت الفرصة السانحة من لينين وأشياعه، فأسرع باستخدام هذه الفرصة فخابر ألمانيا واستخدم ذهبها في تنفيذ مأربه، وكانت ألمانيا إذ ذاك تبذل منتهى جهدها لحمل روسيا على الصلح المنفرد، فما كادت تتأكد من قدرة لينين على قلب حكومة القيصر وإيجاد حكومة اشتراكية تكره الحرب، حتى أمدته بالأموال الطائلة فزالت دولة الإستبداد”.
ويشرح القائد الشيوعي البارز ليون تروتسكي في الجزء الأول من كتابه “تاريخ الثورة الروسية” مبررات عودة البلاشفة عبر الممر الألماني فيقول:
“كانت المسألة المطروحة كما يلي: البقاء في سويسرا أو المرور عبر ألمانيا ولم يكن هناك سبيل آخر فهل كان بوسع لينين أن يتردد لحظة أخرى؟ ولقد أكدت هذه الرحلة الغريبة عبر بلد معاد خلال الحرب الملامح الأساسية للينين كرجل سياسي وهي الجرأة في التخطيط والحذر الكامل في التنفيذ، وكانت شروط المرور موضوعة بكل عناية، ولقد أصر لينين على التمتع بحق الحصانة كاملاً، وعدم مراقبة وثائق المسافرين أو أمتعتهم ومنع أي فرد من الدخول إلى عربة القطار خلال الطريق”.
في الختام رأي من الولايات المتحدة؛ فقد كتبت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية في الثالث من نيسان/إبريل 2017 الآتي:
“بعيداً عن كونها مؤامرة أو انقلاب، قد تكون الثورة البلشفية أكثر ثورة في التاريخ تم التخطيط لها بسفور وعلنية”.
* كاتب لبناني
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.