معقل زهور عدي
سيادة التشدد في الفكر الإسلامي:
بدأت مظاهر التشدد في الفكر الإسلامي مترافقة مع الصراعات السياسية الداخلية التي حاول فيها كل فريق سحب الإسلام لصفه ودمغ الفريق الآخر بالكفر, فالخوارج ظهروا من خلال صراع سياسي على الحكم وليس من خلال معارك فكرية بعيدة عن مسائل السلطة, ومن لحظة انشقاقهم السياسي توالدت لديهم الأفكار التي لبست لبوس الدين, فعقيدتهم في تكفير مرتكب الكبيرة والحكم بخلوده في النار منشؤها إرادة تكفير معاوية بن أبي سفيان ووضعه في خانة واحدة مع أعداء الاسلام, وتكفيرهم لعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب منشؤه الاعتراض على مواقفهم في الصراعات السياسية التي نشأت بعد وفاة عمر بن الخطاب, فكما في السابق نرى بوضوح هنا أيضاً قلبَ الموقف السياسي إلى موقف ديني عقائدي.
لكن التشدد يجرْ بعضه بعضاً فما بدأ بتكفير عثمان وعلي ومعاوية انتهى بتكفير كل المسلمين الذين لا يرون تكفيرهم, بل واستحلال دمائهم وأرزاقهم.
صحيح أن الخوارج قد تضاءل حجمهم وتأثيرهم في المجتمع الإسلامي مع الزمن, لكن من الخطأ اعتبار أنهم لم يتركوا بصمتهم في الفكر الإسلامي بعد أن ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس حتى إن الخليفة عمر بن عبد العزيز طلب محاورتهم ليكفي الدولة مؤونة الصراع المسلح وسفك الدماء, وكاد أن يصل لهدفه لولا أن توفي باكراً قبل استكمال الصلح.
عُرف الخوارج بالشجاعة في القتال, والفصاحة والشعر, ومنهم واحد من أشهر شعراء العرب وهو “قطري بن الفجاءة”, وقصيدته مشهورة جداً وفيها يقول مخاطباً نفسه:
أقـولُ لهــا وقـد طارت شعاعــاً … من الأبطـال ويحكِ لن تـراعي
فـإنــكِ لــو ســألت بقـــاء يــومٍ… على الأجل الذي لك لن تُطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً … فمــا نيـــل الخــلـود بمستطـاع
ومــا ثـوبُ البقــاء بثـوب عـزٍ … فيطـوى عن أخي الخنع اليراع
سـبيلُ المـوتِ غــايـةُ كل حيٍ … وداعيـــــه لأهـــل الأرض داع
ورأيهم في الخلافة يستحق وقفة تأمل, فهم بخلاف الشيعة والسنة لا يعتقدون بالإمامة في الحكم ولا بما ذهب إليه السنة من قبول حكم الغلبة, بل بالبيعة والاختيار وهي حقٌ لكل مسلم، ليس حسب جنسه ونسبه، بل حسب جدارته ورضى المسلمين بحكمه لهم. وقد تم طمس آرائهم في الحكم تحت الاستنكار المحق لتشددهم في الدين.
أعود للقول إن تشدد الخوارج لم يمر دون أن يدفع الفكر الإسلامي نحو التشدد وقد ظهر ذلك لاحقاً في نهاية العصر العباسي.
1). مواجهة العقلانية في الفكر الإسلامي:
مع نهاية العصر الأموي ودخول الخلاف السياسي على الحكم إلى الفكر الإسلامي كأحد مكوناته الرئيسية خاصة مع (الثورة العباسية) التي بدأت بسفك الدماء وأعمال ثأر وانتقام بالغة القسوة والعنف, لكن شيئاُ فشيئاً ومع استقرار الحكم والانفتاح على الأفكار الواردة من كتب اليونان وفارس والهند, دخل الفكر الإسلامي في مرحلة جديدة, وبدأت مظاهر العقلانية المرافقة للثقافة والتسامح في الحوار بين شتى التيارات الفكرية, لكن ربيع الفكر الإسلامي لم يمتد لفترة طويلة.
في فجرها الخجول حاولت العقلانية العربية أن تشق طريقها نحو الوجود مع أهل الرأي الذين بدؤوا في استخدام الأدوات المنطقية في حقل الفقه في بداية القرن الثاني للهجرة ( أبو حنيفة النعمان ), وكانت حجتهم في ذلك أن رواية الحديث موضع ظن طالما أن تناقُلها قد جرى شفهياً, وعبر فترة زمنية مديدة, وأن ما هو موضع ظن لا يمكن أن يستند إليه بصورة قاطعة يقينية, بالتالي لا بد من إعمال الأدوات العقلية المنطقية من أجل استنباط الأحكام الفقهية اعتماداً على ما هو يقيني, وهو القرآن الكريم. مع تعديل لم يكن منه بد في الاستناد إلى بعض الأحاديث, وما تناقله الناس في المدينة عن جيل الصحابة من وصف لهيئات العبادات والطقوس ( الشعائر ) الإسلامية التي عُرفت عن الرسول (ص) من صلاة وصيام وحج وما إلى ذلك.
لم يُهمِل تيار أهل الرأي الحديث, لكنه جمع بينه وبين الأدوات العقلية, بالتالي فالحديث مصدر للأحكام إن وافق مدلولات الآيات القرآنية وانسجم مع مقاصدها, وإن لم يتناقض مع حديث آخر, أو يحمل عوامل ضعف في روايته.
ومال أهل الرأي إلى إعمال القياس في الأحكام حين واجهتهم مشكلات زمنهم المتغير, وانفتاح الإسلام على بلدان واسعة وشعوب متعددة وثقافات مختلفة وعلاقات اقتصادية ومالية لم يواجهها الإسلام في مكة والمدينة في عهد الرسول (ص).
عمل أهل الرأي ضمن التيار العريض للإسلام الذي تحول لاحقاً إلى ما سمي بأهل السنة والجماعة, وظل تيارهم معترفاً به باستمرار, فلم تُوجه له سهام الاتهام بالخروج عن الإسلام كما وجهت للمذاهب الأخرى, وإنما كان موضع نقد يخف تارة ويشتد تارة أخرى.
لكن نهاية القرن الثاني للهجرة وبداية القرن الثالث حملت معها تخامداً تدريجياً لذلك التيار.
ولذلك أسبابه التي سنأتي على دراستها بشيء من التفصيل, وشيئاً فشيئاً استسلم تيار أهل الرأي لتيار أهل الحديث الذي واجه بالنقد مسألة إعمال العقل في (النص)، والنص هنا ليس القرآن وإنما الحديث حسب ظاهره, ونظراً لنهوض ” علم الحديث ” نهضة عملاقة على يد البخاري ثم تلميذه مسلم وباقي أئمة الحديث كالترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد بن حنبل, فقد ظهر وكأن ” علم الحديث ” قد أغلق على أهل الرأي حجتهم حين وضع أمامهم آلاف الأحاديث المنتخبة بعناية فائقة والتي تُغني عن التفكير والقياس والاستدلال.
لقد تمكن أئمة الحديث من انتزاع اعتراف واسع بصحة الأحاديث التي جمعوها وقاموا بتدقيقها بجهود ضخمة وفق أدوات منهجية لا يمكن الاستهانة بها رغم أن تلك الأدوات لم تكن كاملة قط, وهكذا قدم ” علم الحديث ” نفسه بديلاً عن رأي أهل الرأي, فحيثما هناك نص “حديث ” فلا مبرر للرأي. وفي الواقع العملي فقد كان ذلك يعني نزع سلاح أهل الرأي, وتحييدهم. وبذلك ماتت أول بذرة للعقلانية العربية نشأت داخل التيار الإسلامي العريض.
ونأتي على البذرة الثانية وهي المعتزلة.
فبعد ترجمة كتب الفلاسفة اليونان للعربية في بداية العصر العباسي, وكثير من الأفكار والفلسفات من فارس والهند وغيرها, واطلاع الناس على ثقافات متنوعة, وأديان مثل الزرادشتية والمانوية, أصبح من الضروري الدفاع عن الإسلام بأسلحة العصر وثقافة العصر, وإلا فالإسلام سيقف عاجزاً أمام تلك التيارات الهادرة الآتية من كل حدب وصوب, مما يهدد في اجتياحه وهدم أسسه وقواعده.
من هنا نهضت جماعة إسلامية استفادت من الفلسفة اليونانية لبناء أسس عقلانية للمفاهيم الإسلامية, ولكونها استخدمت سلاح المنطق والفكر, فقد اتصفت بالنخبوية, وواجهت الفكر الإسلامي التقليدي الذي استطاع تجنيد الشارع ضدها, ولاحقاً تجنيد السلطة السياسية أيضاً, ورغم أن تجربتها كانت أعمق وأوسع من تجربة أهل الرأي, لكنها لم تستطع الاستمرار في الحياة في حين أن المجتمع العربي كان بحاجة ماسة للحماسة الدينية لصد الهجمات الخارجية بعد أن ضعفت الدولة العباسية.
وبينما يترافق التطور في الفكر مع الحضارة والشعور بالسلام, فإن الشعور بالخطر وعسكرة المجتمع تترافق دائماً مع العودة للمسلمات القديمة, والحماس الديني العاطفي. ومحاربة الأفكار الجديدة التي لا تتفق مع معتقدات الجمهور.
صحيح أن المعتزلة لم يتم تكفيرهم بصورة قطعية, لكنهم كثيراً ما نظر إليهم الفكر الإسلامي التقليدي بوصفهم انحرافاً عن جادة الإسلام, واقحاماً للإسلام النقي الأصلي بميدان لا ناقة له فيه ولا جمل, فما حاجة الإسلام للتفلسف؟
ومثل تلك النظرة التي تبدو بريئة ومقنعة, كانت تعني في الواقع حجب الإسلام عن الفلسفة بصورة تامة, بل ووضعه على عداء معها, وذلك كان كافياً لجيش لا حدود له من رجال الدين المحافظين الذين أغلقوا على الإسلام كل النوافذ, مما أسفر عن سيطرة البدع والخرافات والأساطير, وأفسح المجال واسعاً أمام كل الأفكار والممارسات غير العقلانية التي شوهت الإسلام وأغرقت روحه الأصلية.
2). عسكرة المجتمع وحكم الأقليات العسكرية:
بعد انهيار الدولة العباسية مع اجتياح المغول لبغداد عام 1258م دخلت المجتمعات العربية- الاسلامية في طور حضاري وثقافي مختلف عما سبق, فانقسام الدولة العباسية إلى دول: السلاجقة, الأيوبيون, الدولة الفاطمية, الدولة البويهية, والإمارات الأخرى المتناثرة كالدولة الحمدانية, والقرامطة, ثم المماليك حتى العام 1517م حين استطاع العثمانيون ضم بلاد الشام ومصر ومعظم شبه الجزيرة العربية ومن ثم الشمال الافريقي العربي- الإسلامي.
وبصورة خاصة نجد أن تلك الفترة المقدرة بثلاثمئة عام- بين بداية القرن الثالث عشر الميلادي وبداية القرن السادس عشر- شهدت موجات بالغة القوة من الغزوات المغولية والصليبية الأوربية, وما كان لتلك المجتمعات أن تخرج منتصرة على تلك الموجات العاتية بدون عسكرة المجتمع, وتجميد الصراعات الفكرية لصالح حشد الجيوش التي تكونت نواتها من مجموعات مقاتلة غريبة عن النسيج المجتمعي لكنها حملت راية الدفاع عن الاسلام كالسلاجقة الأتراك والأيوبيين الأكراد والمماليك الشراكسة والأتراك, وبقدر ما اهتم أولئك الحكام بتجييش المجتمع بقدر ما حرصوا على توحيد مذهب الدولة ومحاربة المذاهب الأخرى, ربما لمنع الانقسامات الداخلية في وقت يواجه فيه المجتمع خطر الإبادة على يد المغول أو الصليبيين كما حصل في الأندلس.
وفي حين أثمرت جهود تلك الدول في مواجهة الأخطار الخارجية الداهمة, فقد كان الثمن باهظا على صعيد الانحدار الفكري, وتحول الفكر الإسلامي إلى قوالب جامدة أصبحت مع الزمن أفكاراً مقدسة لا يجوز الخروج عنها بقليل أو كثير, فلم يبق للفكر الإسلامي سوى تكرار تلك الأفكار وشرحها ثم الشرح على الشرح في حركة دائرية لولبية.
وفي هذه الفترة انتقلت النظرة نحو الفلسفة من الإهمال والابتعاد عنها إلى العداوة معها، وأصبح أبا حامد الغزالي رمزاً لانتصار الفكر الإسلامي المحافظ على الفلسفة, وبدلاً عن الفلسفة- التي اعتُبرت الطريق نحو الزندقة- انفتح باب التصوف النقيض الكامل للفكر النقدي الفلسفي, وهكذا نشاهد أن أبا حامد الغزالي الذي قيل عنه إنه بلع الفلسفة ولم يستطع تقيؤها أنهى حياته الفكرية بالتحول الكامل نحو التصوف، بما بشر بتحول مجتمع بكامله نحو ترك الفكر النقدي العقلاني بل ومحاربته نحو التسليم الصوفي ليس بحقائق الدين الجوهرية ولكن بكافة الأطر الفكرية الإسلامية لتيار “أهل الحديث” الذي تحول إلى تيار “أهل السنة والجماعة”.
بقدر ما كانت الأبواب مغلقة خلال تلك المرحلة الزمنية الطويلة على الفكر النقدي العقلاني بقدر ما كانت مشرعة أمام التصوف الذي يبعد المجتمع عن السياسة ويخلق عالماً موازياً يطيل النظر والتأمل في معاني الخلاص والعشق الروحي الإلهي. أليس ذلك ما يتمناه أي حاكم يقلقه نشوء المعارضة الداخلية؟
واستطراداً أليست آثار فكر التصوف الإسلامي حاضرة في تركيا حتى الآن بعد أن وجدت الحاضنة المناسبة لمئات السنين؟ وقد عُرف السلاطين العثمانيون بشدة مواجهتهم لأية بوادر للانشقاق الداخلي أو المعارضة السياسية؟
ما يهمنا هو ذلك التناغم بين محاربة العقل النقدي الفلسفي وضرورات تثبيت حكم النخب العسكرية الأجنبية في مجتمعات وجدت في تلك النخب المقاتلة أدواتها التي لا غنى عنها للدفاع عن وجودها المهدد.
ففي حين شكلت النخب العسكرية الحاكمة رأس هرم السلطة فقد كان ذلك الرأس بحاجة لقاعدة مجتمعية تمد الجسور بينه وبين مجمع غريب عنه في اللغة والثقافة وكثير من العادات والتقاليد, وأفضل من يقوم بتلك المهمة هم رجال الدين, لكن الثمرة المُرة لذلك الزواج كانت تثبيت الأفكار المحافظة ودفن البقية الباقية من الفكر العقلاني النقدي.
يتهم الكثيرون فترة الحكم العثماني بأثرها في تخلف الفكر في المجتمعات العربية, لكن الحقيقة هي أن الفكر العربي- الإسلامي كان قد سبق أن تبلور في ملامحه وأطره العامة إلى حدٍ كبير, ولم تكن الفترة العثمانية سوى حاضنة لاستمرار ذلك الفكر دون تغيير وكأنه وُضع بثلاجة كبيرة مدة ثلاثمئة عام أخرى.
المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل
التعليقات مغلقة.