تامر منصور *
إندونيسيا، دولة فارقت دائرة اهتمام المتحدثين بالعربية، وأصبحت أخبارها خارج سلم الأولويات، هذا إن نُقِلَت. ربما يحتاج الخبر القادم من ناحية إندونيسيا أن يكون بحجم ثورة سوكارنو، استقالة سوهارتو، كارثة تسونامي، انفصال تيمور الشرقية أو تفجيرات بالي، لكي يهتم به القارئ العربي.
عند مقاربة أي حدث في دولة إندونيسيا التي نتناساها، نجد فيه من التفاصيل ما هو كاشف، خطير ومتخطٍ لحدودها، وشبيهٌ بأحداث تدور على أرضنا العربية، فلا فهمنا دواخلها أو تفاصيلها، برغم وقوعها أمام أعيننا، ولا رأينا موقعها في الصورة الأكبر لما يحدث لنا جميعاً.
لنقارب الخبر الأخير المؤسف، بتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2022، المتعلق بمقتل حوالي 130 مواطن إندونيسي وإصابة 400، بينهم أطفال ومراهقون. حدث ذلك نتيجة تدافع الجماهير أثناء مباراة لكرة القدم كانت تجري على أرضية استاد كانجوروهان في مالانج ريجنسي بإقليم جاوة الشرقية الإندونيسي.
قام آلاف من مشجعي نادي أريما، الذي خسر مباراته يومها ضد نادي سورابايا، بالنزول إلى أرضية الملعب لمواساة لاعبي فريقهم بعد الهزيمة. فهل يمكن أن تتطور مواجهة قوات الأمن لنزول هذا العدد من المشجعين، إلى مجزرة بهذا الحجم، وألا يستدعي هذا التحفز الأمني المبالغ به وهذا العنف القاتل الذي مارسته قوات تأمين الاستاد، العديد من التساؤلات؟
أظهرت اللقطات المصورة استخدام قوات الشرطة الاندونيسية للغاز المسيل للدموع الأمر الذي تسبب في هرولة وتدافع الجماهير للهروب من الاختناق، متجهين نحو بوابات مخارج الاستاد الجنوبية التي وجدوها مغلقة، أو ربما مفتوحة لكنها ليست بالاتساع الكافي لتسمح بمرور المتدافعين؛ فاختنق من اختنق، ودهس من دهس إما تحت الأقدام أو مقابل الأسوار الحديدية.. ووقعت الفاجعة الكبرى. مما دفع الرئيس الإندونيسي “جوكو ويدودو” إلى إصدار أمر بإيقاف جميع مباريات الدوري الإندونيسي الممتاز، وإجراء تقييم أمني لحالة جميع الاستادات الرياضية بالدولة، وتشكيل لجنة تحقيق في الحادثة لتصدر تقريراً شاملاً بشأن ما حصل خلال مدة أقصاها شهر واحد.
في التداعيات، تم إيقاف مدير أمن النادي عن العمل للأبد، وتسريح رئيس إدارة الشرطة بمالانج و9 ضباط آخرين معه. ويخضع حالياً 18 ضابط شرطة على الأقل للتحقيق.
مشهد متكرر، قوات أمن وجودها ضروري بلا شك، كما هو ضروري تدريبها على كيفية التعامل مع مثل هذه الحالات من التدافع والاقتحام الفوضوي لملاعب كرة القدم، أو أي حدث يستدعي التجمعات الجماهيرية في العموم، بدلاً من مثل هذا التعامل “الغشيم” مع مقتحمين أو حتى مثيري شغب غير مسلحين، يسهل احتواءهم بلا سقوط ضحايا على الإطلاق.
هل هناك ما هو خافٍ علينا؟
فسّر بعض المحللين هذا التحفز الأمني أمام اقتحام الجمهور لأرضية الملعب، بأن سببه ليس عصبية أمنية لتفريق مقتحمي ملعب كرة قدم. بل يقبع وراءه قلق أمني عام، من أي تجمعات للجماهير، خاصة بعد مقتل عنصر أمن داخل منزل المفتش العام فيردي سامبو، رئيس الشئون الداخلية للشرطة الوطنية الإندونيسية، بتاريخ 8 يوليو/تموز 2022، الأمر الذي إستفز معظم الجمهور الأندونيسي.
فقد انتشرت التقارير عن الفاجعة في وسائل إعلام متفرقة تحت عنوان Brigadier J، في إشارة إلى الحرف الأول من اسم المجند القتيل جوشوا هوتابارات Joshua Hutabarat (https://www.wikiwand.com/en/Killing_of_Brigadier_Nofriansyah_Yosua_Hutabarat). وقد وصف حادث مقتل الضابط جوشوا، الذي اتهم فيه سامبو إلى جانب زوجته وثلاثة آخرين، بـ”أسوأ فضيحة في تاريخ الشرطة الإندونيسية”.
ملخص الحادث الذي حاولت الشرطة (https://www.wikiwand.com/en/Indonesian_National_Police) مُداراته بقصة مختلفة، هو أن الضابط جوشوا، الذي عمل لسنوات كأحد أفراد الأمن بمنزل سامبو في العاصمة جاكرتا، والسائق الشخصي للمفتش، تم قتله بأعيرة نارية، إثر تبادل لإطلاق النار مع أحد أفراد الحرس الآخرين لفيردي سامبو، نتيجة لمغازلة جوشوا لزوجة المفتش وتحرشه الجنسي بها. توفي جوشوا متأثرا بجروحه بعد فترة وجيزة من نقله للمستشفى.
وبعد نقل جثمان القتيل هوتابارات إلى منزل عائلته بمدينة جامبي، أصر أفراد العائلة على فتح التابوت لإلقاء نظرة على فقيدهم. ليفاجؤوا بوجود آثار تعذيب على الجثمان، تتضمن كدمات وجروح قطعية بالوجه، وعلامات حرق وجروح متعددة بأنحاء جسده.
على الفور، شكّكت عائلة جوشوا (https://voi.id/en/tulisan-seri/196804/mengungkap-kematian-brigadir-j-penasihat-hukum-paparkan-bukti-baru) في القصة الرسمية للشرطة بخصوص مقتله، وزاد الأمر سوءاً حين تلقوا تهديدات من جهاز الشرطة الوطنية بعدم الحديث عن الأمر، وعدم التقاط الصور والفيديوهات لجثمان القتيل. شكوك عديدة بخصوص نوع المسدس الذي قتل جوشوا بطلقات منه، حيث ظهر أنه من النوع Glok-17، الذي لا يحمله صغار أفراد الأمن. رسائل واتساب تم محوها من جوال القتيل، مع ادعاءات بتلقي جوشوا لتهديدات بالقتل لأسابيع قبل الحادث، بالإضافة إلى محاولات منع تفريغ تسجيلات كاميرات المراقبة في منزل المفتش؛ وصولاً إلى المسارعة بحرق ودفن جثة القتيل، بعد عمليتي تشريح، أظهرت نتائجهما أن الوفاة حدثت فقط نتيجة للإصابة بطلقات نارية، دون وجود أي آثار للتعذيب أو الحرق.
لم يمر أكثر من شهر على مقتل جوشوا في يوليو/تموز 2022، حتى وجهت اتهامات بالقتل العمد ضد أحد مساعدي المفتش يدعى إليعازر لوميو، بعد دحض الادعاء بقصة تحرشه بزوجة المفتش سامبو. وذات التهمة وجهت للمساعد الشخصي لزوجة سامبو، واسمه كوات معروف، الذي تبين أنه كان يدري بمخطط قتل جوشوا مسبقاً، وكان قد هدد جوشوا بالقتل باستخدام السكين قبل الحادث بأيام قليلة. وثبت باعترافه أنه كان حاضراً عندما أمر المفتش سامبو مساعده لوميو بإطلاق النار على جوشوا.
ذات الأمر انطبق على متهم آخر شهد على أمر إطلاق النار، وهو مساعد شخصي آخر لزوجة المفتش العام اسمه ريكي ريزال.
قصة بتفاصيل تليق بسيناريو فيلم إندونيسي ركيك المستوى، تشاهد فيه محاولات استمالة الشرطة الوطنية للوميو، بأن يؤيد قصة سامبو عن الأحداث، لكنه يصر على الاعتراف بالقصة الحقيقية، التي يظهر فيها سامبو وهو يطلق عدة أعيرة نارية على الجدران المحيطة بمسرح الجريمة، لكي يصوّر الأمر على أنه مواجهة تبادل إطلاق نار، بدلاً عن عملية تعذيب وقتل مع سبق الإصرار والترصد.
يحصل لوميو من السلطة القضائية على صفة مساعد للعدالة في إطار برنامج حماية الشهود. الأعجب في الأمر هو محاولة كاندرواتي، زوجة المفتش سامبو نفسها، الحصول على ذات الحماية، ولكن شهادتها رفضت لوجود تضاربات ملحوظة بها.
تم القبض على سامبو وهو قيد التحقيق بتهمة القتل العمد، وتم تسريحه من منصبه الأمني بالطبع. حاول سامبو تقديم الاستقالة، للحفاظ على حالة التسريح الشرفي واستبقاء معاشه التقاعدي، وهو الطلب الذي تم رفضه.
مع نهاية الأسبوع الأخير من شهر أغسطس/ آب 2022، أظهرت التحقيقات تورط 62 من قوات الشرطة الوطنية بدرجات مختلفة في قضية مقتل جوشوا. اتهم ستة منهم بمحاولة تعطيل العدالة بفبركة الأحداث وزرع الأدلة الزائفة ومحو تسجيلات كاميرات المراقبة. مع مشاركة كثيرين آخرين في “فضيحة التغطية على الفضيحة” الأكبر في تاريخ الشرطة الإندونيسية.
كعادته، قام الرئيس جوكو ويدودو- شبيه باراك أوباما الملقب بجوكوي- بالإدلاء بتصريحات تدعو للتعامل بشفافية مع الجريمة الأمنية الفضائحية، داعياً سلطات التحقيق إلى أن تكشف ملف القضية “كما هو، بدون تغطية وبشفافية، فقط”. ففي نهاية الأمر، تخضع قوات الشرطة الوطنية بإندونيسيا لرئيس الجمهورية مباشرة، منذ انفصالها عن القوات المسلحة في عام 2000. وهو الجهاز الذي لطالما التصقت به تهم الفساد، وارتبط أداءه بانعدام الكفاءة والعنف.
نتج عن التحقيقات، ظهور فيديو مسجل يتواصل فيه جوشوا مع عشيقته قبل مقتله، يظهر من كلامه معها بوضوح إنه كان يتحسب لمصيره السيء، ويتمنى لها أن تجد حبيباً آخر، بما إنه لن يجد حلاً سوى محاولة الهرب نتيجة تلقيه تهديدات بالقتل بالفعل.
الأهم في الأمر، أن الحقائق أظهرت أن مقتل جوشوا هوتابارات، لم يكن بسبب تحرشه المدعى على زوجة سامبو، بل إن التخلص منه أصبح ضرورة، ليس فقط لمعرفته بالطريقة السيئة التي عامل بها سامبو زوجته. بل ما هو أخطر ويتخطى التصور، ولا سيما معرفته بجرائم سامبو المتعلقة بدائرة ممارسة القمار عبر الإنترنت، نشاطات تهريب المخدرات، الكحوليات والأسلحة من وإلى إندونيسيا. في تنظيم عرف باسم Consortium 303، صدر تقرير عن حجم نشاطاته الإجرامية، قدرها بمبلغ 155 تريليون روبية إندونيسية. وما خفي كان أعطن.
تفاصيل معقدة، لم أسردها إلا لإظهار مدى قبحها وتخطيها لحدود الدولة الواحدة. وما يختفي خلفها هو بالطبع أكثر مما تظهره. صورة لفواجع مصغرة، إذا توسعنا بزاوية الرؤية، نرى أنها تشكل عقدة واحدة في نسيج الفساد المستشري في جسد أمة، تمثل أكبر دولة إسلامية في العالم. نموذجٌ لا نملك أن نعده غريباً عنا، فهي دولة ذات حضارة تسبق ميلاد السيد المسيح عليه السلام؛ نشأت بها ممالك وسلطنات عدة عبر التاريخ؛ اعتنق أهلها الأديان إسلاماً ومسيحيةً؛ عانت من الاستعمار البرتغالي ثم الهولندي. ثم بزغت بها روح الاستقلال والوطنية؛ مرت بعصف مجتمعي حاول عبره الإندونيسيون صنع تجربتهم الديموقراطية بطرق متعددة، وكانت جزءاً من نواة كتلة عدم الانحياز التي ضمت مصر، الهند، يوغوسلافيا وغانا، بالإضافة بالطبع لإندونيسيا أحمد سوكارنو.
ما هي تلك العوامل التي وصلت بنضال شعب إندونيسيا، إلى أن يقوم 62 متهماً في جهاز أمني، بالتآمر للتغطية على جريمة قتل متهم بارتكابها رئيس قوات الشرطة نفسه؟ وهي مجرد اللقطة الأخيرة في فضيحة واحدة، ضمن سلسلة لا يمكن حصرها من مظاهر الفساد والإفساد. وهي بالطبع ليست حكراً على إندونيسيا.
ترى، ما هو ذلك العامل المشترك، الذي منع هذه الدول بدرجات متفاوتة من الحصول على حياة ديمقراطية حقيقية، تجربة وطنية مستقلة وناجحة. ما هي تلك الأسباب التي تصل بمجتمعات ناضلت بالفعل من أجل الحرية، وبذلت التضحيات من أجل الاستقلال عن استعمار سحب الدماء من عروقها لمئات السنين، إلى الحالة المهترئة اقتصادياً، والتي ينتشر الفساد في جميع أركانها وأجهزتها بما فيها تلك التي من المفترض أن تكون مهمتها حفظ أمن الوطن؟
ما هو ذلك المخدر القوي طويل المفعول، الذي حول روح وشخصية أفراد هذه الشعوب إلى مسوخ، ترضى بما يُرمى لها من فتات، تُستغل كعمالة رخيصة لصالح من كانوا مستعمرين حرفياً سابقاً، إلى مستعمرين عن بعد الآن؟
ما هي الأخطاء التي ارتكبناها، لنصل إلى مثل هذه التفاصيل الجرائمية العطنة، بدلاً من تفاصيل مشروعات تنهض بعقول الشعوب قبل بطونها.
ما هي تلك المقايضة الرخيصة المتنازلة، التي جعلت الملايين من البشر يقبلون تسلط مثل هذه الطبقات الحاكمة بهم؟ وماذا كسب الاندونيسيون من هذه المقايضة، وماذا ربحنا؟
كيف وصل بنا تاريخنا العصامي، إلى هذا المستوى من الجربعة، اقتباساً لمصطلحات الكاتب المصري محمد نعيم، في كتابه الرائع “تاريخ العصامية والجربعة“(https://book-shadow.com/files/fhrst11/847.pdf).
الأسئلة ثقيلة، وإجاباتها ليست سهلة. لكن الأكيد في الأمر أن هذه الإجابات تصل حدودها إلى ما هو أبعد من جاكرتا ومن جاوة، في اقتراض لفكرة عنوان كتاب “أبعد من موسكو ومن واشنطن” (https://ia903103.us.archive.org/29/items/booka014/booka014.pdf) للمؤلف والروائي اللبناني الراحل ميخائيل نعيمة.
ترى إلى أين يذهب بنا ما زرعناه في ماضينا؟
أيما حاضر، وأي مستقبل؟
* مصمم وكاتب مصري
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.