الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

السياسة الدولية منذ القرن العشرين.. ملاحظات ختامية

أحمد عبدربه *

في ٢٥ تموز/ يوليو ٢٠٢١ بدأتُ مقالات السلسلة الثالثة لي في جريدة الشروق عن رصد تطور السياسة الدولية منذ القرن العشرين، وذلك بعد أن أنهيت قبل ذلك سلسلتي «الإسلام السياسي»، و«تاريخ مصر الحديث». منذ تموز/ يوليو من العام الماضي وعلى مدى ١٤ شهراً، نشرتُ أربعين مقالاً فى نحو ٥٠ ألف كلمة عن الكيفية التي تطورت بها السياسات العالمية منذ تشكيل الأحلاف الكبرى مع مطلع القرن الماضي ومروراً بالحربين العالميتين الأولى والثانية ثم الحرب الباردة، وأخيراً تسويات مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحتى أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١.

كما شرحت في مقالتي الأولى في هذه السلسلة، فلم يكن الغرض هو تقديم رصد تاريخي شامل لكل أحداث السياسة الدولية على مدى قرن كامل من الزمان، ولكن كان الهدف بالأساس هو رصد أهم سمات السياسة الدولية في هذه الفترة عن طريق التركيز على أهم الأحداث السياسية المفصلية التي شكلت العالم الذي نعيش فيه الآن.

وعبر هذه المقالات يمكنني أن أشارك القارئ والقارئة الأعزاء والعزيزات رصد خمسة عشر ملمحاً رئيسياً للسياسة الدولية على مدى سنوات القرن العشرين وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين، نتناول بعضاً من هذه الملامح فى هذا المقال ثم نختم بقية الملامح في مقال الأسبوع القادم.

                                                                        *            *             *

يتمثل الملمح الأول في دفع البشر للثمن الأكبر لكل القرارات السياسية التي تم اتخاذها– أو لم يتم اتخاذها- على مدى سنوات القرن العشرين، فما بين ملايين البشر المدنيين المسالمين الذين قضوا نحبهم في الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بينهما، وملايين آخرين قضوا نحبهم في حروب تم خوضها بالوكالة خلال فترة الحرب الباردة، ومئات الآلاف الآخرين الذين فقدوا حياتهم بسبب المجاعات أو الأمراض القاتلة أو خلال الحروب الأهلية أو بسبب سياسات الإفقار المتعمدة أو حتى خلال مكافحة الاستعمار والاحتلال، كانت أرواح البشر هي الثمن الأرخص لقرارات السياسة الدولية ومقامراتها في تلك الفترة!

أما الملمح الثاني فقد تمثل- وما زال- في ضعف التنظيمات الدولية والقانون الدولي! فعلى الرغم من أن التطور الأبرز للسياسة الدولية خلال سنوات القرن العشرين هي ولادة أول التنظيمات الدولية (عصبة الأمم) ثم الأمم المتحدة، وولادة القوانين الدولية التي ادعت الإلزامية لكل دول العالم على السواء، إلا أن واقع التطبيق قد شهد الكثير من القصور في فعالية دور المنظمات الدولية وخاصة في مسألة حفظ الأمن والسلم الدوليين أو بخصوص تطبيق القانون الدولي على الدول والفاعلين الدوليين المخالفين للقواعد والمواثيق الأممية والمعاهدات الدولية! فعدد كبير من هذه المعاهدات والقوانين إما تم تطبيقه بشكل جزئي أو شهد إغفال تطبيقه على الإطلاق أو شهد تطبيقه بشكل انتقائي على باقي دول العالم!

ومن هنا يأتي الملمح الثالث والمرتبط بالملمح الثانى ألا وهو ازدواجية المعايير في العلاقات الدولية! فقد شهد النصف الثانى من القرن العشرين التطبيق الانتقائي للقواعد الدولية، بحيث إن هذه الأخيرة لم تطبق على القوى الكبرى، بل ولم تطبق أيضاً على حلفائها، ولكن اقتصر التطبيق على الدول الضعيفة أو غير المرتبطة بأحد الأحلاف الكبرى! فعلى سبيل المثال، فإن مواضيع كحقوق الإنسان وحقوق امتلاك الدول للأسلحة النووية أو غير التقليدية بشكل عام، أو محاسبة مجرمي الحرب، أو التدخل العسكري بقيت كلها تطبق بحسب ما يعني للساسة المتحكمين في السياسة الدولية، بحيث أصبحت هذه المفاهيم والقضايا مجرد أدوات في أيدِ الدول الكبرى لتطويع الدول الأقل قوة وإدخالها الحظيرة الدولية أو معاقبتها على مروقها وعدم تجاوبها مع قواعدها الخاصة، وهو الملمح المستمر حتى اللحظة!

فيما يتمثل الملمح الرابع للسياسة الدولية في تصاعد دور الفاعلين من غير الدول خلال سنوات القرن العشرين، فبعد أن كانت السياسة الدولية قاصرة على دور الدول القومية، فإن العقود الأخيرة قد شهدت ازدياد الأدوار الدولية لعديد الفاعلين سواء الذين يأتون في مرتبة أعلى من الدولة القومية (كالمنظمات الدولية والإقليمية)، أو الذين يأتون في مستوى أقل مثل المنظمات الحكومية والشركات الدولية! فبالإضافة لتصاعد دور منظمات مثل الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أو منظمات دولية اقتصادية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي أو منظمة التجارة العالمية، فإن منظمات مثل الصليب الدولي وأطباء بلا حدود وبعض المنظمات الحقوقية الأخرى مثل «فريدوم هاوس»، أو حتى بعض الحركات الاجتماعية غير الرسمية أو الأحزاب السياسية (كحزب الخضر) أصبحت تؤثر على مسار العلاقات الدولية وبعضها تجاوز نفوذه وقدراته المادية أو السياسية العديد من الدول القومية بل وبعض المنظمات الدولية أو الإقليمية!

                                                                        *            *             *

أما الملمح الخامس الذى يمكن رصده فهو أن السياسة الدولية لم تعد فقط قاصرة على المفاهيم السياسية أو العسكرية، بل إن مواضيعها أصبحت من التشعب بحيث لا يمكن حصرها بسهولة! فبالإضافة للأمن والسياسة، فإن القضايا الصحية والبيئية وقضايا التنمية البشرية والاقتصادية، فضلاً عن قضايا أخرى مثل التعليم أو الثقافة، وقضايا المرأة والطفل، بل وقضايا أخرى أكثر جدلية مثل الحريات الجنسية أو حقوق المثليين والمثليات أصبحت في صدر اهتمامات الأجندات الدولية للدول سواء في علاقاتها الثنائية أو في أجندتها المطروحة على المنظمات الدولية والإقليمية والمنتديات العالمية والجهات المانحة، وهو أمر أصبح يسبب الكثير من الحساسيات الثقافية والسياسية ليس فقط بين دول العالم، ولكن حتى داخل هذه الدول نفسها!

يتعلق الملمح السادس: الذي رصدته مقالات هذه السلسلة في تأثير القوى الناعمة المتزايد على السياسة الدولية! فالأخيرة قبل القرن العشرين، بل وخلال النصف الأول من القرن العشرين كانت تتأثر بالأساس بالأدوات المادية، حيث كانت الأدوات الاقتصادية والعسكرية هي بالأساس أدوات صنع السياسة الخارجية لمعظم دول العالم خلال تلك الفترة، ولكن ومع نهاية الحرب العالمية الثانية فإن أدوات أخرى مثل الأفكار والأيديولوجيات والفن والثقافة وصناعة السينما وكرة القدم، فضلاً عن الأفكار والمذاهب والأماكن الدينية المقدسة، أصبحت من أهم الأدوات التي تستخدمها الدول كبيرها وصغيرها لزيادة نفوذها الإقليمي والدولي!

ويتعلق الملمح السابع: في تعدد وتطور صور الاستعمار كأحد قضايا وأدوات التأثير والنفوذ! فالاستعمار في صورته التقليدية كان العنوان الأبرز للسياسة الدولية منذ الثورة الصناعية في أوروبا وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية! ورغم انحصار ظاهرة الاستعمار بشكل كبير في السبعين سنة الأخيرة، إلا أن أوجهاً بديلة للاستعمار ما زالت تستخدم حتى اليوم لربط المستعمرات بالقوى الاستعمارية القديمة، ولكن في ثوب جديد! وهنا يرصد باحثو وباحثات العلاقات الدولية أوجهاً متعددة للاستعمار البديل، كالقروض الدولية أو تسييس استخدام الديون المستحقة على الدول، أو التدخلات العسكرية أو السياسية غير المباشرة في شؤون الدول، أو السيطرة الثقافية والاقتصادية والسياسية على النخب السياسية الحاكمة في الدول الأقل قوة!

                                                                        *            *             *

الملمح الثامن تغير بعض المفاهيم المستقرة في العلاقات الدولية: فعلى مدى سنوات القرن العشرين تحولت عدة مفاهيم كانت مستقرة ومتفقاً عليها في العلاقات الدولية، مثل مفهومي «السيادة» و«عدم التدخل». فالمفهومان الأخيران مرتبطان بظهور الدولة القومية والتي كان من المتفق أنها دول ذات سيادة لا تقبل ولا يجوز التدخل في شئونها الداخلية من قبل غيرها من الدول أو غيرهم من الفاعلين السياسيين في العلاقات الدولية.

بيد أن هذه المبادئ تغيرت سريعاً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية سواء بسبب طبيعة التحالفات التي تشكلت في مرحلة الحرب الباردة، وفرض الأمر الواقع تدخل الدول الأكبر في المعسكرين الشرقي والغربي في شؤون الدول الأصغر قوة أو حجماً، أو سواء بسبب فرض الولايات المتحدة لواقع جديد بشكل منفرد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي خول لها الحق في هذا التدخل تحت دعوى الدفاع عن النفس أو محاربة الإرهاب أو نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان، أو بسبب توسع حجم وأعمال المنظمات الدولية والإقليمية والفاعلين من غير الدول كالشركات الكبرى ووسائل الإعلام الدولية!

الملمح التاسع: تمثل في تصاعد دور الإرهاب الدولي. فلعل العنوان الأنسب للعقدين الأخيرين من القرن العشرين، فضلاً عن العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين هو عنوان «الإرهاب الدولي»، حيث فرضت المنظمات الإرهابية نفسها على أجندة العلاقات الدولية، وأصبح الكثير من سلوكيات الدول والمنظمات الدولية والإقليمية مرتبطة بمجابهة هذه الجماعات! ورغم أن تعريفاً مستقراً للإرهاب لم يحدث أبداً إجماع عليه وسط اتهامات متبادلة حول تسييس المفهوم، إلا أن العلاقات الدولية وحتى اللحظة ما زالت تتعلق بمحاربة الإرهاب دولياً وإقليمياً، والمثير للنظر حقاً أنه رغم كل الحروب التي تم خوضها ضد الإرهاب، ورغم كل الأموال والموارد التي تم إنفاقها على هذه الحروب، فما زال الإرهاب يضرب وبقوة فى الكثير من دول العالم!

الملمح العاشر: هو العولمة! فالعلاقات الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي أخذت تتطور وفقاً لقواعد كالعولمة سواء بمعنى الادعاء إلى التوصل إلى مبادئ متفق عليها بين جميع الشعوب والثقافات مثل الديموقراطية، أو حقوق الإنسان، أو النظام الرأسمالي، أو بمعنى فرض هذه القيم بمفاهيمها الغربية باعتبارها مفاهيم ملزمة للدول والأنظمة الحاكمة، أو بمعنى ادعاء زوال الحدود بين الدول بسبب التطورات التكنولوجية ومن ثم حرية أكبر في التنقل بين السلع والخدمات والعمال والتقنيين بين دول العالم! ورغم انتشار المفهوم بشكل كبير بين دارسي وباحثي حقل العلاقات الدولية، ورغم أنه أصبح أحد أهم العناوين المؤسسة للعلاقات بين الدول، فإن هذا المفهوم قد فشل في إقناع الشعوب بحقيقة تواجده، بل ووجدت فيه العديد من الدول فرصة لالتهام مواردها أو التدخل في شؤونها وفقاً لقواعد غير عادلة، فبدأنا نرى أخيراً صعوداً كبيراً لمبدأ الإقليمية كبديل للعولمة، ولعل الاتحاد الأوروبي هو الدليل الأبرز على ذلك!

                                                                        *            *             *

الملمح الحادي عشر: الولايات المتحدة كقوة عظمى في السياسة الدولية! فقد تبدلت مواقع القوة وأصبحت تتزعم العلاقات الدولية بين العديد من الدول! ففي النصف الأول من القرن العشرين كانت السياسة الدولية هي بامتياز سياسة أوروبية، أي إن معظم الأحداث الدولية قد ارتبطت بالعديد من الفاعلين الأوروبيين، حتى لو كان مسرح هذه الأحداث يمتد لما هو أبعد من القارة الأوروبية! فالاستعمار، والحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت بامتياز أحداث بدأت في أوروبا أو من أوروبا وأثرت على العالم بأثره! لكن تحولت دفة العلاقات الدولية بعد الحرب لتصبح بمثابة سجال بين الأوروبيتين الشرقية والغربية ثم تدريجياً أصبحت السياسات الدولية تدار من الولايات المتحدة ووفقاً لأجندتها الرأسمالية سواء أثناء الحرب الباردة، ولكن بشكل أوضح بعد انتهاء الأخيرة والوصول إلى عصر القطب الأوحد.

هيمنة الولايات المتحدة على مرحلة ما بعد الحرب الباردة لا يتوقع أن تستمر كثيراً على الأقل بشكل منفرد، فالصعود الصيني والمحاولات الروسية، فضلاً عن دور الاتحاد الأوروبي في فرض مجموعة من القواعد الجديدة للعلاقات الدولية، هذا بالإضافة إلى تصاعد أدوار بعض الفاعلين الإقليميين كالهند وتركيا والسعودية والبرازيل سيكون مدشناً لعصر جديد من تعدد الأقطاب والأحلاف بحسب الكثير من خبراء السياسة الدولية، لكن هل يكون هذا التعدد سبباً في استقرار العلاقات الدولية أم سببا في تدهورها؟

الملمح الثاني عشر: يتمثل في الثوة التكنولوجية ودورها في تطور العلاقات الدولية! فكما كانت الثورتان الزراعية ومن بعدها الصناعية سبباً في تحول دفة علاقات القوة بين الفاعلين السياسيين الدوليين وما ارتبط به ذلك من تحول في المفاهيم والقواعد المحركة للسياسة الدولية، مثل ظهور الدولة القومية كبديل عن الإمبراطوريات المقدسة، أو ظاهرة التحضر والتمدن وما ارتبط بها من عصر التنظيمات السياسية الحديثة كظهور الأحزاب والنقابات أو ظهور مفاهيم مثل الفردانية، العقلانية، الرشادة، التنوير، العلمانية والليبرالية وغيرها، فإن الثورة التكنولوجية والتي بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية وما زالت مستمرة حتى اللحظة، كانت أيضاً بمثابة محرك جديد للعلاقات الدولية!

فالدول التي امتلكت ناصية الإنتاج التكنولوجي كالولايات المتحدة وكندا والصين وروسيا واليابان وكوريا، فضلاً عن دول أوروبا الغربية، امتلكت الأفضلية الدولية بسبب دور هذه التكنولوجيا في الطفرة الاقتصادية الكبيرة التي دفعت عجلة الإنتاج في هذه الدول من ناحية، وسمحت لها بفائض للتأثير على علاقات غيرها من الدول من ناحية ثانية، وجعلها تطور من أسلحتها وقوتها الناعمة من ناحية ثالثة وهكذا فإن أي دفة تحول محتملة في العلاقات الدولية خلال العقود القليلة القادمة، فستكون حتماً بين الأنظمة السياسية التي تقود هذه الدول!

لكن هنا لا بد أيضاً من ملاحظة مهمة وهي أن هذه الثورة التكنولوجية بقدر ما دعمت سيطرة دول بعينها على العلاقات الدولية، بقدر أيضاً ما سلبت من الدول القومية احتكارها التأثير على هذه العلاقات، فبسبب هذه الثورات التكنولوجية والمعرفية أصبح التأثير على العلاقات الدولية ممتداً للمنظمات من غير الدول، بل ووصل أيضاً للأفراد! فعلى سبيل المثال يمكن ملاحظة كيف أن منصات مثل «فيس بوك» أو «تويتر» أو حتى «إنستغرام» أصبحت تتحكم في الرأي العام العالمي ومن ثم أصبحت تؤثر على قرارات الدول وسياستها! فعصر الإنترنت وما تبعه من ميلاد مارد يدعى «مواقع التواصل» أحدث ثورة معلوماتية جعلت الأفراد (حتى العاديين منهم) قادرين على التأثير على مجرى العلاقات الدولية، ومن ثم لم تعد الدولة وحدها هي المعنية بالقواعد أو القوانين الدولية!

الملمح الثالث عشر: السياسة الدولية بين العلمانية والدين. كان واحداً من أهم ملامح السياسة الدولية في القرن العشرين هو تراجع دور الدين لصالح السياسة العلمانية كمرتكز للتفاعلات بين الدول! فلم تعد هناك إمبراطوريات مقدسة في أوروبا ولا في آسيا، كما أن الإمبراطورية العثمانية بدأت في الانهيار تدريجياً بعد الإطاحة بعبد الحميد الثانى في ١٩٠٨! سيطر السياسيون على عملية صنع القرار وتراجع دور الدين ورجاله سواء في صنع السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية، وازدادت ظاهرة علمنة السياسة الدولية مع ميلاد الأمم المتحدة وزيادة دورها كفاعل دولي فوق مستوى الدول!

خلال سنوات الحرب الباردة، ومع ظهور تكتلات اقتصادية وسياسية وعسكرية إقليمية ودولية كحلف شمال الأطلنطي، وحلف وارسو، والاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (الجات)، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحركة عدم الانحياز… وغيرها، فقد تأكد هذا المبدأ العلماني للسياسات الدولية وخصوصاً بعد اعتماد معظم دول الكتلة الشرقية لمبدأ الدولة الملحدة (غير المعترفة بالدين في المساحة العامة)، ومعظم دول العالم الغربي الرأسمالي لمبدأ العلمانية (فصل الدين عن الدولة)!

إلا أنه ومع قرب انهيار نظام الثنائية القطبية في ثمانينيات القرن العشرين، فقد عاد دور الدين ورجاله ومؤسساته مرة أخرى في العديد من دول العالم، فاستعادت الكنيسة تأثيرها على السياسة الداخلية ومن ثم الخارجية في دول أمريكا اللاتينية مع تهاوي النظم العسكرية للأخيرة، كذلك فقد عادت الكنائس الشرقية للعمل في ملء الفراغ الروحي الذي نتج عن سنوات عدم إعطاء المساحة للدين في الشأن العام! استعاد بابا الفاتيكان الكثير من بريقه مع نهاية السبعينيات وخلال الثمانينيات والسنوات التي تلتها، وكذلك فقد أصبحت الجماعات الدينية الإسلامية أكثر حضوراً في الشؤون الداخلية والإقليمية والدولية وخاصة مع ظهور تيارات الصحوة الإسلامية، ثم دور المجاهدين بالتعاون مع الولايات المتحدة في تحرير أفغانستان من الغزو السوفييتي، بالإضافة إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي!

ومع انهيار الاتحاد السوفييتي رسمياً مطلع التسعينيات، أصبحت الجماعات الدينية وخصوصاً العنيف منها عنواناً رئيسياً للسياسة الدولية، كما أن نظرية صامويل هانتجتون عن «صراع الحضارات» كمستقبل للعلاقات الدولية، وما تبعها من صخب إعلامي ودبلوماسي وأكاديمي أعادت تعريف الهوية بالدين وهو الأمر الذى اشتعل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والانتفاضة الفلسطينية الثانية!

                                                                        *            *             *

الملمح الرابع عشر: الشعبوية والديموقراطية فى السياسة الدولية. يمكن القول إن القرن العشرين هو قرن الديموقراطية بامتياز! فعلى الرغم من أن الديموقراطيات قد ولدت قبل ذلك بعدة عقود، فإنه ومع حلول القرن العشرين، فقد شهد العالم صعوداً كبيراً للديموقراطية، سواء من حيث درجة التمثيل، أو من حيث الحماية التي منحتها ديموقراطية هذا القرن للأقليات! فحصلت المرأة للمرة الأولى على حق التصويت في العديد من دول العالم، كما أصبحت الانتخابات هي المتحكم الأول في صعود القادة السياسيين لمناصبهم في عدد كبير من الدول الأوروبية بالإضافة إلى بعض الدول الآسيوية وكذلك في أمريكا الشمالية! ازداد عدد الديموقراطيات بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح نشر الديموقراطية الليبرالية هي واحدة من أهم أهداف الدول الغربية في السياسة الدولية!

ومع حلول الثمانينيات، فقد بدأت الموجة الثالثة للديموقراطية في إفراز مفاهيم جديدة نسبياً مثل مفهوم السيطرة المدنية على العسكريين، حدث ذلك في إسبانيا والبرتغال وتشيلي والأرجنتين والبرازيل وكوريا الجنوبية ثم في دول شرق أوروبا وبعض دول إفريقيا والعديد من الدول الآسيوية! سيادة الديموقراطية الليبرالية بمبادئها الخاصة بالحقوق والحريات وحماية الأقليات كان يعني أن السياسات الخارجية لعدد كبير من دول العالم أصبح يلعب فيها الرأي العام دوراً كبيراً، كون أن رأي الجماهير في النهاية أصبح المحدد لمن يصل إلى السلطة! ومن ثم، فإن صناع قرارات السياسة الخارجية أصبحوا يعملون ألف حساب للرأي العام قبل اتخاذ أي قرار في السياسة الدولية قد يؤثر على شعبيتهم ومن ثم عدم تجديد انتخابهم ثانية! حدث هذا في وقت تصاعد فيه دور الإعلام الدولي في صناعة الرأي العام الدولي والمحلي بخصوص العديد من القضايا الدولية، فمنابر إعلامية مثل السي إن إن والبي بي سي، والجزيرة وغيرها أصبحت تؤثر على عملية صنع قرارات السياسة الخارجية في العديد من دول العالم!

بيد أنه ومع حلول القرن الحادي والعشرين، وانتشار قضايا مثل الإرهاب الدولي والهجرة غير الشرعية واللجوء السياسي، في ظل انتشار ظواهر أخرى مثل الدول الضعيفة أو الفاشلة فإن موجة جديدة من الشعبوية قد بدأت في الانتشار دولياً مؤثرة على العلاقات بين الدول، وخصوصا بين دول ما عرف باسم العالم الأول ودول العالم الثالث! كما أن نتاج وصول الشعبوية إلى بعض الدول الكبرى كان له تأثير كبير على بعض الالتزامات والترتيبات الدولية والإقليمية، ففي إنجلترا وبسبب هذه الموجة اليمينية الشعبوية، خرجت الأخيرة من الاتحاد الأوروبي، وفي الولايات المتحدة ومع وصول ترامب إلى السلطة أعلن الأخير عدم التزامه بالعديد من الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقيات المناخ واتفاقيات التجارة الحرة، كما أظهر عداء كبيرا تجاه المهاجرين والمهاجرات، وهو أمر مرشح للتزايد حال وصوله إلى السلطة مرة أخرى مع انتخابات ٢٠٢٤!

هذا التصاعد اليميني- الشعبوي قد يكون له العديد من العواقب الأخرى، ولعل أكبر المخاوف من التصاعد الشعبوي هو أن العديد من الدول ستنتهج منهج الأبواب المغلقة مع معاداة حرية التجارة وتقييد الانتقال بين الدول وعدم الالتزام بالاتفاقيات الدولية أو الثنائية وهو أمر قد ينتج سياسات عزلة للعديد من الدول الكبرى قد يعيدنا إلى مشهد دولي مشابه لذلك الذي ساد في مرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية!

                                                                        *            *             *

أما الملمح الخامس عشر والأخير فهو الرأسمالية العالمية والمسؤولية الاجتماعية للدول! فالقرن العشرون شهد تصاعداً للفكرين الشيوعي والاشتراكي من جهة، والفكر الرأسمالي من جهة أخرى! لكن انحياز مؤسسات الاقتصاد الدولية إلى الفكر الرأسمالي ثم وبعد انتصار الولايات المتحدة والحلف الغربي في الحرب الباردة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي فقد أصبحت السياسات الرأسمالية العالمية القائمة على السوق الحر وخصخصة الموارد والأصول، وإلزام الدول النامية بحرية التجارة وبخفض الدعم المقدم للمواطنين وللمواطنات، ومع صعود موجة الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي تعتبر أن تدخل الحكومات في إدارة الاقتصاد هو شر مطلق، فإن العديد من دول العالم تخلت عن مسئولياتها الاجتماعية تجاه مواطنيها ومواطناتها، فتدهورت سياسات المعاشات والتأمينات الاجتماعية في الكثير من الدول النامية، كما تدهورت السياسات الصحية والتعليمية في هذه الدول بل وطال هذا التدهور بعض الدول المتقدمة أيضاً.

لكن وبعد موجة وباء كوفيد الأخيرة، فأصبح هناك صوت مرتفع حول ضرورة إعادة الدول النظر في التزاماتها الاجتماعية والصحية والتعليمية تجاه مواطنيها ومواطناتها، وهو أمرٌ لم يحسم بعد، ولكن قد يؤثر على شكل السياسات الدولية مستقبلاً.

* باحث أكاديمي مصري وأستاذ مساعد للعلاقات الدولية- جامعة دنفر

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.