مجدي الورفلي *
تحوّلت شواطئ تونس في السنوات الأخيرة إلى واحدة من أبرز نقاط شمال إفريقيا لـ”الهرب إلى أوروبا”، وبرغم أنّ البيانات المحلية الرسمية تفيد بأنّ أعداداً كبيرة يتم توقيفها خلال مسعى “عبور الحدود البحرية خلسةً” في مراكب أو زوارق، فإنّ الأقدام الواطئة شمالاً غير قليلة بدورها، بل هي في ارتفاع!
كان من المعروف في السابق أنّ عملية الهجرة غير النظامية عبر البحر، أي “الحَرْقة” بالعامية التونسية، يبدأ التحضير لها على مدار أيام من خلال تجميع “الحَرّاقة”، أي المهاجرين، في مكان واحد قريب من نقطة الانطلاق، وهي أيام قد تطول في انتظار الوقت المناسب، أو كما يقولون: إلى أن يطيب البحر.
تُعرف مدّة الانتظار هذه باسم “التڨوين”، ولا تُسلّم كلفة الرحلة إلا حين يطأ “الحَرّاق” المركب الذي سيعبر به من جنوب المتوسط إلى شماله، فيما تتكفّل في حالات أخرى عائلته أو أحد أصدقائه بتسليم أموال “الحَرْقة” بعد بلوغه السواحل الإيطالية، وتلقّي مكالمة منه.
غير أنّ أساليب هذه العملية شهدت تغيّرات في السنوات الأخيرة، فالأموال صارت تُدفع حتى قبل تسعة أشهر من ركوب البحر، ولا يعلم “الحَرّاق” بموعد سفرته المحفوفة بكافة أنواع المخاطر إلا قبل ساعات، كما لا يُسمح له بجلب الكثير من الأمتعة تجنباً للفت أنظار الأمن. ولا مجال تقريباً للتحايل على معتزمي الهجرة، أي استلام أموالهم دون تمكينهم من المغادرة، فكما يُقال هم “ليس لديهم ما يخسرون”، والمال الذي جمعوه للهجرة وسلّموه إلى منظمها يمثّل “الأمل الوحيد”، وبالتالي هم لن يتوانوا عن “الانتقام والتنكيل بالمتحايل”، وفق أشخاص هاجروا، أو يستعدون للهجرة، تحدثوا إلى ١٨٠ بوست.
وتلفت بيانات تونسية رسمية (https://www.shemsfm.net/amp/ar/الأخبار_أخبار-تونس_الأخبار-الوطنية/355789/حصيلة-نشاط-حرس-الحدود-البر-ي-وإدارة-حرس-السواحل) إلى ضبط عشرين ألفاً و٦١٦ مهاجراً غير نظامي في العام ٢٠٢١، وهو رقم يشمل أفارقة قدِموا من دول جنوب الصحراء سعياً إلى الإبحار انطلاقاً من شواطئ تونس، وعددهم نحو ١٠ آلاف. كما تؤكد تصريحات أخرى (https://www.aa.com.tr/ar/الدول-العربية/تونس-إحباط-1509-محاولات-هجرة-غير-نظامية-منذ-يناير/2669481) إحباط ١٥٠٩ محاولات هجرة غير نظامية نحو إيطاليا خلال أول ثمانية أشهر من العام الجاري، وإلى أنّه جرى كذلك “توقيف ٢٩٩ منظّم عملية اجتياز للحدود البحرية وأكثر من ١٥٠ وسيطاً تونسياً (…) و٧ وسطاء أجانب”.
لكنّ أرقام الواصلين إلى الشمال كبيرة بدورها، ففي إحصائية عن الهجرة غير النظامية للعام ٢٠٢٢ (https://ftdes.net/ar/statistiques-migration-2022/) نشرها “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” (غير حكومي) الشهر الماضي استناداً إلى أرقام وزارة الداخلية الإيطالية، يتبيّن أنّ ١٣,٩٨٠ مهاجراً بلغوا خلال العام الجاري “السواحل الايطالية بطريقة غير نظامية”، في مقابل ١٢,٨٨٣ في ٢٠٢١، و٩,٩١٢ في ٢٠٢٠، و٢,٢١١ في ٢٠١٩، و٤,٥٢٦ في ٢٠١٨.
وتقول منظمة “أكابس” غير الحكومية التي يشمل عملها متابعة الأزمات ومقرّها جنيف، إنّه بين بداية ٢٠٢١ وبداية ٢٠٢٢ (https://www.acaps.org/country/tunisia/crisis/mixed-migration) مثّل التونسيون الذي بلغوا إيطاليا نحو ٢٤٪ من مجمل المهاجرين، وهي أعلى نسبة بين مختلف الجنسيات.
معادلة رابح – رابح:
“هيا! لديك ساعة ونصف لتكون في المكان.. لا تحضِر أدباشاً تدلّ على أنك ستشارك في حَرْقة. ستجد كلّ ما تحتاجه هناك، ولا تخبر أيّاً كان ومهما كانت صفته”؛ هذه فحوى المكالمة التي تلقاها “حرّاق” استقرّ به الطَواف في مرسيليا بعد نحو ثلاثة أشهر في إيطاليا حيث حصل على صفة طالب لجوء عقب قضائه أكثر من شهرين في مركز مخصص في جزيرة سردينيا، وقد تطلب هذا المسار رحلةً بحريةً مدتها نحو ٢٢ ساعة وبكلفة تناهز ٨ آلاف دينار (ما يقارب ٢٥٠٠ دولار).
انطلقت الرحلة من إحدى النقاط الساحلية المتقدمة في ولاية بنزرت حيث نجح منظم العملية في إيصال مركبه والمحرّكات التي قد يبلغ عددها أربعة لأجل سرعة أكبر، دون أن يلاحظه الأمن أو الوشاة، وهو التحدّي الأكبر الذي يواجه المهاجرون غير النظاميين، وبخاصة منظمي العملية الذين يكون في انتظارهم أكثر من عشر سنوات سجناً في حال ثبت دورهم.
ووفق شهادات، يكون مضمون الاتفاق منذ البداية بين منظم العملية والمهاجرين كالآتي: “في حال قبض الأمن علينا فليس هناك منظِّم للعملية، كلّنا ساهمنا في شراء المركب والمحركات للهجرة نحو إيطاليا، وعليه سنمضي في أقصى الحالات ١٥ يوماً في السجن لمحاولتنا اجتياز الحدود خلسةً، وسنخرج وأعيد تنظيم العملية دون أن تدفعوا أيّ ملّيم إضافي”، وهكذا لا يخسر أحد وفق معادلة رابح – رابح برغم أنّ المنظم الذي قد يكون منتمياً إلى شبكة تهريب سيتكلف بشراء مركب ومعدات مجدداً.
ثمّة حالات من شأنها أن تعكس بصورة مجرّدة أكثر البؤس الذي استفحل في تونس منذ انسداد أفق “الجمهورية الثانية” في السنوات الأخيرة، إذ يعمل عدد من أبناء الحيّ نفسه في الغالب على جمع المال بصفة متساوية لشراء المحرّك والمركب أو الزورق، وإيجاد ربّان أو “رايس” كما يُقال في تونس، أو اللجوء إلى بوصلة رقمية تقودهم في حال تعذّر الاتفاق مع “رايس”، ولكن هناك من تاهوا في البحر خصوصاً في هذه الحالة.
إحصائية “المنتدى التونسي” الممتدة من بداية ٢٠٢٢ إلى أيلول/ سبتمبر الماضي، تشير إلى أنّ مجموع الضحايا والمفقودين بلغ خلال هذه الفترة ٥٠٧ ضحايا، في مقابل أكثر من ٤٥٠ طوال العام ٢٠٢١.
ويرى “المنتدى التونسي”، في تقرير آخر نشر في آذار/ مارس الماضي (https://ftdes.net/ar/les-approches-humanitaires-en-plein-naufrage/)، أنّ تعامل الدولة التونسية مع ظاهرة الحَرْقة “يكتفي بالمقاربات الأمنية، والانصياع للضغوط الأوروبية، والاعتماد على منظومة قانونية زجرية”، ولكنّه شدّد، في الوقت نفسه، على أنّ “القبضة الأمنية للتصدي للظاهرة لا تستهدف في الأغلب شبكات التهريب التي تستفيد من الإفلات من العقاب، ومن تواطؤ أطراف متعددة”.
ويُعدّ تهريب المهاجرين “شكلٌ عالميٌ مربحٌ من أشكال الجريمة المنظمة” وفق شبكة الأمم المتحدة المعنية بالهجرة (https://migrationnetwork.un.org/ar/statements/countering-criminals-protecting-migrants)، والتي توضح أنّ التقديرات “تذهب إلى أنّ تجارة تهريب المهاجرين العالمية تولّد ما لا يقل عن ٥,٥ مليارات دولار سنوياً”.
عصا الترحيل.. والتكرار:
بالعودة إلى مبلغ الثمانية آلاف دينار الذي دفعه الشاب المستقر في مرسيليا حالياً، هو “تسعيرة” الهجرة بحراً إلى جزيرة سردينيا التي يتداول المهاجرون أنّ “قوانينها تتيح تسهيلات وحسن معاملة الوافدين” من جنوب المتوسّط. أما “تسعيرة” بلوغ جزيرة بونتالاريا الأقرب إلى تونس فهي أقلّ بكثير، إذ تتراوح بين ٣,٥ آلاف دينار و٥ آلاف، وهو السعر نفسه أو أكثر قليلاً بالنسبة إلى جزيرة سيسيليا. فثمة إمكانية كبيرة في هاتين الجزيرتين للتعرّض إلى معاملة سيئة في مراكز الاحتجاز وإعادة الترحيل إلى تونس، وهو أمر صار متواتراً منذ نحو سنتين ويشمل الذين مرّ على وجودهم سنوات هناك ولكن فقدوا وضعيتهم القانونية.
النائب التونسي عن دائرة إيطاليا في البرلمان المعلّقة أعماله مجدي الكرباعي، يتابع عن كثب عمليات الترحيل، وهو أشار في تصريحات صحافية بداية الشهر الجاري (https://www.mosaiquefm.net/ar/تونس-أخبار-وطنية/1091841/صعود-اليمين-في-إيطاليا-يثير-مخاوف-تونسية-بخصوص-ملف-المهاجرين) إلى “اتفاقية جرى إبرامها في العام 2020 في عهد الرئيس قيس سعيّد “تهدف إلى توسيع قائمة المهاجرين المُرحلين قسراً من إيطاليا”. ولفت الانتباه إلى وجود العديد من التونسيين الذين يتم ترحيلهم إلى مطار طبرقة (غرب تونس) “في ظلّ حصار وتعتيم إعلاميين، وبعيداً عن أي مراقبة”، فيما أعرب في الوقت نفسه عن خشيته من تردّي هذا الواقع مع فوز اليمين المتطرف في انتخابات إيطاليا الأخيرة.
وكان الكرباعي قال في منشور على صفحته في فيسبوك بداية العام (https://www.facebook.com/majdi.karbai/posts/10225968270690895)، إنّ تونس احتلت المركز الأول في عدد المهاجرين غير النظاميين الذين رُحِّلوا من إيطاليا إلى دول شمال إفريقيا في ٢٠٢١، ونقل عن وزارة الداخلية الإيطالية الأرقام الآتية: تونس (١٨٧٢ مُرحلاً)، مصر (٢٣١)، المغرب (١٢)، والجزائر (مُرحلان اثنان).
إلا أنّ الترحيل لا يُغيّر طموحات اليائسين وأحلامهم. يقول مثلاً شاب رُحِّل سابقاً بعدما دفع بدوره مبلغ ٨ آلاف دينار وغامر لساعات طويلة “لا تنقضي” في البحر لبلوغ جزيرة سردينيا انطلاقاً من أحد شواطئ ولاية بنزرت، إنّه كرّر المحاولة وأبحر مجدداً. وهو يستعيد في حديثه إلى ١٨٠ بوست “لحظةً حبس فيها كلّ من في المركب أنفاسهم”.
“كنّا نتقدم في البحر وفجأة شاهدنا ضوءاً قوياً يقترب من ضوء أخفت منه، فأوقف الرايس المحرّكات ولم نترك أي ضوء يشتعل لدينا. بقينا ننتظر إلى أن تبيّن أنّ حرس الحدود التونسي قبضوا على مركب حارِق”. ويتابع: “لبثنا قرابة الساعة نحاول مشاهدة المفاوضات بين حرس الحدود والمهاجرين والتي انتهت بمغادرة المركبين عائدين إلى نقطة الانطلاق.. بعد حوالي نصف ساعة أعدنا تشغيل المحرّكات وواصلنا رحلتنا إلى جزيرة سردينيا”.
كذلك، يروي مهاجر آخر لـ١٨٠ بوست أنّه عبَرَ في آب/ أغسطس ٢٠٢١ إلى سردينيا “في رحلة استمرت لأكثر من ٢٠ ساعة”، ولكنه فوجئ خلال عرضهم على كشف الهوية أنّه “مصنّف S17 في تونس”، في إشارة إلى تصنيف من وزارة الداخلية التونسية بوجوب الاستشارة الحدودية عند المغادرة لوجود شبهة قوية بالإرهاب، وهو ما جعلهم يعيدونه بمفرده إلى تونس.
لم يتراجع الشاب البالغ ٢٢ عاماً، وقد وعده منظّم العملية بإعادته مجاناً في الرحلة الموالية، ما حصل فعلاً قبل نحو أربعة أشهر، ولكنّه “فهم الدرس هذه المرّة” ولم يسلّم نفسه كبقية المهاجرين إلى السلطات في سردينيا لتأكده من أنهم سيعرضونه على كشف الهوية، وسيجدون أنه مصنّف S17، ثم يعيدونه إلى تونس مرة أخرى في إطار ما يُعرف بتبادل المعلومات لمواجهة الإرهاب.
العائلات.. سلّمت أمرها:
يُمكن لأي منطقة ساحلية متقدمة أن تشكّل نقطة انطلاق لمركب يحمل شباباً صوب أمل منشود في الضفة الشمالية، على غرار منطقة الشابّة في ولاية المهدية التي كانت نقطة انطلاق معروفة قبل تفاديها إثر تركيز الأمن عليها، فيما مثّلت السواحل المجاورة بديلاً عنها. وهذا هو الحال بالنسبة إلى ولايات مثل المنستير وصفاقس وبنزرت ونابل، ومدينة جرجيس الساحلية في ولاية مدنين حيث ما زالت حادثة غرق مركب في أواخر أيلول/ سبتمبر 2022 لمهاجرين من أهالي المدينة، تثير موجة من الانتقادات والاحتجاجات في وجه السلطات التي تُتهم عادةً بأنّها “تكتفي بحراسة الحدود البحرية” ولا تولي اهتماماً لمجهودات الإغاثة، وهي متهمة هذه المرة بأنّها دفنت الجثث التي استخرجتها في “مقبرة الغرباء” (مدفن لمجهولي الهوية من المهاجرين)، دون إجراء فحوص الحمض النووي ودون إعلام أهالي المفقودين.
تمثّل جزيرة قرقنة واحدة من أبرز تلك النقاط الساحلية، ما جعل السلطات تلجأ منذ أشهر إلى منع دخولها إلا لسكانها، أو لمن هم من أهلها الوافدين من مناطق أخرى لقضاء مدّة فيها. إنْ كنتَ من خارج تلك الفئة، لن يسمح لك الأمن ركوب “اللودو” (العبّارة) من صفاقس المقابلة وبلوغ الجزيرة “إلا في حال أبحرت في مركب خفيةً، أو دفعتَ مبلغاً يتراوح بين ٥٠٠ دينار و٨٠٠ (ما يقارب ١٥٠ و٢٥٠ دولاراً) كرشوة”، وذلك حسب شهادات عدد من “الحَرّاقة” الذين بلغوا قرقنة وفرّوا من “جهنّم تونس”. أما كلفة الليلة الواحدة هناك، وتحديداً السرير، فقد تبلغ ٥٠ ديناراً (نحو ١٥ دولاراً).
هذه الجغرافية المفتوحة على أماكن الارتحال الكثيرة، غالباً ما يرافقها تشجيع العائلة ودعمها المالي لمشروع الحَرْقة ككل. هي تستدين لتسهيل هجرة ابنها و”تأمين مستقبله”، أو تبيع ما في حوزتها سواء كانت سيارة أو قطعة أرض مثلاً. هذا حال “الخالة رجيبة” التي تسكن حياً شعبياً في إحدى ضواحي العاصمة تونس، وقالت لـ١٨٠ بوست إنّها استدانت “ما يناهز أربعة آلاف يورو” لتمكين ابنها من ركوب البحر.
يسري الأمر نفسه على الذين بدأوا منذ أكثر من عام، وغالبيتهم من الولايات الجنوبية عامةً، يؤثِرون السفر إلى تركيا وصربيا لتجاوز الحدود براً صوب أوروبا، متخذين بذلك الدروب نفسها التي سلكها المهاجرون السوريون قبلهم، في رحلات لا تنظمها سوى شبكات التهريب.
في حالات أشدّ بؤساً تغيب عنها العائلة والمال ببساطة، قد يلجأ الطامع بالفرار إلى العمل في ترويج المخدرات فترةً يجمع خلالها ما يغطي التكاليف، وشيء قد يسند أشهره الأولى في رحلة الهجرِ هذه.
* صحافي وكاتب تونسي
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.