جميل مطر *
منعقد حالياً في بكين المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني وسط اهتمام كبير. لهذا الاهتمام ما يبرره. لم أحضر للأسف أياً من المؤتمرات السابقة رغم أن حضور مؤتمرات الأحزاب كان من هواياتي المفضلة ويعود الفضل في تنميتها إلى الفترات التي قضيتها في مؤتمرات أحزاب من أنواع شتى في إيطاليا وشيلي والأرجنتين لفهم أولويات السياسة الداخلية في الدولة صاحبة الشأن. أتيح لي هذه المرة أن أتابع التحضير لهذا المؤتمر المنعقد حاليا في بكين من خلال تقارير صادرة عن مواقع تعرفتُ عليها مؤخراً ووثقت في صدقيتها. منحتني أيضاً التعويض الممكن، وإن غير كافٍ، عن تفاصيل حرمني منها غيابي عن المؤتمر.
المبررات التي قدمها أو قرأتها لصحفيين ودبلوماسيين أحترم آراءهم في الصين وفي الحزب وفي طبائع النخبة السياسية الصينية كثيرة ومتنوعة، أهمها من وجهة نظر الغالبية العظمى المبرر المتعلق بالسيد شي رئيس الدولة ورئيس الحزب من موقعه كرئيس اللجنة المركزية للحزب علماً بأنه في الصين موقع الشخص في رئاسة الدولة أقل أهمية من موقعه في الحزب، بينما العكس في أمريكا حيث يظل موقع رئيس الدولة هو الأهم على الإطلاق. معروف أنه في هذا المؤتمر العشرين سوف يناقش أعضاء المؤتمر وعددهم حوالى 2300 نائب ترشيح الرئيس شي رئيساً للجنة المركزية، أي رئيس للدولة لمدة ثالثة.
* * *
يبدو الأمر سهلاً للكثيرين خارج الصين. نواب مختارون بعناية من جانب أعضاء مخضرمين في الحزب ومؤهلون بحكم تجاربهم لتولي مسؤولية مناقشة قضايا حيوية وموثوق بولائهم بحكم مواقعهم في مراكز المسؤولية البيروقراطية على مستوى الجمهورية ومستوى الإقليم ومستوى القرية. هؤلاء يمثلون بالفعل القاعدة الشعبية التي يعتمد عليها قادة الحزب وعلى رأسهم الرئيس شي. مع ذلك تبدو الأمور للمتحقق والمدقق في شؤون الصين على نحوٍ آخر، تبدو، أو هي في حقيقة الأمر، ليست سهلة ولا مأمونة تماماً لاعتبارات أهمها، من وجهة نظري، ما يلى:
أولاً: أتحسس شخصياً بوادر ظاهرة ليست جديدة على الذهنية السياسية الصينية ولكنها لم تكن يوماً بذات الدرجة من الحدة، ألا وهي الأهمية المعطاة لما أسميه سباق المكانة. نقل لي بعض من زاروا الصين مؤخراً والتقوا عشرات الباحثين وصناع الرأي حقيقة أن مسألة مكانة الصين في المجتمع الدولي صارت بين أولويات اهتمام المواطن الصيني وجماعات التفكير والتخطيط. هؤلاء، أو أغلبهم توخياً لدقة النقل وأمانته، يؤكدون أن هناك خشية على مكانة الصين في العالم، وبالتالي مكانة الرئيس شي شخصياً، تحت ضغط مصاعب شتى استجدت أو تفاقمت في السنوات الأخيرة، يأتي في صدارتها ما يلي:
(1) مسألة التعقيدات التي خلفتها سياسة عرفت بحملة كوفيد الصفرية. هي السياسة التي فرضها إغلاق المدن لفترات طويلة، ولم تحقق النصر الحاسم على هذا الوباء. يتصور كثير من المواطنين الصينيين أنهم يدفعون ثمناً باهظاً في الحرب ضد فيروس هذا الوباء. يذهب بعيداً أحد المراقبين للسلوك الصيني في قضايا السياسة الخارجية إذ يعتقد أنه ربما تسربت إلى العقل الرسمي أن الصين قد تكون على الطريق الذى انتهت به إمبراطورية النمسا والمجر بعد الحرب العالمية الأولى عندما ضربتها الموجة الثالثة من موجات وباء الأنفلونزا الذى أطاح بملايين البشر.
(2) من نتائج وباء كوفيد وبالتحديد بسبب سياسة الإغلاق أو ما عرف بكوفيد الصفرية تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في الصين. فقد انخفض المعدل إلى ثلاثة ونصف في المائة بعد أن كان خمسة ونصف قبل هجمة الكوفيد. ومع هذا الانخفاض ستتأثر بدون شك مكانة الصين الدولية التي اعتمدت على النسبة العالية لنموها الاقتصادي لاكتساب شعبية ومكانة خاصة لدى شعوب الدول النامية واحتراماً لدى الدول المتقدمة عندما احتلت ترتيب القطب الاقتصادي الثانى في عالم الكبار.
ثانياً: من الصعوبات أيضاً التي واجهها الحكم في الصين في الآونة الأخيرة التحديات التي تعمدت الولايات المتحدة تصعيدها بهدف إنهاك الصين وتعطيل مسيرتها الصاعدة نحو مراتب القمة الدولية. من هذه التحديات زيادة التعقيدات حول موضوع تايوان، هذه المقاطعة الصينية التي بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية والثورة الصينية وتمرد الكومنتانج خضعت لنفوذ الولايات المتحدة. من الصعوبات أيضاً غزو روسيا لأوكرانيا، الغزو الذي أعطى الولايات المتحدة فرصة للتسريع بتنفيذ خطة تصعيد التوتر في العالم لتهيئة الفرصة لعرقلة صعود روسيا والصين. واقع الأمر هو في أن أمريكا استطاعت تعظيم فرص فرض العقوبات كسلاح شديد الفعالية ضد الدول المختلفة سياسياً مع أمريكا خاصة ودول الغرب عامة.
ثالثاً: تنبهت الصين مؤخراً إلى أنها أخطأت حين اعتمدت في تنفيذ انطلاقتها الكبرى نحو تعظيم قوتها الاقتصادية ورفع معدل النمو على الاستثمارات إلى حد أنها أهملت جانب الاستهلاك. كنا شهوداً في الآونة الأخيرة على فشل هذا النموذج بسبب تكلفته الباهظة وبخاصة في قطاع اللامساواة الاجتماعي. كنا شهوداً أيضاً على التهديد الخطير الذي تسبب فيه الاعتماد شبه المطلق على الاستثمارات عندما تضخم قطاع العقارات، المولد الأكبر لمعدلات نمو اقتصادي مفتعلة باعتبارها نوع من الإنتاج غير المثمر في حسابات السياسة والوقت القصير.
رابعاً: أكد الخبراء المراقبون للنمو الاقتصادي للصين ومكانتها الخارجية على أن تراجع شعبية الصين في الخارج، وإن تبدو الآن بسيطة في جوهرها، تعود إلى فرضية نظرية اعتمدتها الصين وهي الاعتقاد بأن الدعاية المكثفة كفيلة وحدها لصنع قوة رخوة للصين. نعرف أن للقوة الرخوة مخصصات إن لم تتوفر فلا قيام لقوة رخوة، هذه المخصصات غير متوفرة في الصين. فضلاً عن بيئة مناسبة وتوقيت مناسب. وبالتالي يمكن القول إنه في دولة ما قامت فيها ونجحت قوة رخوة في فترة بعينها لن تنجح بالضرورة في إعادة بعث هذه القوة في مرحلة أخرى. يكفي لمنع تحديثها أو مجرد تكرارها أن البيئة الدولية التي نشأت ونضجت فيها في مرة سابقة تغيرت، أو أن أمزجة الرأي العام الدولي اختلفت أو لمجرد أن الوقت غير مناسب لها. لا أظن أن الصين تستطيع المحافظة على شعبيتها في دول معينة كالدول النامية أو تصنع مكانة لها في دول غربية بعينها إذا لم تغير من فلسفتها عن الحقوق والحريات ودرجة الانفتاح.
* * *
خامساً: يحسب لصالح استحقاق الرئيس شي لولاية ثالثة أن الحزب الشيوعي الصيني كاد يفتقر إلى (الخالدين). الخالدون في عرف وفلسفة الأحزاب السلطوية عموماً هم المخضرمون في أجهزة قيادة الحزب وفروعه في المقاطعات. هؤلاء يملكون عادة مفاتيح قرار التجديد للرئيس أو رفض ترشيحه بداية. من حسن حظ الرئيس شي تضاؤل عدد هؤلاء في مواقع القيادة التي سوف تتولى تنفيذ عملية التجديد. على كل حال فإن مجرد ترشيحه الذي يتم عادة من خلال فروع الحزب في الريف والأقاليم وبين الأقليات يدل على أن له شعبية واسعة داخل الحزب. إلا أنه يجب أن نضع في الاعتبار أن قرارات التغيير والإصلاح في الحزب تصدر في النهاية من الخالدين معتمدين على القاعدة الشعبية، وبطبيعة الحال يوجد بين الخالدين خصوم للرئيس مختلفون معه في السياسة والإدارة. هؤلاء اختفى أغلبهم بالوفاة أو بالإبعاد عن مواقعهم القيادية في الحزب خلال الإعداد لانعقاد هذا المؤتمر.
سادساً: تغيرت مكانة القوى الداخلية المؤثرة في مسيرة الحزب الشيوعي الصيني. ففي وقتٍ من الأوقات كانت القوى صانعة القرار في الحزب هي الجيش والبيروقراطية. اليوم هي الصناعيون ورجال الأعمال من ناحية والبيروقراطية من ناحية أخرى وفئة الأكاديميين أو المثقفين عموماً من ناحية ثالثة. هنا في عهد الزعيم ماو كان يتعين على قيادة الحزب أن تجري بين الحين والآخر ثورة تتحارب فيها القوى الثلاث وتقوم خلالها القيادة بالتخلص من الأفراد الفاسدين والمتطرفين ومن خصومها. وقد قام الرئيس ماو بتأليف نظريته عن ضرورة الثورة الدائمة في الحفاظ على مسيرة النظام وأغلب الظن أن الخالدين، ومنهم الرئيس شي وقليلين، عاصروا مرحلة الرئيس ماو وبخاصة مرحلة الثورة الثقافية، ويعرفون كيف يمارسونها بدون إشعالها. المهم الإدراك الجيد من جانب القائد أو الرئيس لمعايير التمييز بين الخصم والحليف.
سابعاً: يشعر النواب أعضاء المؤتمر أنهم في حضرة رئيس يستعد لإعلان استحقاقه مكانة الزعيم وليس فقط رئيس الحزب أو حتى رئيس الدولة. أعتقد في الوقت نفسه أن الرئيس شي أعد من الأفكار والمبادرات ما ينوي طرحه على المؤتمر يبرر فيه ويشرح أحقيته بمكانة كمكانة الرئيس ماو في تاريخ الصين الحديث. لديه تجربة الحزام والطريق ولديه تجربة الحيطة الذكية في السياسة الخارجية ولديه فوق هذا وذاك وثيقة تحمل عنوان «فكر الزعيم شي» تيمناً بالكتاب الأحمر المتضمن فكر الزعيم ماو.
وما يزال المؤتمر في بدايته.
* كاتب ومحلل سياسي مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.