سمير العيطة *
لم تبلغ السياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني منذ زمنٍ طويل الحدة التي تشهدها اليوم. يدعمها انفلاتٌ علني غير مسبوق للاستفزازات العنصرية التي يُبديها المستوطنون في القدس، كما حيال القرى الفلسطينية البسيطة. ولا يلقى هذا التصعيد اهتماماً كبيراً لا عربيّاً ولا دوليّاً، هذا في حين يظهر صارخاً افتضاح سياسات الدول التي تعترِف بضمّ إسرائيل للقدس وللأراضي الفلسطينية والسوريّة المحتلةّ وبالوقت نفسه تُدين بشدّة ضمّ روسيا لأراضٍ في أوكرانيا.
قد يشير هذا التصعيد إلى أمرٍ ما يتحرّك في مجال أزمات المنطقة، أي بلاد الشام والرافدين، وربّما ليس نحو الأفضل لشعوبها. وربّما هذا ما دفع أخيراً الفصائل الفلسطينيّة للتوافق في الجزائر.
وفي لبنان، واضحٌ أنّ أمراء السلطة القائمة قد توافقوا، رغم صراعاتهم ومناكفاتهم الداخليّة، على تحميل الشعب اللبناني آثار الأزمة المالية الكبرى التي أُخِذَت البلاد إليها ودون أي «إصلاح»، حتّى لو كان ثمن ذلك التخلّي عن دعم صندوق النقد الدولي ماليّاً أو على الأقلّ معنويّاً. ووصولاً إلى تتويج أمراء الحرب توافقهم باتفاقيّة ترسيم بحريّة مع إسرائيل برعاية أمريكيّة- وفرنسيّة- تخلِق سراباً بتدفّقات ماليّة وبالتالي عودة بعض الودائع يوماً إلى أصحابها. هذا التوافق الأخير لافتٌ وغير مسبوق. ليس فقط لأنّه يُكرّس وضعاً غريباً يضع حتّى حقل قانا المحتمل ضمن شراكة لبنانيّة- إسرائيليّة غير واضحة المعالم، وحيث تقوم الولايات المتحدة (وفرنسا عبر شركة توتال وعلى الأغلب قطر أيضاً) برسم مسار ذلك. «تطبيعٌ» ضمني تفرضه السلطة على الشعب اللبناني، دون نقاشٍ حتّى في البرلمان الذي أعاد مؤخّرا شرعنة تلك السلطة (كما يفرض ذلك الدستور اللبناني).
لقد صَمَتَ القائمون اللبنانيوّن على «السيادة» و«المقاومة» على السواء وعلى أقصى طرفي التناقضات السياسيّة، تحت حجّة أنّ هذا هو «المُمكِن» في زمن «اللا مُمكِن» والحرب الكونيّة في أوكرانيا. ممّا يدعو للتساؤل عن طبيعة «الصفقة الكبيرة» التي جرت، سواءً فيما يخصّ تكريس هيمنة أمراء الحرب وإعاقة أيّة قيامة للدولة بإنقاذ المجتمع ممّا أُخِذَ إليه، أو فيما يتعلّق باللعبة الإقليميّة- الدوليّة التي يتبع كلّ منهم- أي أمراء الحرب- لأحد أطرافها المتعدّدة.
ومن اللافت أيضاً في هذا السياق أن يترافق الإعلان عن «الصفقة» بإعلانٍ مماثل حول إعادة «النازحين» السوريين إلى بلادهم (هكذا هو التعبير الرسمي بدل اللاجئين، وكأنّ لبنان ما زال جزءاً من سورية!، فقط كي لا تعترف السلطات اللبنانية بحقوق اللاجئين). فيما يتناسى الجميع مشروع نقل الغاز والكهرباء المصريين إلى لبنان عبر الأردن وسورية لتأمين الحدّ الأدنى من الكهرباء في البلد على المدى القصير، والذى تمّ توقيعه بين الدول بموافقة أمريكيّة ضمنيّة. لكن بالوقت نفسه، تعمل مجموعات ضغط- لوبيّات- في واشنطن على نسفه من الأساس عبر زجّ مواد جديدة في «قانون قيصر». وهذه «صفقة» بخصوص كهرباء مستقبليّة بعيدة الأفق، ربمّا لن تأتي أبدا، مقابل كهرباء فوريّة توثّق الروابط بين لبنان ومصر، وتفيد الأردن وتُعينْ سورية، التي تفتقد الكهرباء، قليلاً من أجل استقبال نازحيها ولاجئيها إذا كان هذا هو الهدف.
* * *
بالتزامن مع ذلك كلّه، تنفجر حافلةٌ في دمشق تنقل مجنّدين وتذهب بكثيرٍ من الضحايا. وكأنّ أحداً يُرسلُ رسالةً أنّ جزء من سورية الذي ما زال يخضع لـ«الدولة السوريّة» «غير آمن» كي يستقبِل اللاجئين من الخارج. وفي الشمال الغربي، يتفجّر القتال بين الفصائل المدعومة جميعها من تركيا، لينتهي الأمر «باحتلال» «هيئة تحرير الشام» لعفرين. ويبدو بذلك الأمر أبعد من الصراع على المعابر والغنائم، كما في كلّ قضايا أمراء الحرب، إذ هناك أيضاً من يُرسِل رسائل. رسالة إلى «حزب الاتحاد الديموقراطي» ومن ورائه «حزب العمّال الكردستاني»، المدعومين بالجيش الأمريكي، حول عفرين أكثر مناطق التواجد الكردي العزيزة عليهما. ورسالة إلى السلطة في دمشق حول القدرة على ضبط الميليشيات المتفلّتة في الشمال الغربي عبر «هيئة تحرير الشام».
واللافت أيضا هنا أنّ الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تمضي قُدُماً في توثيق علاقاتها مع الطرفين النقيضين في الصراع السورى، مع «حزب الاتحاد الديموقراطي» و«قوّات سوريا الديموقراطيّة» من ناحية، والتي تتواصل زيارات الوفود الرسميّة من هذه الدول إلى المناطق التي تسيطر عليها، ومع «هيئة تحرير الشام» و«حكومة الإنقاذ» التابعة لها من ناحية أخرى، عبر «المنظّمات المدنيّة» المموّلة من هذه الدول بهدف إغاثة النازحين السوريين. إغاثة مستمرّة منذ عشر سنوات دون التمحيص فيمن يستفيد منها حقّاً والتباكي الإعلامي» بالوقت نفسه على أحوال هؤلاء النازحين البائسة كلّ شتاء.
إلى أي سورية يريدون إعادة اللاجئين؟ سورية الشمال الغربي، حيث نصف السكّان نازحون يرزحون في الخيام؟ أم سوريا الشمال الشرقي الذي غدا مجرّد مصدرٍ لنفطٍ يتمّ تهريبه دون مقوّمات فعليّة؟ أم سوريا «النظام» حيث يعيش أغلب الشعب السوري تحت خطّ الفقر وفي مواجهة مخاطر عودة أوبئة تعود إلى زمنٍ بعيد؟ هذا في حين «يسيد ويبيد» أمراء الحرب دون رادع على الأجزاء الثلاثة.
ويبدو أنّ «الصفقة» والرسائل المتبادلة قد شملت العراق، حيث التأم البرلمان أخيراً وانتخب رئيساً للجمهوريّة ورئيس وزراء رغم الاحتجاجات الشعبيّة العارمة ضدّ أمراء حرب العراقيين الذين استنفذوا هم أيضاً موارده النفطيّة الضخمة منذ الاحتلال الأمريكي دون أن يحصل مواطنوه على نعمة الكهرباء المستدامة بالتوازي مع عدم قدرة العراق على تكرير هذا النفط… حتّى لإرسال شحنة «فيول» مباشرةً لمساعدة لبنان. هنا أيضاً تغييبٌ مقصودٌ للدولة على تأمين الحدّ الأدنى لشعبها في حين تستبيح إيران وتركيا أراضيها وأجواءها رغم تواجد القوّات الأمريكيّة وقواعدها.
* * *
بالمقابل، اشتعلت إيران بالتظاهرات من أجل «النسوة والحياة والحريّة». لا شكّ أنّ أسباب التظاهرات ذات طبيعة اجتماعيّة داخليّة ومن أجل حريّة المرأة. لكن من الذي يظنّ أمام مشهد ما يحدث من فلسطين إلى لبنان إلى سورية والعراق أنّ القوى المسمّاة «عُظمى» تنتصِر حقاً، عبر كلّ التجييش الإعلامي، لقضايا النساء والحياة والحريّات؟! أم تبحث هنا أيضاً عن صفقة لترسيخ أمراء حرب وإلغاء مقوّمات دولة… بغية فرض الهيمنة؟!
في المحصلة، ما زال زخم مقاومة الشعب الفلسطيني كبيراً. لا خيار آخر أمامهم غير ذلك. كلّ «الصفقات» تتمّ على حسابهم وقد استنفذَت مفاعيلها. أمّا اللبنانيوّن والسوريّون والعراقيّون فما زالوا يخضَعون لـ«صفقة» تلو الأخرى على حسابهم وكذلك لكثيرٍ من الأوهام، بأنّ هذا الطرف الخارجي أو ذاك يتطلّع إلى منحهم الحريّات والرخاء في حين يزرع الجميع الفُرقة بينهم بغية تمكين أمراء حربهم عليهِم… وبانتظار استفاقة الشعوب… يوماً ما.
* كاتب وباحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.