منى فرح *
في 30 أيلول/ سبتمبر، وبعد سلسلة استفتاءات، أعلنت روسيا ضم أربع مناطق أوكرانية. جاء الضم وسط تلويح بالخيار النووي وتعبئة “جزئية” سُرعان ما تحولت إلى حالة ذعر وقلق في الشارع الروسي. مع هذه التطورات، تصبح أوكرانيا “بمثابة حبة دواء سامة، وفلاديمير بوتين في سعيه لابتلاعها يحكم على نفسه بالهزيمة”، بحسب “تاتيانا ستانوفايا”(**) في تقرير نشرته “فورين أفيرز”.
يوضح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وبشكل صريح للغاية، أنه سيفعل كل ما يلزم من أجل تحقيق فوز في هذه الحرب، حتى لو اقتضى الأمر المخاطرة بتقويض نظامه. وبسبب إيمانه الأعمى باستقامته، قد يلجأ بوتين إلى استخدام الأسلحة النووية إذا بقيت الأحداث في أوكرانيا تعيق طموحاته (https://www.foreignaffairs.com/articles/ukraine/2022-07-18/what-if-war-in-ukraine-spins-out-control). السؤال الرئيسي هنا هو: هل النُخب الروسية والمجتمع الأوسع على استعداد لمرافقة رئيسهم في رحلته إلى الجحيم؟ هل؛ في مضاعفة رهانه الكارثي في أوكرانيا يكون بوتين قد مهَّد الطريق فقط لنهايته؟
إنذار كبير غير نهائي:
لقد أدَّى الهجوم المضاد الذي شنته القوات الأوكرانية في نهاية شهر آب/ أغسطس، إلى تغيير حسابات بوتين تماماً بخصوص الطريقة التي على روسيا أن تحارب (https://www.foreignaffairs.com/russian-federation/putin-roulette-sacrificing-supporters-race-against-defeat) بها في أوكرانيا. خطته السابقة، القائمة على أن كييف لن تجرؤ على مهاجمة المواقع الروسية، افترضت أن الكرملين سيكون لديه متسع من الوقت لتثبيت نفسه في الأراضي التي يحتلها، وأن الحكومة الأوكرانية ستكون منهكة أمنياً واقتصادياً بحيث سيتعين عليها الاستسلام عاجلاً أم آجلاً.
الجزء الاستراتيجي من خطة بوتين لم يتغير: كييف ستسقط، لأن الهدف الأسمى من هذه الحرب لا يزال وضع حد لما يراه مشروعاً جيوسياسياً “مناهضاً لروسيا” يديره الغرب وضمان وجود روسي طويل الأمد على الأراضي الأوكرانية. ومع ذلك، فقد تم تعديل التكتيكات التي سيستخدمها بوتين لتحقيق هذا الهدف. حسابات الكرملين الخاطئة عرَّضت المواقع الروسية في أوكرانيا لضربات عسكرية، ما اضطر بوتين إلى إنذار العالم: إما أن تفوز (https://www.foreignaffairs.com/articles/ukraine/2022-02-18/what-if-russia-wins) روسيا بأوكرانيا أو التصعيد النووي.
يتألف هذا الإنذار من ثلاثة بنود رئيسية:
البند الأول؛ هو إعلان مساحات من أوكرانيا على أنها أراضٍ روسية. إن ضم أربع مناطق (لوغانسك، دونيتسك، خيرسون، وزابوريجيا) يعني أن روسيا (https://www.foreignaffairs.com/regions/russian-federation) قد حوَّلت حربها من تدمير أوكرانيا كدولة مستقلة إلى حرب للدفاع عن النفس ضد القوات العسكرية الأجنبية. الضم هو شكل من أشكال الاحتجاج ضد التدخل الغربي في الصراع الأوكراني، ويضع المساعدات العسكرية التي يقدمها الغرب لأوكرانيا في إطار شن عدوان على روسيا. من خلال ضم هذه الأراضي، يُرسل بوتين رسالة صريحة: الاستمرار في مساعدة كييف سيقود الغرب حتماً إلى صراع مباشر مع روسيا، وهو أمرٌ يعتقد أن العواصم الغربية ترغب في تجنبه. تعكس هذه الخطوة أيضاً تحولاً مهماً آخر في فهم الكرملين للوضع الحالي. قبل هجوم كييف المضاد، لم تكن موسكو تعتقد أن المساعدات الغربية يمكن أن تغيّر ميزان القوى بشكل جذري وتخلق ظروفاً تُهدد فيها أوكرانيا روسيا عسكرياً. لكن هذا الذي حصل الآن.
ابتزاز نووي:
البند الثاني؛ من الإنذار هو الخيار النووي (https://www.foreignaffairs.com/articles/russian-federation/2022-07-04/thinking-about-unthinkable-ukraine). فبعد تهدئة خطابه خلال الصيف، عاد بوتين إلى التذرع بهذا التهديد كوسيلة نهائية للتأثير على السياسة الغربية تجاه أوكرانيا. في نيسان/ أبريل، عندما تراجعت القوات الروسية عن شن هجمات فاشلة ضد كييف وتشرنييف، تحول الكرملين إلى الإبتزاز النووي. فقد اقترح بوتين أن حكومته على استعداد للسماح باستخدام الأسلحة النووية “إذا لزم الأمر”، وألقى باللوم على الغرب بسبب الإخفاقات الروسية. لكن بحلول شهر أيار/مايو، تلاشت تلك اللغة. وخلص بوتين إلى أنه حتى بمساعدة الغرب، فإن أوكرانيا محكوم عليها بالخسارة في نهاية المطاف.
مع المعاناة (https://www.foreignaffairs.com/ukraine/russia-repeat-failures) التي يكابدها الجيش الروسي، عادت الدعوات إلى استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا. لقد ملأ معلقون ومسؤولون شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي بقرقعة السيوف النووية. وأصبح الجزء المؤيد للكرملين من “تيلغرام” (تطبيق روسي لتبادل المعلومات) يعجُّ بمئات المنشورات التي تُبرر حق موسكو المشروع في استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في أوكرانيا، وكيف أن بوتين جادٌ في مسألة اللجوء إلى النووي في حالة حدوث المزيد من التصعيد. إن كثرة المنشورات التي تُصر على أن “نعم، يمكنه” و”يجب عليه”، و”سيفعل” ليست فقط جزءاً من حملة متعمدة لتخويف الغرب، ولكنها أيضاً دليل على الإصرار المتزايد على أنه يجب ربح الحرب مهما حدث.
وسواء أكان بوتين مُخادعاً أم لا، فإن التهديد باستخدام الأسلحة النووية يرفع سقف التوقعات بين النُخب حول المدى الذي يستعد بوتين للذهاب إليه، كما أنه يُقلّل وبشكل كبير من مساحة المناورة في صفقة سياسية مستقبلية افتراضية بشأن أوكرانيا. ولإزالة الورقة النووية من على الطاولة، سيحتاج بوتين إلى تحقيق تقدم عسكري كاسح لقواته مقترناً بإشارات من واشنطن بأن الغرب سيُقلّص دوره في الصراع. وإذا لم تتم تلبية هذه المطالب؛ ومن الآمن القول إنها لن تتحقق؛ ستلجأ روسيا إلى الخيار النووي: هذا هو الواقع الجديد (https://www.foreignaffairs.com/russian-federation/world-putin-wants-fiona-hill-angela-stent) الذي يسعى بوتين إلى تشكيله، ما يعني أنه يأخذ العالم رهينة.
حرب شاملة:
البعد الثالث؛ يتمثل بقرار ضم المناطق الأوكرانية الأربع والتلويح باستخدام النووي وجعل الروس العاديين جزءاً من الحرب بعد قرار التعبئة الجزئية. (…). الآن (https://www.foreignaffairs.com/russian-federation/what-mobilization-means-russia)، غيّرت التعبئة حياة الملايين بشكل لا رجعة فيه. ففي أحدث استطلاع رأي أجراه مركز “ليفادا”، قال 47% من الروس المستجوبين إن التعبئة الجزئية جعلتهم يشعرون “بالقلق والخوف والرعب”، وشعر 23% “بالصدمة”، و13% شعروا “بالغضب والاستياء”، و23 فقط قالوا إنهم يشعرون “بالفخر بروسيا”. وحتى لو لم تؤد التعبئة إلى احتجاجات جماهيرية، فقد قوَّضت ثقة الجمهور في الدولة ووسائل الإعلام الحكومية.
بعيداً عن مسألة كيف أثّرت التعبئة على الشؤون الداخلية، يكشف هذا القرار السياسي الكثير عن أولويات بوتين. للمرة الأولى خلال الـ22 عاماً من حكمه يتخذ الرئيس الروسي قراراً لا يحظى بشعبية، ولم يهتم للكيفية التي يتم فيها التجنيد الجماعي وإذكاء الغضب والاستياء والتوترات الاجتماعية وتهديد الاستقرار السياسي المحلي. ويضع هذا القرار موضع شك أي اندماج أو تماسك اجتماعي إضافي بين السلطات والروس العاديين بشأن الحرب.
حتى وقت قريب، وافقت غالبية الروس على الصفقة التي قدمها الكرملين: سيقاتل بوتين من أجل “العدالة التاريخية” ضد “النازيين” الأوكرانيين، وسيتصدى “المحترفون” والمتطوعون لكل التهديدات الإستراتيجية التي يفرضها تورط الغرب في أوكرانيا على روسيا. وجد بوتين دعماً اجتماعياً كبيراً، ولكن بشرط واحد مهم: أن الروس العاديين لن يشاركوا في القتال. لقد مزَّقت “التعبئة الجزئية” هذا العقد. لقد أظهر بوتين أنه إذا تعلق الأمر بالاختيار بين تحقيق أهدافه في الحرب واسترضاء المجتمع الروسي، فسيختار التضحية بالدعم الشعبي في الداخل لتحقيق النصر الجيوسياسي في أوكرانيا. إنه دحضٌ صريحٌ لأولئك الذين راهنوا على أن خوف بوتين من خسارة دعم الروس سوف يمنعه من اتخاذ قرارات محفوفة بالمخاطر. في الحقيقة، إنه مدفوع بهدف واحد: تحويل مقامرته في أوكرانيا إلى نصر، مهما كان الثمن.
حبة الدواء السامة:
لقد فرض الإنذار بالنووي وأمر التعبئة ضغوطاً كبيرة على المجتمع الروسي والنُخب الروسية التي يتعين عليها الآن أن تقرر أي سيناريو خاسر أقل مأساوية: مرافقة الزعيم الغاضب حتى نهاية العالم، أو الهروب من بوتين وانتقام الغرب، أو انتظار خسارة روسيا. بوتين بات في موقف ضعيف بشكل غير مسبوق. والواقع أن النُخب الروسية لم تشاركه هوَسه (https://www.foreignaffairs.com/articles/ukraine/2022-04-06/putins-war-history-ukraine-russia) بأوكرانيا قط، ولا توافقه الراي في التضحية بحياة الآلاف من الروس. يبدو أن الرئيس الروسي يدفع بسيناريو يكون فيه الشخص الوحيد الذي لديه القدرة على دفع أي ثمن يتطلبه القتال تحت راية “كل شيء أو لا شيء”. إن مسار عمل الرئيس المهووس يحمل طعماً مريراً من السخط الانتحاري.
ومع ذلك، سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن الأمر لا يمكن أن يزداد سوءاً. في هذه المرحلة، ومهما بدا بوتين محاصراً، فهو لا يزال يعتقد أنه قادر على الفوز. وفي نظره، التعبئة ستساعد الجيش الروسي على دحر القوات الأوكرانية من الأراضي التي تم ضمها حديثاً وإقناع الغرب بالتراجع عن أوكرانيا، مما يترك كييف محكوماً عليها بالاستسلام ويفتح الفرصة للحكومة الروسية لإنشاء صورة طبق الأصل للحياة الطبيعية في المناطق الجديدة.
إذن، ماذا يحدث عندما لا تسير الأمور كما هو مخطط لها مرة أخرى؟ ماذا يحدث عندما تفشل القوات الروسية في هزيمة الأوكرانيين، ويزيد الغرب مساعداته العسكرية ويتجاهل كلياً إنذار بوتين باستخدام النووي، ويواصل الناس في الأراضي الجديدة مقاومة المحتلين الروس، مستهدفين كبار المسؤولين والمباني الإدارية في هجمات إرهابية؟
ستأتي اللحظة المحورية عندما يكون السلاح النووي هو الخيار الوحيد المتاح أمام بوتين. ستكون أيضاً لحظة حاسمة بالنسبة للنُخب الروسية التي ما زالت لا تجرؤ على قبول هذا السيناريو الأسوأ، وهو أمر يتجنب الكثيرون اليوم التفكير فيه. ربما تصل الظروف السياسية المحلية إلى النقطة التي يجرؤ فيها كبار المسؤولين على العصيان والتحدث بصوت أعلى. وقد تصبح أوكرانيا حبة دواء سامة بالنسبة لبوتين: فهو في سعيه لابتلاعها، يحكم على نفسه بالهزيمة.
………………..
– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز“.
https://www.foreignaffairs.com/russian-federation/putin-apocalyptic-end-game-ukraine
(**) تاتيانا ستانوفايا، باحثة في مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي.
ـــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.