الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مقتطفات من كتاب: ” عبد الرحمن الداخل – صقر قريش ومجدد الدولة الأموية “

معقل زهور عدي 

الجزء الأخير: الميراث الذي خلفه عبد الرحمن الداخل والأثر الذي تركه في تاريخ الأمة

عدم الاستسلام لليأس:

كان يمكن للهزيمة الكبرى التي مني بها الأمويون على يد الثورة العباسية وما تبعها من مذابح وتنكيل ببني أمية وملاحقتهم في كل مكان أن تؤدي الى اليأس, وطغيان الشعور بعدم الجدوى, فقد انهار فجأة كل شيء, وكأن القيامة قد قامت, ومن كان يقاتل في صف الأمويين أصبح يقاتل مع أعدائهم, وتخلى عنهم الناس, وجاءت الأخبار من مصر أن خليفتهم قد قتل وقطع رأسه, ومشهد نهايته المأساوية أصبح نادرة تروى, وما يفعله العباسيون يثير الرعب, ويدفع الأمويين للتفكير بالنجاة بأرواحهم, والهرب ولو إلى أقصى الأرض.

لكن عبد الرحمن الداخل لم ينكس, ولم ييأس, وبدلاً من طلب الخلاص الشخصي, والهروب من الموت, والإذعان للهزيمة, فكر بالنهوض ثانية, وانصرف تفكيره نحو الإعداد لذلك النهوض, حتى وهو يتنقل متخفياً عن أعين جواسيس العباسيين, وعمالهم المكلفين بملاحقته وقتله.

فالمأساة والهزيمة تدمر إرادة الكثير من الناس, لكن الأبطال كما الأمم العظيمة لا تستسلم للهزائم, بل تبحث وسط الأنقاض عما تعيد به البناء ممن جديد.

النهوض بعد الهزيمة:

لا يكفي التماسك وعدم الانكسار أمام الهزيمة, بل لابد من تلمس أسباب النهوض بدراسة الواقع ومعطياته, والبحث في هذا الواقع عن أدوات النهوض, وعن الفرص المتاحة, وامتلاك الخطة, والتحضير المتأني, والصبر, واختيار الوقت المناسب, والمكان المناسب.

بقي عبد الرحمن الداخل ست سنوات منفياً, يتنقل من مكان لآخر, وكان اختياره للمغرب اختياراً موفقاً, فلا بد من الابتعاد عن مركز الدولة التي وضعت أول أهدافها إبادة الأمويين, والابتعاد عن المدن والأماكن التي يسهل انكشاف أمره فيها, وقد أصاب أيضاً في اللجوء إلى قبيلة أخواله من البربر, ولم يستعجل مشروع التوجه نحو الأندلس, بل اختار منطقة سبتة على مسافة رمية حجر من بر الأندلس, يستمع إلى أخبار البلاد هناك, ويتصل مع بقايا الأمويين ومن بقي على ولائه لهم. حتى تأكد أن حكم أمير الأندلس ” يوسف الفهري ” يعيش في أسوأ أيامه, وأن اليمانيين وقسم من القيسيين قد ناصبوه العداء, وأنهم يتطلعون للخلاص منه, حينذاك قرر أن الفرصة قد حانت فأخذ بقول الشاعر:

                                            إذا هبت رياحك فاغتنمها                فعـقبـى كل خــافقــةٍ سكونُ

                                           وإن درت نياقكَ فاحتلبها                  فمـا تدري الفصيل لمن يكـونُ

والفصيل هو ابن الناقة, فإن درت نياقك فاحتلبها ولا تترك حليبها لأجل ولدها لأنك لا تعرف من سيكون صاحب الناقة وولدهاً غدا.

واستكمالاً لخطة النهوض وأدواته, فلم يعبُر عبد الرحمن إلى الأندلس مغامراً جاهلاً قليل الحيلة, ولو فعل ذلك لقُبض عليه وقُتل سريعاً, فيوسف الفهري كان خاضعاً للعباسيين وتابعاً لوالي أفريقية عبد الرحمن بن حبيب الفهري الذي هرب منه عبد الرحمن الداخل خوفاً من القتل. بل أرسل مولاه بدراً ليجتمع مع فرقة من الجند من موالي الأمويين تعد حوالي 500 جندي، وهؤلاء كانوا ممن يُظهر الولاء لحاكم الأندلس ويُخفي ولاءه للأمويين, وعندما ضعف حكم يوسف الفهري بدؤوا يتطلعون نحو الثورة عليه وكانت تنقصهم القيادة التي يطمئنون إلى جدارتها, كما أن نسب عبد الرحمن الأموي كحفيد لهشام بن عبد الملك لعب دوراً هاماً في تقبلهم السريع لنصرة عبد الرحمن والتفافهم حوله.

هكذا تجمعت أدوات النهوض بعد أن وضع الهدف, وأُحكمت الخطة, وتم التحضير, وحانت الفرصة. ومثل ذلك الدرس مازال صالحاً للنهوض بعد الهزيمة للأمم والأفراد.

العزيمة في أخذ المبادرة وتحمل المخاطر والإصرار على الهدف:

في هذه المرحلة بعد استكمال التحضير ومع شرارة الانطلاق لا بد من بذل أقصى الجهد وتحمل المخاطر التي لا يمكن تفاديها, والإصرار على الهدف, وكسب ثقة وولاء الآخرين, وقد ظهر تفوق عبد الرحمن الداخل في كل ذلك بطريقة مبهرة.

فقد عبر للأندلس مع رؤساء الفرقة العسكرية الذين تعهدوا بالوقوف معه, ونزل في حصن قريب من الشاطئ, وبدأت الدعوة إليه تنتشر في الأندلس ويتوافد نحوه الموالون, ثم انتقل إلى أشبيلية التي سقطت سريعاً في يده وأقام فيها مدة يستقبل مزيداً من الموالين ويجندهم, ثم قصد قرطبة وقد اجتمع له حوالي ثلاثة آلاف مقاتل, وحين لاقى يوسف الفهري أظهر لجميع جنده شجاعته وتصميمه بطريقة لافتة.

فقد تخلى عن حصانه الأبيض السريع, وأعطاه لأحد الجند مقابل بغلة امتطاها ليقاتل عليها, فأشار بذلك أنه قادم للقتال حتى النصر أو الموت, ولا مكان للفرار عنده.

وقد أظهر مثل تلك الشجاعة وأكثر منها لاحقاً عندما حاصره جند العلاء بن المغيث وحلفاؤه في إحدى القلاع, وكادوا يفتكون به, فخرج عليهم على رأس سبعمئة ممن أقسموا على القتال حتى الموت أو النصر ونزلوا عليهم كالصاعقة, فقتلوا منهم 7000 آلاف وأسروا قائدهم وأركان جنده.

هكذا تكتسب ثقة الجيش, وتنتقل العزيمة والروح القتالية من القيادة للجنود, وبمثل تلك الشجاعة والتصميم ينفتح الطريق لتحويل المغامرة إلى حقيقة, وينتزع الولاء انتزاعاً, بالفعل لا بالقول ولا بالنسب ولا بالمال.

كما أظهر وضوح الهدف بالنسبة إليه, وإصراره على ذلك الهدف, حين أرسل إليه يوسف الفهري, يعرض عليه أن يستضيفه, ويؤمنه, ويعطيه ما يرضيه من الأملاك, ويصاهره, لكن كضيف لاجئ, فكان رده سريعاً وحازماً, فهو يطلب المُلك ولا شيء أقل منه, وهو يعلم أنه لن يحصل عليه سوى بالميدان. وكما قال المتنبي:

                                            إذا غامرت في شرفٍ مرومِ            فـلا تقنـع بمـا دون النـجـومِ

                                            فطعم الموت في أمر صغير           كطعم الموتِ في أمرٍ عظيمِ

الاعتماد على الذات والاستقلالية في القرار:

كثيرون هم الذين لجأوا للأجنبي لاستعادة مُلك أو طلب إمارة, كما فعل سليمان بن يقظان الكلبي والي برشلونة حين ذهب إلى بلاط شارلمان ليستعين به في ثورته على عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس, فكانت نهايته أن ازدراه شارلمان وأخذه أسيراً إلى بلاده لولا أن حصلت معركة باب الشزري في ممرات جبال البيرينيه التي سبق ذكرها, حيث تمكن ولداه من فك أسره واستعادته.

يُفرد ” نيقولا ميكيافلي ” فصلاً خاصاً في كتابه الذي  يعتبر اللبنة الأولى في علم السياسة الحديث لموضوع الاستعانة بالجيوش الأجنبية كقوات رديفة فيقول عنها بادئ ذي بدء إنها عديمة النفع مثل القوات المرتزقة, فهي قد تكون جيدة في حد ذاتها, لكنها دائماً مصدر خطر على من يستعيرها, ” لأنها إذا خسرت المعركة فإنك تكون قد هزمت, أما اذا كسبت فانك ستبقى أسيراً لتلك القوات “.

أما عبد الرحمن الداخل, فنجد أنه اعتمد على نفسه, وبقايا القوى العسكرية الموالية في الأندلس, وبنى قوته من انتصاراته وتحالفاته, وبعد أن فرض سيطرته على الأندلس, وأقام الدولة والجيش, لم يجد حرجاً في السعي لعقد معاهدة بينه وبين شارلمان امبراطور الفرنجة ( الإمبراطورية الرومانية المقدسة لاحقاً ), من موقع الأنداد, لضمان السلم والهدوء على جبهته الشمالية والشرقية.

 ◉ بناء قيم الدولة وإضعاف العصبيات القبلية والعنصرية:

استفاد عبد الرحمن من دروس الدولة الأموية فسعى لبناء مؤسسات قوية وراسخة للدولة وحارب العصبيات القبلية والعنصرية حتى لم نعد نرى لها أثراً قوياً فاعلاً في الدولة, وتظهر تجربته, وما حدث بعد انهيار الدولة الأموية في الأندلس من عودة للعصبيات وتفتت للدولة, أنه بمقدار ما تكون الدولة قوية بمؤسساتها, عادلة بقضائها, سليمة من الفساد, بمقدار ما تضعف العصبيات القبلية والعنصرية والمذهبية, فاذا ضعفت الدولة, ونخرها الفساد, صعدت للظهور تلك العصبيات مرة ثانية وعملت على تآكل ما بقي من قوة الدولة وبنائها حتى توصلها للانهيار التام.

وقد احتاج بناء الدولة المركزية قدراً كبيراً من الجهد لتوحيد إماراتها المتناثرة التي اعتادت التمرد والثورة على المركز والنزوع للانفصال, وَلَإن كان ذلك الجهد عسكرياً في البداية, فقد تحول سريعاً إلى جهد في بناء مؤسسات الدولة من إدارات مركزية ومحلية تدير الاقتصاد والمال والقضاء والتعليم وتبني المدن وتُصلح الزراعة وتشجع التجارة والعلم والثقافة وترسي الأمن والعدل والاستقرار. وتحارب مظاهر الفساد والنهب والظلم والتمييز. وهكذا تقام الدول على أسسٍ راسخة.

التعليقات مغلقة.