الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بوتين يُصعّد لإحراج بايدن: إما دخول الحرب أو وقفها! 

سميح صعب *        

“التصعيد من أجل خفض التصعيد”. تلك هي الإستراتيجية التي يعتمدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه الأيام في أوكرانيا. من القصف الصاروخي الواسع الذي تلا تفجير جسر القرم وما سبقه من ضم أربع مناطق أوكرانية وإعلانٍ للتعبئة الجزئية والتلويح باللجوء إلى الأسلحة النووية التكتيكية، لإرغام كييف ومن خلفها الغرب على الدخول في حوار يفضي إلى تسوية سياسية للنزاع الأوكراني.

بالتعريف الروسي، يقع جسر مضيق “كيرتش” داخل الأراضي الروسية ويعتبر تفجيره استهدافاً لأحد الرموز التي طالما فاخر فلاديمير بوتين بإنجازها بعد ضم القرم عام 2014. إنها الضربة الأقوى التي يتعرض الرئيس الروسي منذ مقتل إبنة المؤرخ الروسي ألكسندر دوغين في تفجير سيارتها في آب/أغسطس الماضي قرب موسكو. ولا تقل عن إغراق الطراد “موسكفا” في نيسان/أبريل، وإن كان الكرملين عزا الأسباب إلى مشاكل تقنية وليس لإصابته بصاروخ أوكراني.

وأتى الرد الروسي على تفجير الجسر باستخدام الأسلحة التقليدية، وإنما كانت من حيث الشمولية والاتساع وكأن الرئيس الروسي أراد من خلال الصواريخ والمسيرات المفخخة، خلق المعادل التدميري لاستخدام سلاح نووي تكتيكي. وفي تاريخ الحروب في القرن العشرين أمثلة كثيرة على أن الأسلحة التقليدية كانت أشد فتكاً من القنبلتين الذريتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة على مدينتي هيروشيما وناغازاكي.

ويورد الخبير الجيوسياسي في شبكة “ريني” الاستشارية لإدارة المخاطر “ليون هادار” مثالاً على ذلك، أن ليلتين من القصف الجوي الأميركي الكثيف على مدينة طوكيو في آذار/ مارس 1945 أوقعتا أكثر من مئة ألف قتيل وشرّدتا مليون شخص، فضلاً عما تسبب به القصف الجوي الأميركي والبريطاني المُدمر على برلين ودريسدن ومراكز مدينية ألمانية أخرى في الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية. وفي مثال قريب، يُذكر بحملة القصف الجوي لحلف شمال الأطلسي على صربيا في العام 1999، والتي أدت في نهاية المطاف إلى قبول سلوبودان ميلوسيفيتش بتسوية مع إقليم كوسوفو، ومن ثم قاد ذلك إلى سقوطه في نهاية المطاف.

هل الضغط الصاروخي الذي تلا تفجير جسر القرم، يُمكن أن يقود إلى تصعيد الحرب الروسية التقليدية وصولاً إلى رضوخ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والقبول بتسوية مع روسيا؟

إنه افتراضٌ سابقٌ لأوانه طالما أن القوات الأوكرانية لا تزال تحقق تقدماً على الأرض شرقاً وجنوباً، لا سيما في خيرسون، التي ستكون منصة العبور إلى القرم في الخطوة التالية، إذا ما تسنى لها استعادة كامل هذه المنطقة، التي ضمتها روسيا في أيلول/سبتمبر.

ويدخل عامل آخر في الاعتبار، وهو زيادة الدعم الغربي الذي تلا الحملة الصاروخية الروسية. كأن المعادلة التي تم إرساؤها بعد نحو سبعة أشهر من الحرب، تقوم على أنه كلما صعّدت روسيا هجماتها كلما زاد الغربيون مساعداتهم العسكرية، كماً ونوعاً. وما هي إلا أيام وتحصل كييف على النظام الصاروخي الأميركي “ناسامز” المتطور القادر على التعامل مع عشرات الأهداف في وقت واحد. وكانت ألمانيا السبّاقة إلى تزويد أوكرانيا بنظام دفاع جوي من طراز “أيريس- تي”.

ومع اتجاه النزاع الأوكراني نحو تصعيد كارثي، يسير المسؤولون الأميركيون على خيط رفيع يفصل بين تزويد أوكرانيا بأسلحة تحبط الهجمات الروسية وتستعيد الأراضي التي فقدتها وبين التورط المباشر. وصار واضحاً أن إدارة جو بايدن تتجه إلى تقديم كافة أنواع الأسلحة ما عدا تلك التي يمكن أن تعتبرها روسيا استفزازية. كما أن المسؤولين الأميركيين عبّروا عن استياءهم إزاء الدعوة التي وجّهها زيلينسكي الأسبوع الماضي، إلى الولايات المتحدة لتوجيه ضربة “استباقية” لروسيا. وكشف موقع “بوليتيكو” الأميركي في الأيام التي تلت تفجير جسر القرم، عن انزعاج أميركي من اغتيال إبنة دوغين في آب/أغسطس الماضي، معتبرين ذلك بمثابة عمل “استفزازي”، فهل كان الكشف عن هذا الأمر وكأنه رسالة عن عدم رضا واشنطن عن تفجير الجسر؟

والمعلوم أن أميركا صمّت آذانها عن الكثير من مطالبات زيلينسكي منذ اليوم الأول للحرب، من مثل ضم أوكرانيا فوراً إلى حلف شمال الأطلسي، وفرض منطقة حظر طيران في المجال الجوي الأوكراني، والحصول على مدفعية وصواريخ بعيدة المدى تطاول العمق الروسي، وذلك خشية أن يؤدي ذلك إلى صدام أميركي-روسي مباشر.

ومنذ بدء الحرب، أخذ بايدن على نفسه عهداً، بتقديم كل ما تحتاجه أوكرانيا من سلاح ومال ومعلومات استخباراتية لصد الهجوم الروسي، مع تعهد قطعه في الوقت نفسه للأميركيين بعدم إرسال جنود إلى الأراضي الأوكرانية لخوض قتال مباشر مع الجنود الروس، لأن الصدام بين أكبر قوتين نوويتين في العالم قد يقود إلى حرب عالمية ثالثة.

انطلاقاً من هذا الواقع، يدرك بوتين أن واشنطن لن تكون مستعدة لوقف الحرب وإعطاء إشارة لزيلينسكي للذهاب إلى المفاوضات إلا عندما يصل بايدن إلى إقتناع بأن إنقاذ الحليف الأوكراني، لم يعد متاحاً إلا إذا تدخلت القوات الأميركية مباشرة في الحرب، وفق قراءة لموقع “ذا ناشيونال إنترست” الأميركي. واستشهدت القراءة بما حدث في المجر عام 1956 في مواجهة الغزو السوفياتي عامذاك عندما أحجمت الولايات المتحدة عن مساعدة الإصلاحيين هناك، لأن مثل هذه الخطوة كان يترتب عليها تدخلاً مباشراً. وتصل القراءة إلى استنتاج مفاده، أن من المحتمل أن تكون استراتيجية بوتين الحالية تتمثل في التركيز على إرغام إدارة بايدن والحلفاء الأوروبيين على إتخاذ قرار: هل هم مستعدون للمخاطرة بالدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا في أوكرانيا، أو التراجع والبدء في الضغط على أوكرانيا لإبرام تسوية مع موسكو؟

القصف الصاروخي الروسي المكثف، كان نقطة مفصلية في الحرب، لكنها لا توفر للغرب أسباباً للتدخل المباشر، برغم عدم الاستهانة بما ستحصل عليه كييف من أسلحة متطورة ومن دعم سياسي. أما لو ذهب بوتين إلى الخيار النووي التكتيكي، فإن أميركا ستكون مُرغمة على الرد بسيناريوات عدة، منها تلك التي وردت على لسان مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق الجنرال المتقاعد ديفيد بيترايوس، بأن يعمد حلف شمال الأطلسي إلى القضاء الكامل على القوات الروسية في أوكرانيا وتدمير الأسطول الروسي في البحر الأسود.

وبينما لا يفصح المسؤولون الأميركيون الحاليون عن ماهية الرد على الاستخدام الروسي المحتمل للقنابل النووية التكتيكية، فإنهم يكرّرون أن روسيا ستجد نفسها في عزلة دولية تامة، فضلاً عن انقلاب الصين والهند ودول أخرى تقف الآن على الحياد ضدها.

وكان أبرز تحذير أوروبي هو ذاك الذي أطلقه الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، الذي اتفق مع ما دعا إليه بيترايوس من ضرورة توجيه ضربة ماحقة للجيش الروسي في أوكرانيا.

وبينما كل الآفاق مسدودة أمام الحل الديبلوماسي، تبقى الحرب مفتوحة على سيناريوات كثيرة، شأنها شأن حروب كثيرة أخطأت فيها التوقعات وذهبت في اتجاهات لم تكن في الحسبان.

* كاتب وصحافي لبناني

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.