هادي حبلي *
على عكس التطلعات الأميركية، قرّرت “أوبك +” خفض انتاج النفط عالمياً. قرار رأت فيه الإدارة الأميركية انحيازاً من المنظمة، وعلى رأسها السعودية، لمصلحة روسيا. هذا القرار يُعيد طرح السؤال إزاء مستقبل العلاقات السعودية الأميركية ومدى واقعية استمرار وصف تلك العلاقات بـ”الاستراتيجية” مقارنة بالعلاقات السعودية الروسية التي تتقدم باطراد.
لا تقتصر الخلافات السعودية الأميركية على منسوب إنتاج النفط. لا كيمياء بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي جو بايدن. تسجيل تراجع مستمر في مبيعات الأسلحة والذخائر الأميركية إلى السعودية، تحميل بن سلمان مسؤولية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. بالمقابل، لا تقتصر العلاقة السعودية الروسية على ملف انتاج النفط بل تتعداها إلى العلاقات الشخصية الجيدة بين قيادتي الدولتين والدور الذي باتت تلعبه روسيا في منطقة الشرق الأوسط إلى جانب المكانة الدولية التي اكتسبتها الرياض بعد رفضها الاصطفاف مع الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية وتقديم نفسها لاعباً دولياً يستطيع التحرك بمرونة بين المحاور والمتاريس الدولية.
بيد أن الافتراض أن الخلاف بين السعودية والولايات المتحدة سيؤدي إلى فض تحالفهما الاستراتيجي، لمصلحة تحالف استراتيجي مع روسيا، هو افتراض خاطئ، وذلك لأسباب بنيوية تفرض نفسها بالرغم من عمق الخلافات بين الرياض وواشنطن حالياً. في المقابل، تستمر السعودية وروسيا في تأكيد قدرتهما على تقليص التناقضات في ما بينهما وتثبيت لغة مصالح قابلة لأن تصبح شراكة مستقبلاً!
أفترض في هذه المقالة أن التحالفات الاستراتيجية إنما تقوم على أساس توافقات بنيوية وليس مجرد التقاء مصالح مرحلي، مهما كانت أهميته. وعلى أساس ذلك، تستعرض هذه الورقة، كيف أن العلاقة السعودية-الأميركية هي علاقة بنيوية في أساسها وليست قائمة فقط على التقاء مصالح مرحلي، على عكس العلاقات السعودية-الروسية القائمة على أساس نفعي آني مباشر وبلا أي رؤية استراتيجية من قبل الجانبين.. أقله حتى الآن.
في البداية، لم تكن العلاقات السعودية-الأميركية استراتيجية بل عبارة عن التقاء مصالح: “الأمن مقابل الطاقة”. معادلة شكّلت المحرك الأساس للتحالف. بيد أن تلك المعادلة تطورت مع الزمن لتصبح علاقات بنيوية ألزمت الطرفين بتحالف استراتيجي.
وعند الحديث عن تحالف بنيوي، فإننا نتحدث عن مستويات عدة من العلاقات تُختصر بالآتي:
أولاً؛ العلاقات السياسية:
على الرغم من الاختلافات الجذرية في طبيعة النظامين السعودي والأميركي، إلا أن قيادتي البلدين، والنخب الحاكمة فيهما، نجحوا في الحفاظ على أعلى مستوى من العلاقات الإيجابية بين الرياض وواشنطن. فلا يوجد رئيس أميركي أتى، بعد العام 1933، عام تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، إلا وكانت له زيارة للسعودية خلال تجواله في الشرق الأوسط. بينما لم يسبق لملك سعودي أن زار روسيا قبل زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو في تشرين الأول/أكتوبر 2017، وتبعتها زيارة ـ هي الثانية بعد عام 2007 ـ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تشرين الأول/أكتوبر 2019 إلى الرياض. صحيح أن العلاقات السعودية-الروسية تشهد تطوراً نوعياً غير مسبوق لا في مرحلة الإتحاد السوفياتي (أول دولة اعترفت باستقلال السعودية هي موسكو السوفياتية) ولا طوال العقود الثلاثة الماضية، إلا إن حديث النخب السياسية في كل من السعودية وأميركا يتمحور حول ضرورة إعادة ترتيب العلاقة بين واشنطن والرياض ووضع أسس جديدة لها..
ثانياً؛ العلاقات الاقتصادية:
وفقاً للمكتب التجاري للولايات المتحدة، فإن التبادل التجاري بين السعودية والولايات المتحدة يتعدى الـ 25 مليار دولار أميركي سنوياً، بالإضافة إلى أكثر من 800 مليار دولار قيمة الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة. يقابلهم حوالي 1.5 مليار دولار هو حجم التبادل التجاري بين السعودية وروسيا، بالإضافة إلى أقل من عشرة مليارات دولار قيمة الاستثمارات السعودية في روسيا، وفقاً لأرقام شركة Trading Economics للعام 2021.
ثالثاً؛ العلاقات العسكرية:
تشكل صادرات الأسلحة الأميركية إلى السعودية ما نسبته 75% من مجموع واردات السعودية من الأسلحة وفقا لتقرير شركة Global Security في 30 يونيو/حزيران 2021. في المقابل، لا تزال السعودية، وفقاً لشركة Statista، خارج قائمة أكبر 10 مستوردي أسلحة من روسيا، وتعد اتفاقية التعاون العسكري التي تم توقيعها في آب/أغسطس 2021، أفضل مستوى وصلت إليه العلاقات العسكرية بين السعودية وروسيا حتى الوقت الراهن. وهذه المعطيات لا تشير فقط إلى رجحان كفة العلاقات السعودية-الأميركية على العلاقات السعودية-الروسية، وإنما تشير أيضاً إلى الهوة الكبيرة بين الإثنتين وعدم دقة وصف العلاقات السعودية-الروسية بأنها علاقات استراتيجية. لا يتنافى مع حقيقة التنويع الذي تريد إتباعه المملكة في قضية التسلح، بدليل الاستعانة بالنووي الروسي لأغراض سلمية (طاقة ومياه)، فضلاً عن توقيع اتفاقية تعاون دفاعية هي الأولى من نوعها بين البلدين.
رابعاً؛ التحالفات والتكتلات العسكرية:
السعودية مرتبطة بالقيادة الوسطى المركزية في الجيش الأميركي وتشمل منطقة الشرق الأوسط، وهناك خمس قواعد عسكرية أميركية على أرض السعودية. أما فيما يتعلق بالعلاقات السعودية الروسية، فإلى جانب غياب التحالفات الإقليمية والقواعد العسكرية المشتركة بين البلدين، تعد روسيا خصماً أو منافساً في أقل تقدير للرياض في سوريا، بالإضافة إلى الهاجس الذي يشكله التعاون العسكري بين روسيا وإيران للسعودية ما يدفعها إلى عدم الانخراط بشدة في علاقات عسكرية مع روسيا.
خامساً؛ البعثات الطلابية:
تشير أرقام منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة للعام 2021 أن عدد البعثات الطلابية السعودية إلى الولايات المتحدة يتجاوز الـ 30 الف طالب، بينما لا يتجاوز عدد البعثات الطلابية السعودية إلى روسيا الـ 50 طالباً. وفي ظل العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الحرب الأوكرانية من المتوقع أن يشهد عدد البعثات الطلابية السعودية إلى روسيا تراجعاً أكبر. وللبعثات الطلابية أثر كبير في تعزيز العلاقات بين الدول إذ تعد مدخلاً لتبادل الثقافات، إلى جانب كونها تعبر عن توجه النخب السياسية والثقافية داخل دولة معينة تجاه دولة أخرى، وهي إحدى أدوات السياسة الخارجية الحديثة.
علاقة قابلة للتطوير:
تخبرنا العلاقات السعودية-الروسية عن كيفية التوفيق بين مصالح استراتيجية لدولتين لا تجمع بينهم علاقات استراتيجية في وجه حلفائهم الاستراتيجيين، على الأقل من جهة السعودية. وهذا النمط من العلاقات، إلى جانب كونه يعد أحد سمات النظام العالمي قيد التشكل، فإنه ينسحب على أكثر من دولة تربطها علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة، مثل الهند ومصر والإمارات، وهو عائد بدرجة عالية إلى تراجع حضور الولايات المتحدة على الساحة الدولية علاوة على تراجع عامل الثقة بين تلك الدول وأميركا.
بيد أن أهم ما يجمع الرياض بموسكو في المرحلة الراهنة، هو الاتفاق حول مستوى إنتاج النفط عالمياً، الأمر الذي يحمل في طياته أن يكون سبباً للتنافس أو النزاع في مرحلة لاحقة؛ لا سيما وأن النفط والغاز يشكلان سلعة التصدير الأساسية لكل من السعودية وروسيا. وفي ظل محدودية أسواق النفط والغاز من جهة، وازدياد الحاجة إليها دوليا، ولا سيما أوروبياً، من جهة ثانية، تزداد إحتمالات أن تشكل هذه السلعة مدخلاً للتنافس والتقارب بين الدولتين.
كما تستمر حاجة الرياض للعلاقة مع موسكو لأجل توظيفها في بناء توازن في علاقتها مع واشنطن دولياً، وطهران إقليمياً. في المقابل، تُوظف موسكو علاقتها مع الرياض لمواجهة العقوبات الأميركية، ولموازنة العلاقات مع إيران في منطقة الشرق الأوسط، ومع الصين، المستورد الأول للنفط السعودي، آسيوياً.
أي أفق للشراكة بين السعودية وروسيا؟
في فضاء دولي يشهد صعوداً قوياً للدبلوماسية الشخصية، تعد العلاقات الشخصية الجيدة بين قادة الدول أكبر ضامن لتطوير العلاقات في غياب الأسباب البنيوية لاستمرارها. وما قبول روسيا بوساطة السعودية لتبادل الأسرى مع أوكرانيا، إلا خير مؤشر على حجم الثقة المتنامية في علاقة ولي العهد السعودي بالرئيس الروسي الذي كان أول مسؤول دولي يصافحه، غداة جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي، ورد بن سلمان التحية بالمثل في أعقاب حرب أوكرانيا برفضه مقاطعة الزعيم الروسي، بل اختياره أن يكون وسيطاً بينه وبين الغرب!
تجدر الإشارة هنا إلى أن روسيا اكتسبت خبرة كبيرة في إدارة علاقاتها مع دول منافسة لها في ملفات محورية مثل إيران وتركيا وصولا إلى دفعهما إلى التركيز على الملفات المشتركة مع موسكو أكثر من الملفات الخلافية.
يُفضي هذا الاستعراض السريع إلى أن تحالف السعودية مع روسيا ما زال تحالفاً يافعاً وفي طور البناء، وتحتاج الدولتان إلى بناء العديد من عناصر الثقة من دون إهمال عنصر العلاقة السعودية الأميركية بوصفه أحد أبرز عناصر تحديد مآلات علاقة الرياض بموسكو، لا سيما كلما اقترب موعد تسلم السلطة في السعودية. من جهتها، تراقب روسيا مدى قدرة السعودية على الالتزام بتعاونها معها في “أوبك +”. في المقابل، تنتظر السعودية من روسيا إظهار قدرتها على لعب أدوار إقليمية أكثر توازناً في الشرق الأوسط، وأن تشكل عنصر لجم لإيران عندما تستهدف الأخيرة المصالح السعودية، فكلما تراجع الأميركيون في المنطقة، زادت فرصة حضور الروس وغيرهم من الفاعلين الإقليميين والدوليين.. محلها.
إن بلوغ العلاقات الروسية السعودية مرحلة الشراكة طويلة الأمد، هو من أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، في ظل استحالة تحول هكذا شراكة إلى تحالف استراتيجي، على غرار التحالف بين السعودية والولايات المتحدة. وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على الدبلوماسية الشخصية لكل من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أخيراً، إن تطور الوضع الراهن في علاقة السعودية بكل من روسيا وأميركا يعتمد على محددين أساسيين:
الأول، يتمثل في استمرار الصراع بين روسيا والولايات المتحدة بالوكالة وعدم تحوله إلى صراع مباشر.
والثاني، يتمثل في رصد حجم التقاء أو تباعد المصالح بين الولايات المتحدة والسعودية في منطقة الشرق الأوسط.
ما يعطي ـ أو لا يعطي ـ مُبرراً للرياض لتطوير علاقتها بكل من روسيا والصين وغيرهما من القادرين على التأثير في أمن الإقليم.
* كاتب صحفي لبناني
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.