الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عن حضور الثقافة الفرنسية في روسيا القيصرية

توفيق شومان *   

فتحت الحرب الروسية ـ الأوكرانية، أفقا من الجدال قد يطول اجله، حيال العلاقة الملتبسة بين روسيا والغرب، وفي وقت تنتعش في المرحلة الحالية أفكار التيار الداعي للوطنية الروسية ودعوتها الرسالية العالمية التي صاغها مفكرون روس في القرن التاسع عشر ومن أتباعهم الحاليين ألكسندر دوغين، فإن تيار الحداثة والتغريب شكّل الوجه الآخر لعقل روسيا، ومن أبرز رموزه القيصران بطرس الأكبر وكاترين الثانية، وكان له الأثر الكبير في إنتاج الأدب الروسي ما قبل الحقبة السوفياتية، والذي يُعتبر في طليعة الآداب العالمية.

في كتاب “مجمل تاريخ الأدب الروسي” لمارك سلونيم الصادر عن “الهيئة العامة لقصور الثقافة” المصرية، “من المعروف أن بداية الأدب الروسي تتفق مع دخول المسيحية إمارة كييف في القرن العاشر، وقد حدد التأثير البيزنطي لمدة خمسة قرون مجرى الثقافة الروسية، وأخذت الحروف الأبجدية للكنيسة الروسية من اليونانية، وفي القرنين العاشر والحادي عشر سد الأدب المكتوب حاجات الكنيسة، وكانت نسخة العهد الجديد من أول الكتب التي ظهرت في روسيا”.

وبين القرنين الحادي عشر والرابع عشر، على ما يشرح سلونيم، كانت الغالبية الساحقة من المخطوطات ذات مضمون كنسي، ومكتوبة بالسلافية الكنسية وببلاغة اللغة اليونانية، إلا أن ذلك لم يحجب استمرارالتقاليد الوثنية في الأساطير الشعبية، ومع منتصف القرن الخامس عشرغدت موسكو مركزا سياسيا هاما وتولت قيادة الحرب ضد التتار وصدهم عن أبوابها، ومع اعتلاء بطرس الأكبر (1672ـ1725) عرش القيصرية، اتجهت روسيا نحو تبني النموذج الغربي، بعناوينه وتفاصيله، وراحت تستورد المدافع والساعات والشعر المستعار، واستقدمت رقصة “الباليه” من ألمانيا، والقصائد الشعرية من فرنسا، والصور والنحت من إيطاليا.

في “الرواية الروسية في القرن التاسع عشر”، لأستاذة اللغة الروسية في جامعة عين شمس، مكارم الغمري “الأدب الروسي في العصور الوسطى، لم يعرف الرواية كنوع أدبي، ولكنه عرف المدونات التاريخية والدينية، التي تصف حياة القديسين كأعمال أدبية وكوثائق تاريخية وقانونية، علاوة على اشكال مختلفة من الأساطير”، ويخلص الأديب ووزير التربية السورية سامي الدروبي (1921ـ 1976) في “الرواية في الأدب الروسي” إلى القول “تأخر الشعر والمسرح في روسيا قرنين عن الغرب”.

على أن الأدب الروسي، كما تقول الغمري في كتابها الصادر عن سلسلة “عالم المعرفة” الكويتية، أخذ يهتم تدريحيا بمشاعر الإنسان منذ القرن الخامس عشر، وفي القرن السادس عشر برزت الشخصيات الأدبية بحياتها الذاتية المحددة في المكان والزمان، وفي أدب القرن السابع عشر حدث تطور ملموس بالمقارنة بما سبقه، والذي مهد لأول تجارب روائية في ستينيات القرن الثامن عشر، حيث ظهرت قصص بتروف، واحدة منها بطلها بحار ذهب إلى هولندا للإستزادة من اللغات والعلوم الرياضية، والثانية بطلهاعريس روسي شجاع ارتحل إلى فرنسا للتعليم، وترتبط مراحل تطور الأدب الروسي في القرن التاسع عشر ارتباطا وثيقا بالسير العام للتطور التاريخي والقومي لروسيا، فقد كان للأحداث التاريخية والقومية الأوروبية العالمية تأثيرها الكبير على تطور الأدب الروسي ومذاهبه، وقد كان لأحداث الثورة الفرنسية أثرها البالغ على الوعي والواقع الإجتماعي في روسيا وايضا على التيار الأدبي.

وعن تأثيرات الثورة الفرنسية على الأدب الروسي، تخصص استاذة الأدب الروسي اللبنانية ـ العراقية الأديبة حياة شرارة (1935 ـ 1997) كتابا خاصا لأكبر أساتذة النقد الروس فيسارون بيلينسكي (1811ـ 1848) يحمل إسمه وصدر عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت عام 1979، وفيه أن بيلينسكي الذي وقف موقفا شديد السلبية من الثورة الفرنسية الأولى (1830) إذا به “يتطلع الى الثورة الفرنسية عام 1789 ويعكف على دراسة روادها وممثليها والتيارات المختلفة التي تمخضت عنها، وأعجبه الجناح اليساري الداعي إلى الحلول البتارة في معالجة القضايا الإجتماعية، وأصبح فولتير وروبسبيير أبطالا في نظره”.

وعلى ما سيظهر لاحقا، فتأثيرات الثورة الفرنسية لم تقتصر على الأدب الروسي وأجناسه، وإنما تجاوزته إلى فضاءات السياسة وطموحات التغيير الإجتماعي، ففي مقالة بعنوان “المستقبلية” للقائد الشيوعي الأكثر شهرة إلى جانب لينين، ليون تروتسكي وترجمها العراقي عبد الإله النعيمي (“ايلاف” 30ـ 6 ـ 2012) جاء فيها “نحن الماركسيين نعيش في التقاليد ولم نتوقف عن كوننا ثوريين بسببها، وقد استجلينا تقاليد كومونة باريس وعشناها حتى قبل ثورتنا نحن، ثم أُضيفت اليها تقاليد ثورة 1905، التي منها نهلنا وبها أعددنا الثورة الثانية، وإذ عدنا أبعد الى الوراء ربطنا الكومونة بأيام حزيران/يونيو 1848 وبالثورة الفرنسية الكبرى”.

يقول سامي الدروبي “كانت اللغة الألمانية لغة الحديث في بلاط بطرس الأكبر(1672ـ 1725)، ثم حلت محلها الفرنسية في بلاط من أعقبوه، وفي عهد اليزابيت (1709 ـ1762) تم النصر لتأثير الثقافة الفرنسية، وفي عهد كاترين الثانية (1729 ـ 1796) الألمانية الأصل ظلت روسيا واقفة عند المدرسة الكلاسيكية الفرنسية، وكان الروس كأساتذتهم الفرنسيين يُعجبون خصوصا ـ بالإنكليزيين ـ والتر سكوت وجورج بيرون، ويرون في الرومنطيقية وجهها العاطفي الجامح وجانبها الوصفي الملون، ورائد هذا الإتجاه جوكوفسكي”.

هذا الحضور القوي للغة والثقافة الفرنسيتين في روسيا القيصرية، تمثل في أعلى مراحله خلال عهد كاترين الثانية، وتعدد صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية (19 ـ 9 ـ 2017) مآثرها مع الأدباء والفلاسفة الفرنسيين “لقد تميزت كاترينا عن كل نظرائها من الحكام بأنها فتحت اتصالات مباشرة مع أدباء ومفكري عصرها، خصوصاً مع الكاتب الفرنسي فولتير، فقد ظلت تراسله لمدة خمس عشرة سنة حتى مماته في 1778، كذلك فقد نشأت علاقة قوية بينها وبين المفكر الفرنسي ديني ديدرو (1713 – 1784) الذي كان يعد من أهم الإصلاحيين في عصره، فدعته لزيارة روسيا، ويقال إنه كان يجالسها كل يوم خلال فترة وجوده، ويتناقشان في فكر “حركة الفيلوسوف” التي كان ينتمي إليها في فرنسا، ودوره في إعداد موسوعة الفن والعلم، ومن ناحية أخرى، فإن تأثير المفكر والقانوني الفرنسي الكبير مونتيسكيو غلب عليها بشدة، وهو ما انعكس على قرارها دعوة مجلس عموم واسع العضوية لإصلاح روسيا، وأصدرت الإطار العام لعمله، مستوحية ذلك من كتاب “روح القوانين” لمونتيسكيو”.

عموما، أدت عمليات التغريب في روسيا إلى انتشار اللغة الفرنسية بين غالبية المتعلمين ولدى طبقة النبلاء، إذ باتوا لا يتحدثون إلا بالفرنسية في حياتهم اليومية، وتنقل لوبوف دستويفسكايا إبنة كبير الروائيين الروس فيودور دوستويفسكي (1821ـ 1881) في كتابها “أبي” صورا حية عن الواقع الروسي المعاش حينذاك فتقول عن جدها:

“ظل جدي منتميا معنويا إلى النبلاء الليتوانيين، في البداية أرسل أكبر أطفاله إلى مدرسة فرنسية، ولما كانت هذه المدرسة لا تعلم اللاتينية، قام جدي بنفسه بإعطائه دروسا فيها، كان الصغار يؤدون واجباتهم المنزلية باللغة الفرنسية، كان جدي يشعر بالضعف تجاه اللغة الفرنسية، ويتبادل الحديث مع زوجته بالفرنسية وكانت جدتي تجبر البنين والبنات على كتابة التهاني بأعياد ميلاد أبيهم بالفرنسية”.

وعن أبيها تقول:

“لقد ورث دوستويفسكي عن ابيه ميله الشديد إلى اللغة الفرنسية، كان يقرأ كثيرا باللغة الفرنسية، وكتب ابي روايته الأولى على نحو فائق الروعة، إنها من ثمار غوغول الذي كان متأثرا بالأدب الفرنسي في هذا الزمان، هذا التيار الأدبي كان ممثلا في ـ رواية ـ  البؤساء وفي شخصية جان فالجان، طبعا، كُتبت البؤساء بعد ذلك، لكن نمط فالجان كان بدأ بالظهور في الأدب الأوروبي، وشجعت الثورة الفرنسية على رفع الفقراء والفلاحين والموظفين الصغار إلى منزلة الأبطال، هذا الإتجاه الجديد في الأدب حاز على إعجاب الروس، كان الكتاب الروس في تلك الفترة من علية القوم، لكنهم لم يعودوا يرغبون بوصف المجتمع الراقي وراحوا يبحثون عن أبطالهم في الأحياء الفقيرة”.

والحالة نفسها، يصورها دوستويفسكي في سياق نقده لإنتشار اللغة الفرنسية في روسيا، قبل تحوله الفكري بعد الأربعين من عمره كما تقول ابنته، فمع مطلع عقده الخمسيني راح ينتقد شيوع الفرنسية، إلا أن النظر في كتابه “يوميات كاتب” يُظهر استخدامه الكثيف للمفردات والمصطلحات الفرنسية، ويرسم دوستويفسكي في هذا الكتاب مجموعة مشاهد للروس الآتين إلى المانيا للإستشفاء، فهم “يتميزون بلكنتهم الروسية ـ الفرنسية الخاصة بروسيا، والتي بدأت تدهش حتى الأجانب، أعرف انهم سيقولون إن انتقاد الروس بسبب لغتهم الفرنسية قد فات آوانه من زمن بعيد، وإن الموضوع والدرس الوعظي قد أصبحا مهترئين باليين، ولكن ما أعجبُ منه، ليس كون الروس يتحادثون بغير الروسية، بل سيكون من المستغرب إذا تحادثوا بالروسية، بل اعجبُ من تصورهم انهم يتكلمون الفرنسية جيدا”.

ويفصح دوستويفسكي في مشهد آخر، عن آلامه البليغة لتراجع اللغة الروسية، وتأخذه لغة الألم إلى التأوه القائل “الروس، أو على الأقل روس الطبقات العليا، لم يعودوا في أغلبيتهم، منذ زمن بعيد، يولدون مع لغة حية، بل هم يكتسبون في ما بعد لغة اصطناعية، ولغة روسية لا يتعرفون إليها تقريبا إلا في المدارس من خلال دروس القواعد النحوية”.

وفي واقع الحال أيضا، يقدم ليو تولستوي (1828 ـ1910) في روايته فائقة الشهرة “الحرب والسلم”، تفاصيل دقيقة عن انتشار اللغة الفرنسية في أواسط النخب الروسية، ففي الفصل الأول “صباح يوم من أيام حزيران/يونيو 1805 أرسلت آنا شيرر وصيفة شرف الإمبراطورة، خادما يرتدي بزة حمراء رسمية يحمل بطاقات إلى كل أصدقائها، جاء فيها: إذا كانت الرغبة في قضاء سهرة عند مريضة مسكينة، يسعدني أن استقبلك بين الساعتين السابعة والعاشرة، كان الأمير بازيل أول من حضر، وكان يعبر عن خواطره وأفكاره بتلك اللغة الفرنسية، التي درج كبار رجال البلاط الروسي على التحدث بها”.

هذه الرواية تتناول أحداثها مرحلة غزو نابوليون بونابرت لروسيا عام 1812، وفي جزئها الأول على ما تقرأ مكارم الغمري “مظاهر الحياة المدنية قبل الحرب، ورغم أنها لم تكن قد بدأت بعد، إلا أن شعور الأفراد بالحرب القريبة منهم والزاحفة إليهم، كان يفتح المجال للحديث عنها وعن نابليون، وكيف استطاع احد الملازمين أن يصبح أمبراطورا، لقد بات واضحا أن نابليون أصبح كالأسطورة، ونفذت روح نابليون وبعمق إلى المجتمع الإرستقراطي في روسيا، وبدأ الكثير من الشباب النبيل يتخذونه نموذجا للعبقرية والمجد”، علاوة على ذلك يصور تولستوي “بإسهاب أسلوب حياة المجتمع الإرستقراطي الروسي، والإرستقراطية الروسية تعيش غريبة عن بيئتها وشعبها وحتى عن لغتها الأم، فنادرا ما نسمع في أحاديثهم اللغة الروسية، فهم يفضلون الحديث بالفرنسية أو بالمزج بين اللغتين”.

وإذا كان دوستويفسكي وتولستوي قد ناهضا شيوع اللغة الفرنسية في بلادهما مقابل انحسار قرينتها الروسية، فالروائي الفرنسي من اصل روسي اندريه ماكين (مواليد 1957) الداعي إلى تفهم هواجس الرئيس فلاديمير بوتين وإلى ضرورة معرفة الأسباب الحقيقية للحرب الروسية ـ الأوكرانية القائمة، مثلما قال لصحيفة “لوفيغارو” في آذار/مارس الماضي، يؤكد وفق تقرير نشرته صحيفة (“الغد” ـ 23 ـ 12 ـ 2012) الأردنية “أن ثمة صلة أدبية وثيقة وقوية جدا بين روسيا وفرنسا، وكتب تولستوي الصفحات الأولى من روايته الشهيرة الحرب والسلم بالفرنسية قبل أن يتراجع عن قراره، وهناك أيضا دوستويفسكي الذي استطاع أن يترجم إلى الروسية من الفرنسية رواية أوجينيه غراندي للأديب الفرنسي بلزاك وهو ما حدّد موهبته الأدبية الحقيقية وبلورها”. كيف تجلت الثقاقة الفرنسية في الأدب الروسي وفي اعمال الأدباء الروس؟

بعد تناول الإطار العام لحجم المحمول الثقافي الفرنسي في روسيا القيصرية أعلاه، ومدى شيوع اللغة الفرنسية في أوساط المثقفين والمتعلمين والنبلاء الروس الذين كادوا في لحظة تاريخية معينة أن يتخلوا عن لغتهم الأم، ناناول أدناه، إطلالة تفصيلية على كيفية إسهام الثقافة الفرنسية في تشكيل أجناس الأدب الروسي، وبالتحديد الشعر والقصة والرواية.

يكاد يتفق أساتذة النقد في روسيا، ومعهم كبار الأدباء الروس، أن ألكسندر بوشكين (1799 ـ 1837) يُعتبر المؤسس الحقيقي للأدب الروسي، وهذا ما يقوله صراحة كبير النقاد فيسارون بيلينسكي (1811ـ 1848) وبرأي حياة شرارة استاذة الأدب الروسي في كتابها ”بيلينسكي” أن مقالة ”الأحلام الأدبية” هي “من أولى مقالات بوشكين المهمة التي خطت ملامح جديدة للنقد الأدبي”. هذه الكتابة عن بوشكين “تعني الكتابة عن الأدب الروسي كله” كما يرد في مقدمة دراسة نزار عيون السود في مجلة ”الآداب الأجنبية” السورية (1ـ 10 ـ 1999)، وهذا ما يذهب اليه أحد عمالقة الرواية الروسية فيودور دوستويفسكي في ”يوميات كاتب” إذ يقول ”من المعروف أن كل شيء لدينا هو من بوشكين”.

ويكتب الأديب الروسي فائق الشهرة نيقولا غوغول عن بوشكين ”ليس هناك من شعرائنا من يمكن أن يرقى إلى مستواه، إنه الإنسان الروسي في ارتقائه وتطوره، الذي قد يظهر ربما بعد مائتي عام”، وكانت مجلة “الأديب” اللبنانية (1 ـ 7ـ 1949) قد نشرت مقالة لألكسندر إيفولين مدير “معهد مكسيم غوركي للأدب العالمي” قال فيها ”إن بوشكين هو أب الأدب الروسي الحديث، فقد كانت آراؤه تعبيرا رائعا عن السبل الجديدة لتطور اللغة والآدب الروسية”، ولذلك لم يكن ضربا من العبث أن يصدر الرئيس الروسي السابق دميتري مدفيديف في عام 2011، قراراً يقضى بإعتبار السادس من حزيران/يونيو من كل عام يوماً للغة الروسية، وهو اليوم الذي وُلد فيه بوشكين.

في ”مجمل تاريخ الأدب الروسي” لمارك سلونيم الذي نقله إلى العربية صفوت جرجس ”نشأ بوشكين على ايدي مدرسين خصوصيين أغلبهم فرنسيون، وتكلم وقرأ بالفرنسية قبل الروسية وكتب أول أشعاره بالفرنسية ـ وقد ـ استلهمها من بارني وفولتير الفرنسيين واستلهم ملحمته الشعرية غافريليادا من فولتير”، كما أنه ”تعرف منذ صباه على مؤلفات الشعراء والكتاب الروس وعلى مؤلفات موليير وبومارشيه وفولتير” و”تأثر في هذه الفترة بأدب باتيوشكوف وجوكوفسكي والأديب الفرنسي فولتير ومؤلفات جان جاك روسو والشاعر الفرنسي جان راسين”، كما هو وارد في ”الآداب الأجنبية”. وهذه المؤثرات التي تركتها الثقافة الفرنسية على كبير شعراء روسيا والذي أسهم في تطوير اللغة الروسية، كانت مجلتا ”الهلال” (1ـ 7 ـ 1904) و”المقتطف” (1 ـ 3 ـ  1937) المصريتان قد اشارت إليها في معرض تعريفها ببوشكين، وكتبت مجلة ”الرسالة” المصرية (13 ـ 4 ـ1936) ان بوشكين “من أعظم شعراء القرن التاسع عشر، وكانت الروح الأوروبية اللاتينية تغلب لديه على الروح الأسيوية الروسية”.

وفي مجلة ”الأقلام” العراقية (1 ـ 5 ـ 1973) ان بوشكين ”قد تربى أول طلعته تربية فرنسية ولم يتقن لغته الأم، ومنذ طفولته بدأ يقرأ بالفرنسية روائع الأدب الفرنسي الكلاسيكي الموجودة في مكتبة والده”، ويعتبر كثيرون من المهتمين بالشؤون الثقافية والفلسفية، كما جاء في مجلة ”الشارقة الثقافية” (1ـ 12 ـ 2018) الإماراتية ”أن ظهور بوشكين أسهم في ظهور عمالقة الأدب الروسي بعد ذلك، من أمثال تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف، وقد تأثر بوشكين في بدء حياته بالأدب الفرنسي ثم اتجه نحو الأدب الإنكليزي”، ولا يخرج الأديب والدبلوماسي السوري سامي الدروبي عن هذه الخلاصات في كتابه ”الرواية في الأدب الروسي” إذ أن ”مكتبة الأسرة كانت تضم كل الشعر الخفيف الذي أنجبه القرن الثامن عشر الفرنسي، وكان الطفل يجيد الفرنسية وهو صبي في المهد، فسرعان ما اخذ يقلد هؤلاء بالفرنسية طبعا”.

تتجلى التأثيرات الفرنسية في العديد من اعمال بوشكين، ”فقد نظم قصائد تدل إلى انه لم ينس آراءه ومعتقداته مثل، الخنجر، تقليدا للشاعر الفرنسي شينيه (André-Marie Chénier)‏ استنادا إلى ”الرواية في الأدب الروسي”، ومن اعماله التي تبرز فيها الثقافة الفرنسية:

ـ”رسلان ولودميلا”: تعرفها ”الموسوعة العربية” الصادرة في دمشق بأنها ”قصيدة عاطفية نظمها بأسلوب روائي على نمط ما سار عليه فولتير”.

ـ”الغجر”: هي آخر القصائد الرومانسية لبوشكين ويحاور فيها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي كان يرى ان الإنسان “طيب بفطرته” وفق وجهة نظر الكاتب الروسي بيتروف في ”الآداب الاجنبية” السورية.

ـ”يوجين أونيجين”: قصيدة مؤلفة من سبعة آلاف بيت من الشعر، و”يجب أن نلاحظ أن بوشكين استعار كثيرا جدا في تصويره لشخصية ـ بطلة الرواية الشعرية ـ تاتيانا، من روسو في كتابه هلويز الجديدة Julie, ou la nouvelle Héloïse بل إن كثيرا من الأجزاء لا يزيد عن ترجمة صريحة لهذا الكتاب” وفق ما انتهى إليه زكي نجيب محمود وأحمد أمين في الجزء الثالث من ”قصة الأدب في العالم”.

ميخائيل ليرمنتوف:

بعد بوشكين، برز ميخائيل ليرمنتوف (1814ـ 1841) وفي كتاب ”تاريخ الأدب الروسي” الصادر عن ”الهيئة العامة السورية للكتاب” لتشارلز موزر ”إذا ما بحث المرء عن مؤلف يستحق لقب شاعر رومانطيقي، فإن ليرمنتوف سيكون الفائز بدون شك، وروايته التاريخية فاديم كشفت عن إطلاع الكاتب على أعمال هوغو وبلزاك وسكوت، وكان موت ليرمنتوف علامة على نهاية العصر الذهبي للشعر الروسي”.

إن عمل ليرمنتوف الشهير ”بطل زماننا” او “بطل من هذا الزمان”، يكاد يكون محاكاة او انعكاسا لعمل الشاعر والروائي الفرنسي Charles de Musset ”اعترافات طفل من هذا القرن” La Confession d’un enfant du siècle، ومثلما أراد de Musset المعاصر لليرمنتوف أن يكون عمله نوعا من السيرة الذاتية، فإن ليرمنتوف أراد من ”بطل زماننا” أن يقص سيرة حياته، وهذا ما سيؤكده زكي نجيب محمود وأحمد أمين في القسم الخاص عن الأدب الروسي في القرن التاسع عشر الذي يتضمنه مؤلفهما الجليل ”قصة الأدب في العالم”، فيخلصان إلى أن ليرمنتوف ”متأثر في هذا الكتاب بكتاب الشاعر الفرنسي ميسيه “اعترافات ابن العصر”، ولو انه كانت تعوزه بعض صفات ميسيه كالصراحة التي لا تخشى من إعلان الحق، والدقة المرهفة التي لا تفوتها ألطف الخواطر والمشاعر”.

نيقولاي غوغول:

في مقدمة الأدباء الروس، يحل نيقولاي غوغول (1809 ـ 1852) صديق بوشكين وليرمنتوف، ومن أعماله الذائعة عالميا “المفتش العام” و”الأنفس الميتة” و”المعطف”، وكدلالة على أهمية وعلو القامة الإبداعية لهذا المتفرد، يُنسب إلى شيخ الروائيين الروس فيودور دوستويفسكي قوله ”كلنا خرجنا من معطف غوغول”، وكغيره من قمم الأدب في روسيا، كان للثقافة الفرنسية سطوة لا ريب فيها على اعماله، ففي رواية “حياة السيد موليير” للروائي الروسي ميخائيل ميخائيل بولغاكوف (1891 ـ 1940) يقول الراوي للقابلة التي ستشرف على ولادة موليير: “ستُترجم أقوال هذا الطفل إلى الألمانية والإنكليزية والإيطالية والتركية والروسية إلخ.. وسيتم تقليد مسرحياته، سوف يؤثر بكثيرين مثل بوشكين وغوغول”.

ويتحدث ليف تاراسوف الروائي الفرنسي من أصل روسي والمعروف بإسم هنري ترويا (1911ـ 2007) في ”سيرة نفس ممزقة” وهي سيرة حياة غوغول، عن مدى تأثير بوشكين على غوغول وحضه على إعادة اكتشاف موليير والإهتداء به، ذلك أن غوغول ”قلما كان يهتم بالأدب الفرنسي، فالفرنسيون في نظره يسقطون حكومة بعد حكومة، ولا يمكن أن يكون كتًاب هذه الأمة جادين، وكان يحرص على التقليل من شأن موليير، ولكن بوشكين رد ساخطا حين سمعه ينتقد كتابات موليير، بعد هذا الحديث أعاد غوغول قراءة موليير وأدرك أهميته”.

فيودور دوستويفسكي:

يتصدر فيودور دوستويفسكي (1821ـ1881) قائمة عالم الرواية في روسيا وخارجها، وربما قلة أو أقل من القلة في العالم، لم تقرأ أو لم تسمع بروايتيه ”الجريمة والعقاب” و”الأخوة كارامازف”، وعلى الرغم من أن دوستويفسكي من رافعي راية الوطنية الروسية وروحها الأرثوذوكسية كما يتضح في مجموعة رسائله الضخمة الصادرة في جزئين ومنها رسالة مؤرخة في 10 ـ 2 ـ 1873 إلى ولي عهد القيصر ألكسندر رومانوف وفيها يقول ”عندما وصفنا أنفسنا بالأوروبيين تخلينا عن روسيتنا”، إلا أن ابنته لوبوف دوستويفسكي تقول في كتابها ”أبي” إنه كان شديد الميل إلى اللغة الفرنسية ويقرأ كثيرا بهذه اللغة.

قبل تحوله الفكري نحو الوطنية الروسية في النصف الثاني من عمره، كما تؤكد ابنته، ”تعرف دوستويفسكي على مفكر ثوري روسي إسمه ميخائيل بتروشيفسكي، وأخذ يتردد على حلقته الثورية، وتأثر بأفكار المفكر الفرنسي فوريه Charles Fourier وبأفكار ـ الفيلسوف الفرنسي ـ سان سيمون” بناء على ما ذكرته مجلة ”الموقف الأدبي” السورية في الأول من شباط/فبراير 2006.

كان دوستويفسكي مفتونا ببوشكين، وأحب غوغول حبا جما، ولكنه لم يقف عند أعمال هؤلاء فقط، “بل كان منذ صباه يلتهم بشغف أعمال ـ الإنكليزي ـ تشارلز ديكنز ـ  والفرنسيين ـ  بلزاك وهيغو وجورج ساند”، على حد مقالة لدونالد هيز في ”المعرفة” السورية في الأول من تشرين الأول/اكتوبر 2012، وبدأ دوستويفسكي حياته الكتابية بترجمة رواية الكاتب الفرنسي بلزاك، أوجيني غرانديه Eugénie Grandet كما عرّفت به ”الموقف الأدبي” في الأول من أيار/مايو 2014، وحول هذه الترجمة بعث برسالة (كانون الأول/يناير 1844) إلى شقيقه ”احيطك علما انني ترجمت في فترة الأعياد ـ رواية ـ أوجين غراندي لبلزاك، روعة بكل معنى الكلمة”.

إن ترجمة رواية أوجيني غرانديه من الفرنسية إلى الروسية على رأي الناقد السوفياتي ليونيد غروسمان (“الآداب الأجنبية” ـ دمشق ـ 1 ـ7 ـ 1979)” ادت إلى إنضاج موهبة دوستويفسكي وكانت بالنسبة له مدرسة حقيقية ودرسا عمليا في فن الرواية”.

الناقد الروسي ف. ايتوف، كتب بحثا مطولا عن ”دوستويفسكي وفن الرواية الفلسفية الاجتماعية” من ضمن كتاب صدر في موسكو عام 1972، ونشرته مجلة ”المعرفة” السورية (1 ـ 7 ـ 1977) يقول فيه ”مع كل اصالتها، تبقى بنية روايات دوستويفسكي تطويرا لإنجازات الأدب الواقعي الروسي والأوروبي الغربي، وقد أشارت كتب النقد الأدبي أكثر من مرة إلى تأثر دوستويفسكي ببلزاك في روايتيه الأب غوريو والأحلام الضائعة، وتربط روح المغامرة والتصور الطبيعي رواية دوستويفسكي بمبادىء تأليف الموضوع الروائي البلزاكية، وتطور في مؤلفات الكاتب الروسي العظيم، موضوع إذلال الإنسان الطيب، ذاك الموضوع الذي أدخله بلزاك إلى الأدب الأوروبي الغربي بصورة جريئة في روايتيه الأب غوريو وأوجيني غرانديه، ومن ثم فيكتور هيغو في البؤساء”.

وفي العرض (1 ـ 7 ــ 1988) الذي نشرته مجلة نزوى ”العُمانية” لمذكرات زوجة دوستويفسكي الثانية، آنا غريغوريفنا، أنه قرأ في مدينة ميلانو الإيطالية مؤلفات الفرنسيين فولتير وديني ديدرو، وظهر تأثير رواية ”كانديد” Candide لفولتير في رواية دوستويفسكي ”الأخوة كارامازوف” وتجلى تأثير ديدرو في روايتيه ”الأبله” و”مذكرات من تحت الأرض”.

ويقرأ ممدوح ابو الوي (“الموقف الأدبي” ـ دمشق ـ 1 ـ2 ـ2006) في رواية ”الفقراء” ممهدا بالقول ”نتعرف على أحداث الرواية من خلال الرسائل المتبادلة بين شخصين، وبذلك يتبع دوستويفسكي طريقة سرد نادرة، ونعلم ان مثل هذه الطريقة اتبعها الكاتب الفرنسي ألفونس كار في روايته التي اشتهرت في الأدب العربي بعنوان ماجدولين”.

وضمن دائرة المؤثرات الفرنسية على أعمال دوستويفسكي يقول الروائي الفرنسي اندريه جيد (1869 ـ1951) في ”مقالات ومحاضرات” إنه كان يعد كتابا قبل الحرب العالمية الأولى عن دوستويفسكي ”وكنتُ سأقيم مقارنة بين روسو ودوستويفسكي بعيدا عن الإفتعال، الواقع أن في طبيعتيهما من وجوه الشبه ما أتاح لإعترافات ـ كتاب ـ روسو ان تترك على دوستويفسكي بصمات واضحة”.

ثلاث قمم أدبية:

يقف على قمة الأدب الروسي والعالمي في القرن التاسع عشر، كل من ايفان تورغنييف وإيفان غونتشاروف وأنطون تشيخوف.

الأول عاش بين الأعوام 1818 و1883، ومن مؤلفاته المعروفة ”مذكرات صياد” و”الأبناء والبنون” و”الدخان”، وفي نبذة عنه في صحيفة ”المدى” العراقية اليسارية (1ـ 9 ـ 2015) أنه ”تعلم على ايدي اساتذة من مختلف القوميات ما عدا الروسية، وكانت والدته تكره كل ما له علاقة بالأصل الروسي، لذلك حملت افراد العائلة كلهم على التكلم باللغة الفرنسية، انضم في السبعينيات ـ القرن التاسع عشر ـ الى الحلقة الأدبية التي كان كل من كبار الكتاب الفرنسيين الواقعيين مثل ألفونس دوديه وإميل زولا وجوستاف فلوبير والأخوان غونكور اعضاءً فيها، وانتخب تورغنييف عام 1878 نائبا لرئيس المؤتمرالأدبي الدولي في باريس”.

في أعمال تورغنييف كما يقول مارك سلونيم ”وجدت كل الأفكار والمتغيرات الروسية في منتصف القرن التاسع عشر، كان صديقا لجوستاف فلوبير وإميل زولا الفرنسيين ـ وأدباء إنكليز وألمان ـ وهو من دعاة التغريب الراسخين، وفي روايته “الآباء والأبناء” ثمة من اتهمه بأنه لا يؤمن بروسيا، وهذا الإتهام لم يبتعد دوستويفسكي عن توجيهه لتورغنييف، ففي الجزء الثاني من ”الرسائل” يفشي دوستويفسكي أن تورغنييف أكد له ”ان الفكرة الرئيسية في كتابه الدخان ـ تكمن ـ  في العبارة التالية: لو سقطت روسيا لما خسرت البشرية ولما اضطربت”.

وأما إيفان غونتشاروف (1812ـ1891) الذي رفعته رواياته ”قصة عادية” و”أبلوموف” و”الهاوية” إلى مصاف العالمية، وفي مجمل تاريخ الأدب الروسي أن غونتشاروف كان في الخامسة والثلاثين عندما نشر أولى رواياته “قصة عادية”، وبطل هذه السيرة يمكن مقارنته في بعض المواطن بـ”أوهام ضائعة” لبلزاك وبـ”تربية عاطفية” لفلوبير، التي تعالج أحداث الثورة الفرنسية عام 1848 التي أدت إلى قيام الجمهورية الثانية.

ثالث هذه القمم الأدبية في روسيا، انطون تشيخوف (1860 ـ1904) وهو شيخ المسرح والقصة القصيرة، وعنه يقول ماهر نسيم في ”لمحات من الأدب الروسي” أن أول إنتاج لتشيخوف هو ”كتاب إلى جار مدرسي”، ثم ظهرت قصص “ألف عاطفة وعاطفة” أو “الأحلام المزعجة”، التي استلهم فكرتها من “نوتردام دي باري”، ومؤلفات هيغو الأخرى، وهزأ من قصص المغامرات الفرنسية التي لا تنتهي في قصتي “أسرار مائة وأربع وأربعين كارثة” وعمل على اعمال الروائي الفرنسي جول فيرن (1828 ـ 1905) عرضا ونقدا وسخرية”.

ليو تولستوي:

باكرا بدأ قراء العربية يتعرفون على رأس هرم الرواية الروسية والعالمية، ليو تولستوي (1828ـ 1910) ففي الأول من تشرين الأول/ اكتوبر1900 كتبت مجلة ”الجامعة العثمانية”، ان تولستوي وضع في مقدمة المؤلفين الذين يجب مطالعة كتبهم، “وقد أثر كتاب الإعتراف الذي كتبه روسو في نفسه تاثيرا كبيرا، حتى قال إن روسو سحرني في صباي، وكنتُ أعتبر ان هذا الفيلسوف إلها، فأحمل رسمه على صدري كما أحمل رسما مقدسا”، وكتب عضو ”مجمع اللغة العربية” في دمشق الأديب اللبناني نقولا فياض في دورية ”العرفان” اللبنانية في الأول من نيسان/ابريل 1942 ”هو كجان جاك روسو يطلب العودة إلى الطبيعة وبساطة الحياة البدوية الأولى، قائلا بإحترام المرأة الساقطة كما قال فيكتور هيغو”.

مجلة ”الآداب” اللبنانية، عرضت (1ـ 10 ـ 1954) كتابا لستيفان زفايج عرّبه فؤاد أيوب لدار ”اليقظة” العربية الدمشقية عن سيرة تولستوي وأدبه، وفيها ”تكونت شخصتيه المعنوية من عناصر لزمته طوال حياته، أولها حرية العقل، وثانيها ايمانه بالتقدم الإنساني، وقد اكتسب هذين العنصرين من تأثره العميق بالفلاسفة الألمان، كهيغل، وبالفرنسي جان جاك روسو والعنصر الثالث إيمانه بوطنه روسيا”.

وفي سيرته التي كتبها الناقد الكسندر سولييف في مقدمة اعماله، وعرضت خلاصتها مجلة ”أدب ونقد” المصرية (1 ـ 9 ـ 1984) فقد تقلب تولستوي ”بين دراسة اللغات الشرقية والقانون، وكانت هذه بداية أزمته وتناقضاته، إذ أشار إليه استاذه في كلية الحقوق بدراسة كتاب روح القوانين لمونتسكيو، ولكن تولستوي فضل دراسة روسو وقرأ اعترافاته التي حولته تماما عن طريق الدراسة، ووضعت في رأسه بذور أفكاره المثالية والأخلاقية والروحية والطبيعية، وكانت تلك هي بداية الصراعات المريرة في حياته، وتمزقه بين صورتين متعارضتين، البساطة والتقشف والكمال الأخلاقي، والتعلق بالملذات والترف”.

وهذا التناقض، يبدو جليا بين روايتي ”آنا كرنينيا” و”البعث”، ففي الأولى إبراز مثير لصراعات النفس البشرية وتنقلاتها بين تناقضات العاطفة والعقلانية ومعنويات الروح العالية والنفس الأمّارة بالسوء، بينما في الثانية على ما تقول الناقدة حياة شرارة في ”الآداب” اللبنانية (1ـ 3ـ 1970) ”تبدأ حياة أبطاله بأزمة فكرية وروحية، يعون على إثرها عبث حياتهم الماضية، ويتعاقب في إنتاج تولستوي الأخير، النقد الشديد للحياة الماضية والحاضرة، والإنارة الروحية والفكرية للبطل التي تأتي إثر انقلاب فكري”، وهي خلاصة لا تخرج عن المُثل الأخلاقية والإيمان المسيحي لجان جاك روسو كما نقرأ في كتابيه ”الإعترفات” و”دين الفطرة”.

إن تولستوي كان معجبا بمونتسكيو وروسو، والأخير ”كان له تأثير ضخم عليه كما يعترف” على ما يقول سامي الدروبي، وهذا ما يمكن ملاحظته في قصة ”القوقاز” فبطل تولستوي في هذه القصة ”يحاول في اندفاعه تلبية نداء روسو أن يتلاءم مع أبناء الطبيعة بتبني حياتهم البسيطة” كما يرى ألكسندر سولييف في مقدمته لـ”القوقاز”، وفي قراءة زكي نجيب محمود وأحمد أمين ”هذه المقارنة بين الحياة الفطرية الساذجة والحياة المدنية المعقدة يوضحها الكاتب ايضا في قصة آنا كارنينا التي أنشأها على أساس من مذهب جان جاك روسو”، وفق ما يقولان في ”قصة الأدب في العالم”.

ختاماً عن لينين؛

في الجزء الأول من ”الأدب والفن” يقول القائد الشيوعي فلاديمير إيليتش لينين:

“إن تعاليم ماركس كلية القدرة لأنها صحيحة، إنها كاملة ومحكمة البنيان، تعطي الناس نظرة متكاملة إلى الكون، لا تهادن أي خرافات أو رجعية، أو اي دفاع عن الظلم البرجوازي، إنها الوريث الشرعي لأفضل ما أبدعته الإنسانية في القرن التاسع عشر، متمثلا في الفلسفة الألمانية والإقتصاد السياسي الإنكليزي والإشتراكية الفرنسية”.

* كاتب لبناني

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.