الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عبدالناصر والإمبراطورية: قطع ذيل الأسد البريطاني!

عبد الله السناوي *

ذات مرة قال الأديب الفرنسي «أندريه مالرو»: «إن كل فرنسي هو ديجولي في مرحلة من حياته على الأقل». المعنى أن الجنرال «شارل ديجول» لخص الوطنية الفرنسية في ذروة المواجهة الكبرى لتحرير بلاده من الاحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية.

كذلك كان «عبدالناصر» في ذروة حرب السويس، التي نشبت إثر تأميم قناة السويس في تموز/ يوليو (1956)، أعلن المقاومة وأدار صراعاً شبه مستحيل وغير التاريخ في نهاية المطاف.

اكتسبت مصر استقلالها الوطني الكامل بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح في مواجهة العدوان الثلاثي، البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي، لا بـ«اتفاقية الجلاء» التي وقعها «عبدالناصر» نفسه عام (١٩٥٤) وانطوت على تنازلات تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس، إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.

كانت الحرب نقطة الذروة في الصراع على المنطقة.

بأثر النتائج السياسية المباشر لحرب السويس تقوضت الإمبراطورية البريطانية، التي لا تغرب عنها الشمس، وقطع ذيل الأسد البريطاني حسب التعبير الذي شاع عند انتهاء الحرب. الأمر نفسه سرى على الإمبراطورية الفرنسية.

تراجع الإمبراطوريتين في المكانة الدولية كان أمراً محتماً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وصعود القطبين الدوليين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى، لكنه تأخر لأكثر من عقد حتى وارته الثرى الوطنية المصرية في حرب السويس.

أزاحت الحرب أية أوهام إمبراطورية وأنهت مصر المقاتلة تجربتها المريرة تحت ظلال الاحتلال، التي خيمت عليها وخنقت أنفاسها منذ عام (1882).

عند رحيل الملكة «إليزابيث الثانية» بدا لافتاً إشارات ودعايات حاولت أن تستعيد في المخيلة البريطانية أمجاد الإمبراطورية السابقة وعلى رأسها احتلال مصر بعد موقعة التل الكبير وانكسار الثورة العُرابية.

لم يعترف البريطانيون، باستثناء أصوات حرة معدودة، بمسؤوليتهم التاريخية عن إجهاض تطلع المصريين للالتحاق بعصرهم وتأسيس دولة تنصف فلاحيها، لا اعتذروا ولا عوضوا.

عند التطرق إلى رمزية «اليزابيث الثانية» هناك قضيتان متناقضتان:

الأولى، الدور الذي تلعبه الملكية البريطانية في حفظ وحدة بلادها بكل تناقضاتها العرقية والسياسية وترسيخ قواعد السلطة الديمقراطية، فالملك يملك ولا يحكم. هذه تستحق التأمل والدرس والاحترام.

الثانية، تمجيد الإرث الإمبراطوري. وهذه تتناقض بفداحة مع الرواية الأخرى للتاريخ، رواية الدول المضطهدة التي احتُلت بقوة السلاح وفُرضت عليها أوضاع قهر ونهب.

هناك من يتصور أن مصر كان يمكنها تجنب حرب السويس، إن لم يُقدم «عبدالناصر» على قرار التأميم.

بالوثائق هذا استنتاج خاطئ تماماً.

لم يكن مسموحاً لمصر بأن تتطلع لاكتساب قرارها الوطنى بالتأميم، أو بغير التأميم.

بحسب تقرير استخباراتي أمريكي- ربيع (١٩٥٦)- كشف عنه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» في كتابه «ملفات السويس»، فإن خطط الانقلاب والغزو وقتل «جمال عبدالناصر» سبقت قرار التأميم.

انطوى التقرير على دعوة بريطانية صريحة لاستخدام القوة المسلحة، لإسقاط الحكومة المصرية بالمشاركة مع إسرائيل.

لم يكن كلاماً في فضاء الاجتماعات السرية، بقدر ما كان شروعاً في تحديد الأدوار قبل التنفيذ.

كان الدور الإسرائيلي- وفق التصور البريطاني- الهجوم المباشر على غزة ومناطق الحدود الأخرى، والقيام بعمليات خاصة ضد مخزون مصر من إمدادات الذخيرة والطائرات والدبابات.

بصورة مقاربة هذا ما حدث في حرب السويس، بعد إضافة فرنسا لقوة العدوان، بدافع ثأرها من الدور المصري في ثورة الجزائر.

لم يكن رفض البنك الدولي تمويل مشروع بناء السد العالي، السبب الرئيسي لتأميم قناة السويس بالفعل ورد الفعل.

منذ احتلال مصر وهي تتطلع إلى هذا اليوم، الذى تستعيد فيه الشعور بالكبرياء الوطني، والقدرة على الدفاع عن حقوقها الأصلية.

فكرة التأميم لم يخترعها «جمال عبدالناصر»، ولا طرأت على رأسه فجأة.

قبل «تموز/ يوليو»، ترددت دعوات متناثرة تضمنتها- أحياناً- دراسات تتبنى هذه الخطوة، لكنها كانت أقرب إلى الأحلام البعيدة والتخيلات المُحلِقة.

لم يكن أحد يتصور أن يأتي هذا اليوم فعلاً، حتى إن أغلب الذين دعوا للتأميم قبل تموز/ يوليو لم يحتملوا المفاجأة عندما صارحهم بها «عبدالناصر»، وهو يتأهب لإعلان قراره خشية ردات الفعل.

بين الاقتراحات التي عُرضت عليه أن يُقْدم على «نصف تأميم» حتى لا يستثير القوى العظمى.

لم يكن مستعداً لأنصاف حلول وأنصاف تأميم «نأخذ حقنا كاملاً وليكن ما يكون».

الكلام عن استعادة قناة السويس دون تأميم، أو قتال، أقرب إلى الخزعبلات السياسية.

كان «شارل رو»، رئيس مجلس إدارة شركة قناة السويس واضحاً مع «شيمون بيريز» رجل «ديفيد بن جوريون»: «مطامع المصريين لا تقف عند حد، وجمال عبدالناصر هو العدو الحقيقي».

كان ذلك قبل تأميم القناة.

بعد تحدي السويس خرجت مصر قوة إقليمية عظمى، وتحولت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التي لا يمكن تجاهلها.

بصياغة «طلال سلمان»، مؤسس صحيفة «السفير» اللبنانية: «كانت القاهرة عاصمة العرب المركزية».

اكتسبت مصر أدوارها القيادية في إفريقيا بوضوح سياساتها وقدرتها على المبادرة والإسناد لتحرير القارة، كما اكتسبت أوزاناً استثنائية في عالمها الثالث بإلهام أن دولة نامية واجهت تحدياً شبه مستحيل وكسبته.

قبل التأميم وبعده لم يكف رئيس الوزراء البريطاني «أنتوني إيدن» بما يشبه الهستيريا عن طلب رأس «عبدالناصر»: «أريد أن أدمره تماماً» «أريده جثة أمامي»، لكنه اضطر في النهاية لأن يستقيل من منصبه بعد فشله الذريع في أزمة السويس.

لم يكن «أنتوني إيدن» وحده من يطلب رأس «عبدالناصر» وتدميره كلياً.

التقت مصالح واستراتيجيات على نفس الهدف.

لم تكن الملكة «اليزابيث الثانية» طرفاً مباشراً في قرار العدوان على مصر، غير أنها أحيطت علما به والحكومة توصف بـ«حكومة صاحبة الجلالة».

على الجانب الآخر نهضت دول العالم الثالث والقوى الحرة في الغرب لرفض العدوان وإدانته.

تحفظت الولايات المتحدة على العمل العسكري تخطيطاً وتنفيذاً من خلفها دون اعتبار أنها قد آلت إليها قيادة العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية.

وكان الموقف السوفييتي حاسماً إلى درجة التلويح برد قد لا تحتمله فرنسا وبريطانيا.

بدا العالم كله، لأسباب متناقضة، في جانب مصر.

تجلت في حرب السويس حسابات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وحقائق القوة فيه ومدى تأثير الحركات الاستقلالية.

بتعبير رئيس الوزراء الهندي «جواهر لال نهرو»، فالعدوان استهدف: «حرية بلد تحرر أخيراً من الاستعمار، وهذا إلغاء للتاريخ لا يمكن التهاون معه».

رغم آلاف الوثائق والشهادات والكتب التي نُشرت عن حرب السويس فإن هناك من يطلب نزع أي قيمة عن التضحيات التي بُذلت حتى يكون استقلال القرار الوطني مستحقاً.

القضية ليست «جمال عبدالناصر».

إنها قضية احترام الذاكرة الوطنية وعدم التدليس على الحقائق الموثقة.

قبل ذلك وبعده فإنها قضية التضحيات الهائلة التي بذلت جيلاً بعد آخر حتى يرفع هذا البلد رأسه.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.