الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عبد الرحمن الداخل(*)

معقل زهور عدي

الجزء الخامس: 

عبد الرحمن الداخل: نسبه، نشأته، فراره من مذبحة العباسيين ودخوله للأندلس.

هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية، ولد عام 113 للهجرة في دمشق، كنيته أبو المطرف، أمه بربرية من سبي المغرب تسمى راحا أو رداحا، عاش تسعاً وخمسين سنة، منها تسع عشرة سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وست سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، و34 عامًا في المُلك ببلاد الأندلس، وتوفي بقرطبة ودفن بها في جمادى الأولى سنة 172 للهجرة، تشرين الأول/ أكتوبر 788 للميلاد.

صفاته: كان طويل القامة، أصهب ( في شعره حمرة أو اصفرار )، أعور ( يبدو من مرض ألم بعينيه وهو شاب، اذ تتحدث الروايات أنه عانى من الرمد بينما كان مختبئاً عشية انتصار العباسيين )، خفيف العارضين ( قليل شعر الوجه )، بوجهه خال، له ضفيرتان، له من الأولاد الذكور أحد عشر، ومن الاناث تسع.

نقش خاتمه: ” عبد الرحمن بقضاء الله راضي “؛ لقب بصقر قريش ويقال إن من لقبه بذلك هو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي.

جده الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (71- 125) للهجرة، عاشرُ خلفاء بني أمية، وآخرُ الخلفاء الأمويين الأقوياء، وأبوه معاوية تولى الغزو عدة مرات منها غزوه لقبرص عام 107 للهجرة، توفي بحادث حين سقط من فوق حصانه، وكان عبد الرحمن طفلاً فنشأ يتيماً برعاية جده هشام بن عبد الملك، وكان يحبه ويرى فيه علائم النجابة والتفوق، وذكر ابن خلدون في كتابه  ” العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ” أن قومه كانوا ( يقصد عبد الرحمن بن معاوية ) يتحينون له مُلكاً بالمغرب ويرون فيه علامات، لذلك يؤثرونها عن مَسّلمة بن عبد الملك وكان هو قد سمعها منه مشافهة فكان يحدث نفسه بذلك, وفي تفصيل ذلك أن عبد الرحمن قال: ” دخلتُ الأندلس وأنا أضبط جلية مَسّلمة بن عبد الملك ( يقصد أنه يحقق نبوءته ) فإنه أتى جدي هشاماً يوماً، فوجدني عنده صبياً، فأمر جدي بتنحيتي عنه، فقال له مَسّلمة: دعهُ يا أمير المؤمنين، فإنه صاحب بني أمية ومحيي دولتهم بعد زوالها، فلم أزل أعرف لي مزية من جدي بعد ” ( يقصد أن جده عامله بعدها معاملة خاصة )، واعتنى هشام بتربيته وتعليمه وتدريبه كما ينبغي لأبناء الملوك، وعند سقوط الدولة الأموية أخذ العباسيون يتتبعون أثر بني أمية ويعملون فيهم القتل بدون رحمة، فتفرقوا في المدن والأقطار وتخفوا عن أنظار عمال العباسيين وعيونهم التي كانت تلاحقهم في كل مكان.

مذبحة الأمويين: 

تنسب بعض المصادر التاريخية المسؤولية عن ملاحقة الأمويين وذبحهم ( على الهوية ) الشيخ منهم والشاب، المقاتل والإنسان العادي المسالم، إلى عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أبي العباس الملقب بالسفاح، وقيل إنه سمى نفسه بذلك اللقب حين قال في خطبة له عند البيعة في الكوفة: ” فاستعدوا فأنا السفاح الهائج والثائر المبير “، ولم يترك العباسيون وسيلة إلا وأخذوا بها لأجل استئصال شأفة الأمويين وإبادتهم، ومن ذلك أنهم عندما رأوا أن سياسة الاضطهاد لم تأت بما يرجونه من استئصال بني أمية، سلكوا سبيلاً آخر تميز بالخديعة فأصدر أبو العباس عبد الله ” السفاح “، الخليفة العباسي الأول، بياناً اعترف فيه بإسراف العباسيين في اضطهاد الأمويين، وندمهم على ذلك، وأمَّن من بقي منهم على قيد الحياة. وقد أذاع عم الخليفة عبد الله بن علي، هذا البيان في بلاد الشام، فخُدع عدد كبير من بني أمية به، ولبوا دعوة عبد الله إلى الظهور، فاستطاع بهذه الطريقة أن يقتل ما يربو على سبعين رجلاً آخر منهم في مجزرة نهر أبي فطرس، قرب الرملة في فلسطين، وكان يحيى وعبد الرحمن، حفيدا الخليفة هشام بن عبد الملك، من المحظوظين القلائل الذين نجوا من هذه المذبحة البشعة. وجاء في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: ” وتتبع عبد الله بن علي بني امية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم، ولم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس، فقتلهم بنهر أبي فطرس، وكان فيمن قُتل: محمد بن عبد الملك بن مروان، والغمر بن يزيد بن عبد الملك، وعبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وسعيد بن عبد الملك،، وأبو عبيدة بن الوليد بن عبد الملك، وقيل: إن إبراهيم بن يزيد المخلوع قُتل معهم، واستصفى كل شيء لهم من مال وغير ذلك؛ فلما فرغ منهم قال:

           ” بني أمية قد أفنيتُ جمعكم ** فكيف لي منكم بالأول الماضي “

وستبقى تلك المذبحة وصمة في تاريخ العباسيين، ويبدو أن معظم الثورات في التاريخ محكومة بسفك الدماء، فالثورة الفرنسية عام 1789 للميلاد غرقت بالدماء واشتهرت بمقصلتها التي طالت العائلة المالكة بدءاً من لويس السادس عشر وماري انطوانيت ووصل عدد ضحاياها الى حوالي 16000 شخص ممن أعدموا بمحاكم ثورية، والثورة البلشفية الروسية عام 1917 للميلاد لاحقت آل رومانوف عائلة القيصر وقتلتهم جميعاً مع القيصر حتى الأطفال إضافة لخدمهم ومن ظل بصحبتهم. ولا شك أن العباسيين قد صعدوا للحكم بثورة استثمرت كل عوامل التذمر والسُخط التي تراكمت حول حكم بني أمية ونجحت في توظيفها ضمن أدوات التعبئة والحشد.

فرار عبد الرحمن بن معاوية: 

ولفرار عبد الرحمن قصة طويلة في الروايات التاريخية، تتميز بالتماسك وتتطابق رواياتها إلى حد كبير.

وملخصها أن عبد الرحمن أقام متخفياً بادئ الأمر في قرية مع زوجته وأولاده وأخيه وأختيه، فداهم القرية جند العباسيين، وكان سعيد الحظ إذ كان خارج القرية في الصيد فنجا من الموت، ثم لحقت عائلته به إلى مخبأ آخر في قرية قريبة من الفرات، وبدأ التحضير للسفر إلى افريقية عن طريق فلسطين فمصر، فوشى به أحد عيون العباسيين، فداهموا القرية وكادوا أن يظفروا به، سوى أنه هرب مع أخيه وألقوا بأنفسهم في الفرات فسبح عبد الرحمن، لكن أخاه تعب من السباحة وخشي من الغرق، وناداه الجند ليرجع إليهم على أن يعطونه الأمان فرجع، وعبد الرحمن يصرخ فيه محذراً، وعندما وصل إلى الجند قتلوه وفصلوا رأسه على مرأى من أخيه عبد الرحمن الذي وصل إلى الشط الآخر، وتكاسل الجند عن السباحة واللحاق به فتركوه.

ثم تمكن من الفرار إلى فلسطين حيث لحق به مولاه بدر ومولى أخته سالم ومعهم بعض المال والزاد وانطلقوا إلى مصر، ومنها إلى بلاط عبد الرحمن بن حبيب الفهري أمير أفريقية ( تونس والجزائر والمغرب )، وبعد أن استقبله تغيرت نواياه نحوه وكاد أن يفتك به فهرب منه الى مضارب قبائل البربر البعيدة، وتنقلَ بينهم حتى وصل إلى نفزة وهم أخواله من أمه البربرية فاحتمى بهم على مقربة من مدينة سبتة القريبة من البحر المتوسط.

وحين استقر به المقام بدأ الاتصال مع بقايا الأمويين وأتباعهم، كما كان يتصيد أخبار الأندلس، وفي النهاية عقد العزم على التوجه للأندلس فأرسل مولاه بدر مع رسالة إلى رؤساء فرقة من الجند تُعد حوالي 500 جندي من موالي الأمويين في الأندلس يعرض عليهم أن ينصروه ليدخل الأندلس ويستعيد سلطان جده هشام فيها، فقبلوا بنصرته، وسَيَّروا له مركباً فيه جماعة من كُبرائهم فأبلغوه طاعتهم له وعادوا به إلى الأندلس، فأرسى بهم مركبهم في الساحل المسمى بالمنكب عام 138 للهجرة وانتقلوا إلى اشبيلية ومنها إلى قرطبة.

وهناك أهمية كبيرة في حياة عبد الرحمن الداخل لمرحلة هروبه من المذبحة وصولاً إلى أفريقية ( تونس ) حتى استقر في قبيلة زناتة في أقصى المغرب، فهي وإن كان حظها قليل في الروايات التاريخية فقد لعبت دوراً خطيراً في تهيئة عبد الرحمن للمرحلة اللاحقة، وقد امتدت فترة ستة سنوات قضى معظمها في البوادي والصحارى في خيم البربر بعيداً عن المدن وهو في مطلع شبابه، فاكتسب الكثير من الخشونة وتعلم الصبر والجلد، وعملت تلك المرحلة على شحذ همته ومنحه التصميم والقوة اللازمين لإنجازاته الباهرة فيما بعد.

 (*) من كتاب “عبد الرحمن الداخل- صقر قريش ومجدد الدولة الأموية-“

التعليقات مغلقة.