الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

تشرين الأول (أكتوبر).. الآخر!

عبد الله السناوي *

بتقادم السنين بهتت في الذاكرة العامة المعاني الكبرى التي حاربت من أجلها مصر لـ 6 سنوات كاملة بين حربى «الاستنزاف» و« تشرين الأول/ أكتوبر».

لا يمكن تلخيص ملحمة الحرب فى بعض الرجال، أو تقبُل «مسخها» فى بعض الدعايات.

تحت ظلال الهزيمة المروعة، التي جرت فى (5) حزيران/ يونيو (1967)، أدركت الوطنية المصرية بحس تاريخي لا يمكن التشكيك فيه إنها مقصودة بذاتها.

في مشهد (9) و(10) حزيران/ يونيو رفضت الهزيمة وكلفت «جمال عبدالناصر» بمواصلة القتال.

كان ذلك مشهداً تاريخياً حقيقياً جرى الطعن فيه، كأنه «مسرحية»، لسحب شرف إعلان المقاومة في لحظة الهزيمة عن المواطن المصري، الذي خرجت كتله الجماهيرية إلى الشوارع ترفض تنحي «عبدالناصر».

لم تكن القضية الرجل نفسه بقدر ما كان يمثله.

أثبتت الأحداث فيما بعد أن الرهان عليه كان في محله.

أعاد بناء القوات المسلحة من تحت الصفر، وامتلكت مصر أقوى جيش لها في التاريخ الحديث، تجاوز حجمه المليون جندي ــ أغلبه من خريجي الجامعات المصرية.

جيش حديث يأخذ بالعلم وفنونه وقواعد الضبط الصارمة تحكمه، والفضل في ذلك يعود- أساساً- لقائده العام بعد الهزيمة الفريق أول «محمد فوزي»: تدريبات قاسية، وبروفات جادة في ميادين القتال أثناء حرب الاستنزاف قبل أن نذهب إلى حرب تشرين الأول/ أكتوبر.

أعطت مصر أقصى ما لديها من إرادة القتال.

لم يكن التفويض الاستثنائي الذي منح لـ«عبدالناصر» شيكاً على بياض، فقد خرجت مظاهرات طلابية عام (١٩٦٨) تندد بالأحكام المخففة على التقصير الفادح لقادة سلاح الطيران في حرب حزيران/ يونيو وتطالب بالمشاركة السياسية.

تبدت إرادة القتال فيما طلبه الفريق «عبدالمنعم رياض» من «عبدالناصر»، عندما كلفه رئاسة أركان حرب القوات المسلحة المصرية في أعقاب الهزيمة العسكرية ألا يقبل «الصلح»، أو استعادة سيناء دون قتال، حتى لو عادت كاملة دون شروط: «أرجو يا سيادة الرئيس ألا تقبل لأنه إذا عادت سيناء بدون قتال فإن البلد كلها سوف تنهار أخلاقياً وتسقط القيم في هذا البلد وتنحرف النساء على نواصي الشوارع».

كان رد «عبدالناصر»: «لا تقلق فلن يعيدوا سيناء أبداً دون قتال، أو دون شروط».

تحت النيران تحدد المجرى الرئيسي لخيارات الحكم الجديدة ــ إزالة آثار العدوان وتصحيح الأسباب التي أدت إلى الهزيمة العسكرية.

لماذا يُراد- حتى الآن- تكريس الهزيمة في الوجدان العام، رغم النصر العسكري في «تشرين الأول/ أكتوبر 1973» منذ نحو نصف قرن؟

في الحرب العالمية الثانية سُحقت القوات الفرنسية.

احتُلت عاصمتها باريس، ودخلها الزعيم النازي «أدولف هتلر» مزهواً لالتقاط الصور التذكارية عند برج إيفل.

بعد تحريرها وُضعت لوحات تذكارية عند الأماكن والأبنية التي سقط بجوارها شهداء المقاومة الفرنسية.

لم يجيء تحرير فرنسا بفضل قوات الجنرال «شارل ديجول» وحدها، فقد قادت العمل العسكري القوات الأمريكية.

لم يكن في مصر متعاونون مع قوات الاحتلال كما حدث في فرنسا، ولا قادت معاركها بالنيابة قوات أجنبية.

إذا ما تساءلنا اليوم عن خفوت الاعتزاز العام ببطولات تشرين الأول/ أكتوبر، فإن هناك سببين رئيسيين:

الأول ــ يعود إلى ابتعاد الحدث الكبير عن ذاكرة أجيال متعاقبة لم تكن قد ولدت في سنوات الحرب، لا عاصرت معاناة الهزيمة ولا تطلعت إلى تجاوزها أيا كانت فداحة التضحيات، لا قبعت في الخنادق الأمامية لست سنوات كاملة لاستعادة الأرض المحتلة بقوة السلاح، ولا تجرعت مرارة تبديد ثمار النصر العسكري.

ثم وجدت أمامها سياسات غير مقنعة فرغت الحرب من معناها وقضاياها باسم سلام أفضت نتائجه وتداعياته إلى أوضاع تُقارب الهزائم الاستراتيجية.

والثاني ــ أن رواية تشرين الأول/ أكتوبر بالطريقة التي عُرضت بها تمازجت فيها الدعايات المفرغة من أية معاني تحررية مع نزعة دعائية تكرس الهزيمة وتلح عليها، كأننا لم نحارب ولم ننتصر، وكأن إسرائيل قوة لا تقهر والهزيمة قدر.. «أكتوبر آخر الحروب»، و«لن نحارب بالنيابة عن الفلسطينيين والعرب لآخر جندي مصري»، كما تردد على نطاق واسع في الخطابين الإعلامي والسياسي.

جرى تسطيح قضية الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وقضية الأمن القومي المصري الذي دافعت عنه قواتنا قبل أي شيء آخر.

أُهدرت التضحيات الهائلة التي بُذلت في ميادين القتال، ونشأت طبقة جديدة وصفت في البداية بـ«القطط السمان»، لتساند السلام مع إسرائيل.

استشعر جيل كامل وهب حياته لقضية تحرير بلاده بقوة السلاح الخديعة، فقد حارب من أجل حلم ليستيقظ على كابوس.

كان فتح «ملف عبدالناصر» في أعقاب حرب تشرين الأول/ أكتوبر مباشرة تمهيداً لسياسات تمددت من الانفتاح الاقتصادي بالطريقة التي جرت بها إلى الصلح مع إسرائيل بالتنازلات التي انطوى عليها.

لم يكن يناسب شخصاً محترفاً في كفاءة وزير الخارجية «إسماعيل فهمى» أن يتغاضى لا عن «الأسلوب» ولا عن «المنهج».. ولا أن يغمض العين عن «النتائج الوخيمة» المتوقعة لما أطلق عليها مبادرة «السادات» عام (1977).. فاستقال.

رغم أن الدكتور «بطرس غالي»، الذى صعد إلى قمة جهاز الخارجية المصرية في أعقاب استقالتيّ وزيرها «إسماعيل فهمى» ووزير الدولة للشئون الخارجية «محمد رياض»، كان مقتنعاً بما أقدم عليه «السادات»، إلا أنه وجد نفسه عضواً فيمن كان يسميهم بـ«عصابة الخارجية»، أو «الميكانيكية»- نسبة إلى التعبير الإنجليزي الشهير «الميكانيزم» أو «الآلية»، الذى كان يستخدم وقتها على نطاق واسع في أوساط المثقفين والدبلوماسيين!

لم يكن بوسع الدكتور «غالي» بخلفيته الأكاديمية أن يغض الطرف، كما جاء في مذكراته، عن الأداء الهابط لكثير من مشاهد المفاوضات.

بتعبير «الجمسي» عن مفاوضات الكيلو (١٠١)، التي استبقت زيارة الكنيست بفترة طويلة نسبياً: «كنت أتفاوض مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر.. بينما النتيجة معدة سلفاً بينه وبين السادات».

أكد «كيسنجر» في مذكراته ما قاله «الجمسي»: «لم أعد وسيطاً بين مصر وإسرائيل.. بل بين السادات وإسرائيل من جهة والوفد المصري من جهة أخرى».

أهدرت النتائج العسكرية لحرب تشرين الأول/ أكتوبر بمقولتي: «٧٠٪ من الصراع مع إسرائيل نفسي».. و«٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة».

كانت النتائج وخيمة على الدور الإقليمي المصري بالانخراط في الصلح المنفرد مع إسرائيل والخروج من الصراع العربي ــ الإسرائيلي.

«شاهدت زيارة السادات للكنيست بالكويت.. بعد دقائق اختفت النساء. كن يبكين بالحمامات وغرف النوم».

تلخص تلك العبارة للأستاذ «أحمد بهاء الدين» شيئاً من الجو العام في العالم العربي لحظة زيارة القدس، التي قوضت عندها النتائج السياسية لبطولة السلاح في تشرين الأول/ أكتوبر.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.