نور الدين ثنيو *
أغلب ما نعرفه عن فكر مالك بن نبي هو ما بعد أن ترجم إلى اللغة العربية، خاصة من قِبَل الكاتب الإسلامي المصري عبد الصبور شاهين. أما مالك بن نبي كما جاء بقلمه باللغة الفرنسية فيحتاج إلى إعادة قراءة واكتشاف. ولعل الوحيد الذي قرأه كما جاء في كتبه الصادرة باللغة الفرنسية وبالفكر الفرنسي هو المثقف والوزير السابق نورالدين بوكروح الذي دخل الساحة الثقافية في ثمانينيات القرن الماضي على خلفية فكر مالك بن نبي، وكتب عنه الكثير بعد ذلك. وعليه، فإن بن نبي يحتاج منا ليس إلى إعادة قراءته قراءة أخرى تقتضيها المسافة الزمنية التي امتدت عن عصره، بل بإعادته إلى سياقه التاريخي الحافل والمؤسس وإلى لغته الأصلية التي تداولها وتعلمها وفكر وكتب بها.
في هذه المقاربة لا نعيد الإمساك بفكر بن نبي فحسب بل بإمكانية كتابة تاريخ الجزائر ذاته في أهم لحظاته ومعانيه وما كان ينطوي عليه من وقائع واحتمالات. إن التطلع إلى قراءة فكر مالك بن نبي ينبغي أول ما ينبغي فعله هو قراءته قراءة أولى كما بدت في تاريخها الحافل بالأحداث الكبرى والقوية أيضا، لأنها لحظة مفصلية كما يقول هو نفسه. فقد ولد مطلع القرن العشرين وما كان يبطن من ركام وما يحفل بآمال وخيبات لاحقة أيضا. فالتاريخ الذي ولد فيه مالك بن نبي هو التاريخ الذي يرتب لما بعده ويعرف بما قبله وغالبا ما يعبر عن أزمة دخلها التاريخ الجديد الذي سوف يطلق عليه التاريخ المعاصر بسبب أهم حدث وقع على الإطلاق: الحرب الكبرى، كما كان يطلق عليها في حينه، أو الحرب العالمية كما اصطلح عليها لاحقا. فقد كان هذا المنعطف الشديد قويا على مالك بن نبي الذي تعلم اللغة الفرنسة وانخرط في التفكير بها في قضايا تهم الإسلام والمسلمين.
الإشكال الذي عناه بن نبي أنه تعلم اللغة الفرنسية ليجد نفسه يصارع الاستعمار من خلال قضايا الأهالي وأوضاعهم، ومن ذلك بلورته لمفهوم القابلية للاستعمار الذي جاء عبر توظيفه للثقافة الفرنسية ولغتها التي تجيز صياغة «القابلية» وإلحاقها بالكلمة التي يريد أن يعبر عنها، مثل القابلية للاستعمار، ومثلها مثل اللاصقة «تصفية» الاستعمار التي يتداولها المثقفون الفرنسيون في تحليلاتهم، لما بعد الحرب العالمية من أجل المطالبة بالاستقلال والتحرر والسيادة. بهذا المعنى كان مالك بن نبي كاتبا يفكر في قضايا الأهالي المسلمين وفي مسائلهم من خلال إتقانه لأسلوب الكتابة باللغة الفرنسية. فعندما اكتشف الشاب بن نبي أنه امتلك أسلوب الكتابة، عرف في اللحظة ذاتها أنه صاحب قلم ويجب أن يوظف في معارك الإسلام والمسلمين الثقافية والحضارية. من هنا، فإن ما يمكن أن تفيدنا به كتابات بن بني أن الخطاب الفرنسي ينطوي على إمكانية تجاوز الوضع الاستعماري ونقد الوضع الحضاري للعرب والمسلمين. ويبقى السؤال، أو بالأحرى الإشكال، هو مدى قابلية الأهالي لفهم هذا النوع الجديد من التفكير: تناول قضايا الإسلام والمسلمين ليس من قبل المستشرقين، وهذا أمر يكاد يكون طبيعيا، ولكن من قبل مسلم شاب، كما صار ينظر إلى نفسه لاحقا، بعد الحرب العالمية الثانية. هذه الإشكالية هي التي واجهها أو واجهته عندما راح بن نبي يمارس نقده للوضع الاستعماري ولم «يقدر» الظلال والمسافات التي تفصل بين المفردة الفرنسية ومدلولها أو غياب مدلولها في الواقع العربي والإسلامي خاصة الجزائري.
نقصد بالإشكالية الأخيرة أن تناول بن نبي بالنقد واقع الإسلام والمسلمين لم يكن في حقيقة الأمر من «جوف» و«باطن» تاريخ التخلف، بل من «فوق» هذا الواقع على ما تيسره له اللغة الفرنسية كواقع جديد في الجزائر، لأن اللغة العربية في ذلك الوقت كانت تنتظر نهضتها من أجل مسايرة ومواكبة الحياة الدولية والإنسانية الجديدة. كان بن نبي مثقفا حرا لا يحتفل كثيرا بموضوع أو مسألة الانتماء، لأن الوضع برمته متخلف ويحتاج إلى ضرورة تجاوزه، والإمكانية التي توفرت له بسبب الوجود الفرنسي في الجزائر هي اللغة الفرنسية التي أضحت أداته لمقاومته الثقافية للوضعية الاستعمارية العامة.
فهو من هذا الجانب، لا تلح عليه قضية الانتماء ولا تحرجه المسألة الأهلية عندما تعني الحق في المواطنة مع المحافظة على نظام الأحوال الشخصية الإسلامي، لأن طرح الإسلام والمسلمين في الجزائر على هذا النحو فيه ابتسار لمصيرهما معا، أي الإسلام والمسلمين كليهما. وعلى صعيده الشخصي، تزوج من امرأة فرنسية، ونسج علاقة حميمة مع أسرتها وتيسرت له إمكانية البحث عن «تقرير» مصيره ومصيرها ولو خارج الجزائر، على ما كان يحلم ويخطط من مشاريع. وفعلا عاش شطر حياته المهم بعيدا عن الأرض منذ ثلاثينيات القرن العشرين إلى غاية ما بعد استقلال الجزائر التي أبعدته سلطتها من إمكانية تقديم إسهاماته الفكرية والثقافية، فقد كان مصيره غير مصير الجزائر.
القراءة «الأولى»، كما نقترحها في المقال ترمي إلى تحرير فكر مالك بن نبي من الثقافة الإسلامية أو العروبية المبسطة التي شوهت فكر الرجل وأعادت توظيفه وتسخيره في معارك لم يكن هو أصلا طرفا فيها. فقد انتقد الاستشراق من داخل الثقافة الفرنسية وليس ضدا عليها، على عكس ما يعتقد أغلب الإسلاميين في قراءتهم «المعربة» والمبسطة لفكر بن نبي. كما أنه فكر في قضايا الإسلام والعالم الإسلامي ليس على سبيل التصدي للغرب، لأن هذا الأخير لم يكن كله استعمارا كما كان يعيش التجربة في حياته الحقيقية وليس المفترضة. ثم، وهذا ما لم يَقُلْه مالك بن نبي لكن جسّده في مشروعه الفكري، أن من شروط النهضة الحديثة والمعاصرة، وهو عنوان أحد كتبه، أن تجري باللغات الغربية، ومنها اللغة الفرنسية، التي كانت معينا ورصيدا وموئلا لثقافته التي ساعدته على التعرف على المستعمِر والمستعمَر في اللحظة ذاتها، ليس كمستغرب أو مستلب، بل كفاعل، فرضت عليه أقدار الدنيا والآخرة على حمل صخرة سيزيف إلى قمة الجبل. لكن وجود آلهة في دنيا الناس حال دون ذلك.
اللغة الفرنسية في تجربة مالك بن نبي إمكان لتحرير الفكر وترقية مجتمع لا يزال يرسف في أغلال عصور التخلف والانحطاط. وفي كل الأحوال، فقد تكلم مالك بن نبي بلغة النقد والرفض وتجاوز الوضع الاستعماري بطرفيه المستعمِر والمستعمَر لأن مسألة «القابلية» و«التصفية»، تصلح لهما معا وتصدق عليهما أيضا، لأنه بعد الاستقلال عمد النظام الجزائري إلى إنفاق الأموال الطائلة من أجل التمكن من اللغة الفرنسية لمواصلة إنجازات الانتصار على الاستعمار بوجهيه القديم والجديد إن في الجزائر أو في فرنسا.
* كاتب وأكاديمي جزائري
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.