فواز حداد *
كما هو ملاحظ، لن تقتصر تداعيات الاتفاق بين إسرائيل ودولة الإمارات على السياسة ومواقف الدول منه، بل ستتعداها إلى الثقافة، حسبما ورد عن مقاطعة مثقفين للتطبيع، وانسحاب كُتّاب من الترشيح لجوائز الرواية في دولة الإمارات، ما شكل وضعاً مقلقاً للثقافة، فقد أسهم الخليج في بث الحيوية في الحالة الثقافية، وأخرجها من ركودها، لاسيما الكويت، بمساهمات مبكرة وسباقة في المجلة الرائدة «العربي» وسلسلة «المسرح العالمي» و«عالم المعرفة» وغيرها، إضافة إلى السعودية بجوائزها المتساوية مع العالمية، كذلك إمارة قطر في الصرح الثقافي «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» لاسيما المشروع الجبار «المعجم التاريخي للغة العربية». أما دولة الإمارات، فبمساهمات ملموسة وفعالة، من خلال إنشاء وتعزيز المظاهر الثقافية، سواء في جوائز أو ندوات ومعارض ومشاريع فنية وأدبية وترجمة، ولا نزيد في القول إنها شملت البلدان العربية.
ما يجب الاعتراف به في هذه العجالة هو صعوبة إحصاء الجهود المبذولة في إعادة الروح للحياة الثقافية العربية، مع إسباغ واجهة حضارية، وإن لم تعوض عن التراجع المصري والعراقي، لكنها سدت ثغرة كبيرة.
هذه الجهود، رغم حسناتها الكثيرة، لم تخل من بعض المثالب، أسهمت مظاهرها الاستعراضية بالفساد الثقافي، وسيطرة مافيات طفيلية على جوائز لم تصبح مهمة إلا من فرط الدعاية، كانت انحيازاتها غير خافية، وأحيانا ضررها أكثر من نفعها، لم يصرّ إلى التغلب عليها، بقدر غض النظر عنها، فالدول في حاجة إلى مناصرين مثقفين. وإذا كانت لنا مراعاة جانبها الإيجابي من ناحية عائديتها على الثقافة عموماً، فقد كانت معقولة، رغم سلبياتها.
في الواقع، لا تنجو الثقافة من العبث اللاأخلاقي، عندما يتدخل المال والتنافس والسعي نحو الشهرة بشتى الوسائل، ما يجعلها هدفا للفساد، خاصة أن المؤسسات الثقافية التابعة للدول متخمة بالأمراض، أقلها شأناً البيروقراطية، مع العلم، إذا بحثنا عن حالة صحية للثقافة في العالم يصعب العثور عليها، فلماذا نطالب دول الخليج بجهد ثقافي مثالي، المهم طيب النوايا، وهو ما شجع على اعتبار التورط الخليجي في الثقافة، ظاهرة واعدة، تفوق في حسناتها أي ظاهرة أخرى. وإذا كانت قد حازت انتقادات، لكنها في الوقت نفسه كسبت تأييداً ومديحاً، آخذين بالتزايد من عام لآخر.
اليوم إزاء التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، بات الحذر ضرورياً من هذه الخطوة وهذه المظاهر، خاصة أنها أصيبت بالعطب في السنوات الأخيرة، خلال ارتفاع أصوات الاحتجاج في العالم العربي ضد حكومات مستبدة وطغاة معمرين. فمع بدء الربيع العربي، بدلا من مواكبته، نشأ اتجاه قوي في الخليج، ينحو إلى فصل الثقافة عن السياسة، كان متعمداً، في الترويج لثقافة تحلق عالياً لا تأبه بالسياسة، لئلا تتلوث بها، وهو زعم منحاز، يدل على عدم فهم لطبيعة الثقافة نفسها، ودورها كأداة عقل ونور وتنوير، وعدم تحويلها إلى تسلية لعقل مستريح، بلا هدف سوى المتعة، والتخفف من المسؤولية، باعتبارها استهلاكاً ترفيهياً، يجذب الأنظار، مع أنه ليس هناك ثقافة حقيقية بريئة من السياسة، السياسة شأن البشر، إنها مساءلة الذات والمجتمع والسلطة والحاضر والماضي… إنها مسؤولية كبيرة، لذلك تسعى الدول ألا يكون للمثقفين تأثير في سياساتها، كنوع من التحرر من المساءلة، وكشف الحساب، بتوخي إدراج الثقافة في خانة الفن الراقي والشعر الجميل، وانفتاحه على حضارة متوهمة، على أنه الواقع المرغوب، بينما المقصود عزلها عن الحياة التي نعيشها بالفعل، مع استحالة فصلها عن الواقع، ولو كان المثقف يمارس الثقافة في برج عاجي، وكما عودتنا الأنظمة، تلجأ إلى شراء المثقفين، فيرفض بعضهم ويستجيب آخرون.
مارس الخليج خلال الربيع العربي على الثقافة رقابة خفية، ظهرت جلية في استبعاد الأعمال المؤيدة لثورات المنطقة، فالخليج عموماً لا يطيق الاحتجاجات الشعبية، من وجهة نظره، إنها ثورة المحتاجين، بينما شعوبهم ترتع في بحبوحة، لا تشكو من فقدان المواد الغذائية، ما دام المتوافر يزيد عنها، وعن كل ما هو قابل للاستهلاك، ومن الطبيعي ألا يُفتقد للحرية والعدالة، مع توافر المال، فلم تعد مظاهرات التأييد للربيع العربي سوى افتعال للفوضى، ثم أنها شأن السياسة، لا الناس. كانت رقابة ناعمة أيضاً، فالكُتّاب أدركوا المطلوب منهم، وتقيدوا بشروطها غير المكتوبة. ومثلما جرى تصنيف الثورات، التي انفرطت على أنها فوضى، أضيفت إليها اليوم القضية الفلسطينية، لم يصدر قرار بذلك، لكن بات تصنيفها من الممنوعات مفروغاً منه، باعتبار فلسطين ليست قضية ثقافية، أي خارج الثقافة. وهو امتداد لاعتبارها ليست قضية عربية، أي لكل دولة مشاكلها وهي الأولى بالحل، مثلما انتشر من قبل: مصر أولا، وسورية أولاً.. وهكذا.
على سبيل المثال: ما الذي يمنع أن تكون قضيتي السورية أولاً، ولا تهاون في القضية الفلسطينية، إلا إذا كان التواطؤ مع الإسرائيليين، يجعل مني سورياً صالحاً.
إذا كان حكام الإمارات قد ادخروا المثقفين العرب لهذا اليوم، فالمساومة على مواقفهم لن تتأخر، إن لم يكن الموافقة والتأييد، فالصمت، وفي حال رفع بعضهم الصوت معترضاً، فالحرمان من الجوائز والدعوات، والندوات والمعارض، والدعوات إلى فنادق النجوم الخمسة، كمكافآت سياسية، فالجوائز لن تمنح لوجه الثقافة، بل لوجه عدم انتقاد التطبيع، خاصة أن الجهات الثقافية تابعة للدولة، وهي غير مستقلة، تأتمر بأوامرها، وتنفذ تعليماتها. وهي حالة مرشحة للاستغلال والاستمرار، تؤازرها أمراض لا تُخفى، شللية ومافياوية، وانتقائية، وعلاقات فاسدة ترتزق منها جماعات منافقة، ترتد عليهم بالمال وشهرة مشبوهة.
عموماً، الجوائز وأشباهها، ربما في الكثير من بلدان العالم، لاسيما الشمولية، تعبّر عن موقف سياسي، فلا نستغرب تصرف الأنظمة لدينا على منوال الدول الديكتاتورية، الخشية من الثقافة تحكمها عقلية واحدة، هل يعقل مثلاً أن تمنح روسيا السوفييتية جائزة لجورج أورويل، أو لهنري ميللر، ما دامت أرسلت بشعرائها وأدبائها إلى الإعدام أو إلى سيبيريا؟ لن تشذ أنظمتنا عما هو دارج في هذا العالم، الذي يطارد المثقفين. ولا نعتقد أن كاتباً إذا كتب عن حقوق الفلسطينيين وتعرض إلى جرائم الإسرائيليين أن يسمح له بإلقاء محاضرة حول القضية الفلسطينية، أو الدفاع عن الحق الفلسطيني في الإمارات، ولا أن يمنح روائي جائزة، إن لم يبد صمـــــتا يزيد عن صمت أبي الهول بشأن فلسطين، طالما أن الجوائز تعمل ضمن مفهوم الرقابة الناعمة، وبـــدأت تخشوشن منذ سنوات، ما دفع الكثير من الكتاب إلى مغازلتها خلال ثورات الربيع، بموضوعات إنسانية جداً، أغفلت آلة القتل ومئات آلاف الضحايا، فاعتبرت أعمالاً من الأنواع المرضي عنها لدى رقابات الخليج النشيطة، التي من أحد أعمالها الدورية ما نشهده من منع في معارض الكتاب.
إن الهدف من مقاطعة الأنشطة الثقافية، هو عدم المشاركة في إنهاء قضية عادلة، ولا تبييض سياسات بمظاهر ثقافية. النظر الصحيح، لا يخفي أن الحكام في أغلب الوطن العربي لا يمثلون شعوبهم، جاؤوا بانقلاب عسكري، أو بالوراثة، وهو دليل يجب ألا نغفل عنه. وإذا لم نعول على مثقفي الأنظمة، فلأنهم إلى جانب أنظمتهم، سواء أخطأت أو أجرمت أو سحقت، أو حتى استعملت الكيميائي ضد شعبها. المقاطعة ليست عمياء، ولا مقاطعة لشعب الإمارات، ولا أدب مثقفي الإمارات، ولا الكتب الصادرة عن دور النشر فيها، بالعكس نحن نعول على ألا يصبح مواطنو الخليج ومثقفوه في عزلة، ولا طوع قرارات سياسية، جميعنا في مركب واحد، عاصرنا معاً المأساة الفلسطينية، لا نجهلها والأعلم بها.
دائماً، لا عذر للمثقف، إنه الباحث عن الحقيقة والمدافع عنها، لولاها لما كان له وجود في العالم. الحقيقة هي التي أوجدته أو اخترعته، قبلها لم يكن سوى أديب يكتب قصصا وأشعاراً، أو عالم يتعامل مع الأنابيب والذرات، أو طبيب يعالج المرضى… هؤلاء وأمثالهم عندما عبروا عن آرائهم في الشأن العام، وانتقدوا أوضاعاً فاسدة، واحتكار سياسات مصيرية، أصبحوا مثقفين، دفع الكثيرون منهم الثمن، وأودعوا في السجون، جراء اتهامهم الحكومات بالتفريط بالبشر والمبادئ والقيم.
المثقف مسؤول، لا يستطيع الادعاء بأنه لا يعرف، ومهما كانت ذرائعه فهو لا يجهل، ومهما كان الموقف الذي سيتخذه سياسياً، أو أخلاقياً، فهو شأن فردي، إنه أمر يتعلق بالضمير.
٭ روائي سوري
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.