بشير الكبيسي *
إنّ أصل كل الإشكاليات التي تفتك بالبلدان العربية وتقف عائقاً أمام تقدمها؛ هي إشكاليةُ الدولة، فمَنْ ينقب عن جذور الأزمات سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، ومَنْ يبحث عن أسباب الصراعات بمختلف أشكالها، ومَنْ يعيد طرح سؤال مشروع النهضة: “لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟ ولماذا نهض الغرب من ظلامية القروسطية ومازلنا؟”، أكاد أجزم أنه سيجد كل ذلك ذي صلة بتعطل إنجاز مشروع الدولة مُذْ انهيار إمبراطورية “آل عثمان” عام 1924.
هذا التشخيص ثمرة تراكم معرفي ونقاشات عميقة خضتها مع ثلة من كبار المفكرين والباحثين، وفي مقدمتهم المفكرة والمنظرة الراحلة “حياة الحويك عطية”، فمحاضراتها، سواء في أيام الجامعة أو خلال الندوات والمؤتمرات أو الجلسات الخاصة، كانت عبارة عن وجبة فكريّة دسمة، تبدأ من العام “الماكرو” وتمر بالخاص “الميكرو”، وتنتهي بالوقوف على أبرز الدلالات.
وأتذكر- والذاكرةُ لا تزال تسعفني- أننا خضنا نقاشات كثيرة حول طبيعة الأنظمة العربية القائمة والبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المشوهة، وكنا نخرج باستنتاجات مهمة، منها؛ أنّ إشكالية تزاوج البنى المتناقضة في البلدان العربية هي إشكالية حاضرة بقوة، فنلاحظ تزامن الاقتصاد الريعي مع الاقتصاد الرأسمالي، والوسائل البدائية للإنتاج مع الوسائل الحديثة، ونظام المقايضة مع القروض البنكية، وشيوع نظام الحزب الواحد مع إدعاء التعددية السياسية، وحكم الفرد ونظام المؤسسات، واحتكار السلطة والنظام البرلماني، وتواجد الحزب والقبيلة، العلمانيّة والطائفية، التراث والحداثة.. وثمة اتفاق على أن هذه التناقضات، والتي سلط عليها الضوء باحثون كثر بينهم الراحل فالح عبد الجبار وآخرون، سببها أنّ البنى الحديثة لم تأتِ في البلدان العربية على أنقاض البنى التقليدية، وإنما أتاها من الخارج وجاورها، فلا الرأسماليّة نشأت من تفكك نظم الإنتاج السابقة لها، ولا الدولة الحديثة وُلدت من أحشاء دولةٍ سلطانيّة قَضْت، ولا الحداثة انبثقت من تحت تراب قبر القديم، فظل القديم قديماً حيّاً وأتى الجديد من خارجه يشاركه المكان كما يقول المفكر عبدالإله بلقزيز. بمعنى أنّ المجتمعات العربية لم تمر بالسيرورة التاريخية والاجتماعية، إذ قفزت معظمها من مرحلة ما قبل المجتمع الصناعي إلى ما بعده، وهذا يعود إلى جملة أسباب في مقدمتها مطرقة الخارج التي تعمل على تدمير المشاريع الطموحة- العراق أنموذجاً- ، فضلاً على عوامل داخلية كثيرة.
وأعتقد، أنّ هذه المعطيات، التي لا يختلف عليها اثنان، كانت الشرارة الأولى التي ساهمت بنضوج أطروحة الراحلة حياة الحويك عطية في علوم الاتصال الجماهيري، والتي نشرت في كتاب ضخم بعنوان “الفضائيات الإخبارية العربية بين عولمتين” والذي يتكون من اثني عشر فصلاً ويقع في 500 صفحة، إذ توقفت عند ظاهرة إطلاق سلسلة من الفضائيات العربيّة منذ 1990 وحتى 2004 و كانت- قنوات الجزيرة وأبو ظبي والمنار والعربية أنموذجاً- وذلك بالتزامن مع تشكل نظام عالمي جديد عقب انهيار جدار برلين عام 1989م واندلاع حرب العراق- الكويت عام 1991م، وراحت تطرح اسئلة بنيوية: أهي ظاهرةٌ ليبرالية إعلامية اقتصادية وسياسية؟ أهي حرية تعبير حقيقية؟ هل سيخدم عملها عملية التحول الديمقراطي أم أنها ستخدم ما يعرفون بقادة العالم الجدد، أي رؤساء الشركات متعددة الجنسيات؟ وهل هي أداة من أدوات إلحاق العالم العربي بالهيمنة الأمريكية بما تعنيه سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً؟ وكيف ستتعامل مع حقيقة أن العرب لم يعرفوا لغاية التسعينيات الماضية سوى الخطاب الرسمي وهم متعطشون للرأي والرأي الآخر؟ أم أن هذا العطش سيشكل أرضية للتلاعب بالمتلقي؟ وهل ستساهم في بناء الـ”أنا” والـ”نحن” الوطنية أم ستؤدي إلى تفريخ مزيد من الـ”نحنوات” ومزيد من الصراعات والاقتتال الطائفي والإثني؟
نظام عالمي جديد = نظام إعلامي جديد
بانتهاء الحرب الباردة، وانهيار الكتلة الشرقية- علماً أنّ ضَعف خطابها الإعلامي كان أحد أسباب سقوطها- تهاوى النظام العالمي ذو القطبين، شرقي وغربي، ثم برز نظام جديد تتزعمه الولايات المتحدة بلا منافس. نظامٌ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعالم العربي، لسببين رئيسيين، أولهما أنّ المنطقة العربية مصدر النفط وتمتلك مستقبلاً واعداً في سوق الغاز، وثانيهما هو وجود الكيان الصهيوني، فالجهود تنصب لحمايته وردع كل مشروع طموح يعاديه، والعمل على ضمان أكبر عدد ممكن من المطبعين والمطبلين.
في البواكير الأولى، ولترسيخ دعائم النظام الذي كان في طور التشكل، بحثت الولايات المتحدة عن عدو جديد، عن “إمبراطورية شر”، عن “كتلة مقابلة” وفق تعبير “إيلي كانتي”، فوجدت الإدارة الأمريكية- بعد محاولات فاشلة مع عصابات التهريب وبعض الأزمات الدولية- ضالتها في العالم العربي والإسلامي، خاصةً بعد دخول العراق للكويت وأحداث 11 سبتمبر/ ايلول، فانزلقت المنطقة إلى التطرف والأصولية في ظل تراجع المد القومي واليساري كنتيجة طبيعية لانهيار الاتحاد السوفييتي، فكانت الأحداث مواتية للتدخل الأمريكي لترسيخ النفوذ والهيمنة.
وفي موازاة هذه التطورات، طُرح مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي يرفع شعار التغيير والدمقرطة، وبما أنّ منطقة الشرق الأوسط تتكون من ثلاث كتل جيوبوليتيكية؛ الكتلة التركية؛ الكتلة الإيرانية؛ والكتلة العربية، وبما أنّ الكتلتين الأوليين، أي تركيا وإيران، كل منهما أمة- دولة، فلم تتبق سوى الكتلة العربية المستهدفة بهذه المشاريع الرمادية، كتلة لم تحسم السؤال المصيري بعد، “مَنْ نحن؟”، كما أنّ هذه الكتلة منقسمة على نفسها، فثمة صراعات تاريخية وحاضرة على الزعامة بين عواصم عدة وهي مكة ودمشق وبغداد والقاهرة، وثمة صراع من نوعٍ آخر، بين العوائل المالكة نفسها وأقطاب النظام الواحد، لذا فهذا التشظي يسهل من مساعي إلحاقها في النظام الجديد.
الإمبراطورية ومجتمع الاتصالات:
تؤكد الراحلة حياة الحويك في كتابها الفريد، أنّ النظام الإعلامي الجديد يعد أحد روافع النظام العالمي الجديد، ومن أهم الأسلحة لترسيخ دعائمه ومد نفوذه وتحقيق مشاريعه، فشعار دعاة العولمة الإعلامية هو “العالم سوق واحدة” ولا خيار سوى “الخصخصة” و”الدمقرطة” و”الأمركة”.
وتقول الحويك إنّ الميديا وسيلة التحكم الأمريكي بالتغيير منذ عام 1958م، وتضيف: “إنها الحرب العالمية الثالثة التي أحلت وسائل الإعلام محل القوات المسلحة موكلةً إلى الميديا مهمة الهجوم في حين تركت للأولى مهمة الردع”. حربٌ تعود لا بهدف الإلحاق بالقطب الغربي مقابل القطب الشرقي، ولكن بهدف إلحاق المنطقة بقطار العولمة، ولكن هذه المرة باستراتيجية مختلفة، فبعد تواضع نتائج مشروع “دانيال ليرنر” والذي طرحه بعد الحرب العالمية الثانية بكتاب “تجاوز المجتمع التقليدي: تحديث الشرق الأوسط” لتجاهل الدعاية الأمريكية عبر إذاعة “صوت أمريكا”، السياق المحلي- الجيولغوي ومقاومة الجمهور العربي ووعي القوى السياسية بمخططه، جاء دور الفضائيات العربية لتخدم مشروع الإلحاق، ومن ثم الترويج لقيم الاستهلاك والثقافة الأمريكية؛ ثقافة الماكدونالدز وهوليوود والميديا التجارية، إلحاقٌ لا يعني الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية فحسب، بل الإعلامية أيضاً، بدءاً من الفورمات ومروراً بالتكنولوجيا وليس انتهاء بتدفق المعلومات باتجاه واحد، تدفقٌ فشلت في إيقافه ما يعرف بمعركة “نوميك NOMIC” داخل اليونسكو، والتي سعت إلى إعادة التوازن لتدفق المعلومات.
أمام التطورات البنيوية هذه، تبدع ‘الحويك’ بتحليل جيوبوليتيكي عميق: “إذا كانت حاجة الإمبراطورية الأمريكية للبقاء تفرض الهيمنة على المناطق الإستراتيجية وفي مقدمتها الدول النفطية والشرق الأوسط، فإنّ حاجة الأنظمة العربية الغنية للبقاء تفرض عليها التكيّف مع العولمة ومتطلباتها، ومن هذه المُتطلبات: مجتمع الاتصالات”. تكيفٌ اقتصادي-سياسي- ثقافي- إعلامي بعضه جاء بالإرادة وبلا أية مقاومة أو اعتراض مثل مصر ودول الخليج، وآخرٌ جاء بالقوة كالعراق أنموذجاً.
عن أي تغيير نتحدث؟
إنّ التخادم والتقاء مصالح النظام العالمي الجديد من جهة، والأنظمة العربية من جهة أخرى، أدى إلى اجتماع الرأسمال الغربي مع الرأسمال العربي- وهو في غالبه ينتمي إلى الأنظمة الحاكمة- وكلٌ يبحث عن مصالحه، الأول يسعى إلى فرض العولمة، والثاني يخدم العولمة وأهدافها حتماً استجابة لرغبة أمريكا ولضمان بقائه في السلطة وتوفير الحماية له ولسلطانه، وهو ويوظف الذراع الإعلامية لإثبات وجوده في معركة الزعامة العربيّة ولعبة المحاور والتكتلات، وفي التجاذبات الداخلية أيضاً. وأتذكر الدكتورة ‘الحويك’ كانت تقول، إنّ ثلاث دوائر– أحلاف تسيطر على النظام العالمي لوسائل الإعلام المعولمة، الدائرة الأولى تشكل المجموعات العولمية الحقيقية ومعظمها أمريكية، والدائرة الثانية تضم شركات تمتلك نحو 13 وسيلة إعلامية مهمة تتدخل في السوق الإقليمية، والدائرة الثالثة تتكون من مئات الشركات التي تسيطر على السوق المحلية، والتي تخدم بالضرورة شركات الدائرتين الأوليين.
تتوقف ‘الحويك’ عند عبقرية الأنظمة العربية عبر التمويه بإنشاء فضائيات خاصة بعد أن سئم الجمهور خطاب القنوات الحكومية، ولكن في حقيقة الأمر أنّ رأسمال الفضائيات يعود سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لذات الأنظمة المهيمنة، ومصداق ذلك أنّ عينة أطروحة ‘الحويك’ “الجزيرة” و”أبو ظبي” تمول من قبل الحكومة و”العربية” من قبل العائلة السعودية المالكة و”المنار” من قبل حزب سياسي، وهذا يعني أن تمويل المحطات الأربع يأتي من قبل النظام القائم System، فعن أي تغيير نتحدث؟ وعن أي مشروع؟ وهل التغيير أصلاً يخدم الأنظمة القائمة؟ تتساءل ‘الحويك’.
وتذهب المفكرة الراحلة إلى أكثر من ذلك، بالقول: “لم يكن بإمكان المحطات والباقات السعودية أن تستجيب لمتطلبات العولمة والليبرالية وهي تبُثُّ من المملكة، لذلك كان لا بدّ من إطلاقها من أوروبا، وعندما عادت لتتوطن في العالم العربي، لم تعد إلى المملكة، بل توزعت على دول مثل الإمارات والأردن ولبنان ومصر”.
فضائيات.. السلطة:
بعد تحليل مضمون وخطاب 70 ساعة من أرشيف القنوات، واستناداً على مئات الوثائق والمقابلات، توصلت ‘الحويك’ إلى جملة استنتاجات، منها أنّ البرامج الحوارية وشعار “الرأي والرأي الآخر” والذي شكل ظاهرة جديدة في الفضاء العربي، لم ينعكس إيجاباً على الواقع، ولم تساهم في حضور النقاش الحر بالساحة العامة، ولم تعبد الطريق لخلق فضاء عام وبالتالي رأي عام، وهذا يعود إلى أسباب عدة منها سوء اختيار الضيوف وإدارة الحوار وإقصاء قضايا جوهرية وتهميشها ومنها السيادة والتعليم والأمية وحقوق الإنسان والحريات المدنية والسياسية وتوزيع الثروات والفساد وتواجد القواعد الأجنبية.. فضلاً عن اللجوء لأساليب التلاعب والتحوير والتضليل، فالهدف هو التحكم وإثارة الغرائز وإطلاق المكبوتات لا إطلاق العقل النقدي الديكارتي.
في أيلول/ سبتمبر عام 2017م، سألت الدكتورة ‘الحويك’ عن سبب تعدد الفضائيات العربية، ولكننا نجد في المقابل معظم الأنظمة العربية شمولية وخطابها الإعلامي ذات لون واحد: فأجابت: “لأن الفضائيات التي أُسّست منذ بداية التسعينيات لم تخرج عن إطار ملكيات السلطة، ولكنها خرجت في الظاهر عن طريق أسماء خُيّل للناس أنها لا تتبع السلطة، وتفاؤلنا بإمكانية خروجنا من إعلام السلطة وإعلام الرأي الواحد ومن دكتاتورية المرسل لم يكن في محله للأسف”.
لا “أنا” ولا “نحن” بل “نحنوات”:
يعد القسم الثالث في كتاب ‘الحويك’ من أهم الإسهامات الفكرية، حيث انشغل في شعار “الدمقرطة” الذي رفعته وسائل الإعلام المعولمة، برؤية سوسيولوجية تقوم على معادلة “الفرد- المواطن” و”النحن- المجتمع- الوطن- الدولة”. معادلة لا تتشكل الديمقراطية إلا بها، أي ببلورة شخصية الفرد- المواطن، والمجتمع- الدولة، أي دولة الحق والقانون.
تشدد ‘الحويك’ على أنّ تبلور الـ”أنا” القادرة على ممارسة خياراتها العقلانية، وتبلور الـ”نحن” الاجتماعية والوطنية الحاضنة، لكل التعدديات والتنوعات، اصطدم في العالم العربي- ولا يزال- بمعوقات تتمثل بهويات فرعية وتجزيئية ودينية ومذهبية وإثنية وقبلية وعشائرية، كما أنه لا يزال يفتقد إلى سيادته الوطنية قبل الحديث عن دولته- الأمة، وما زاد من حدة هذه الإشكالية، هو غياب الفضاء العام في العالم العربي، بسبب منع وقمع الجدل العام.
وما الجديد في ذلك؟ تؤكد ‘الحويك’ أنّ التماهي بين النظام العالمي- الإعلامي الجديد وترجمته في المنطقة، أدى إلى امتلاء المشهد السمعي والبصري، بخطاب غرائزي لا عقلاني يحول دون تشكل الـ”أنا”، وبخطاب يعمل على تجزيء المجزأ ويحول دون تشكل الـ”نحن”، فالفاعل الخارجي يرسخ مناخ صراع الحضارات، والفاعل الداخلي يعمل على تأجيج صراع المذاهب والطوائف والإثنيات، في عملية تخادم بين “عولمتين”، عولمة يرفع شعارها دعاة الحداثة، وعولمة أخرى إسلاموية- أصولية، وكل واحدة تعتاش وتعتمد على بقاء الأخرى، أما الضحايا فهم الفرد والمجتمع والدولة، وبدل الـ”نحن” بات لدينا “نحنوات”، فالفرد تقوقع على نفسه وعاد إلى انتماءات ما قبل المجتمع السياسي، حيث الدين والطائفة والعرق والقبيلة.
* صحافي وباحث عراقي
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.