الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

من بيروت إلى باكو: لبنان الكبير ومؤتمر شعوب الشرق

وسام سعادة *

الأوّل من أيلول 1920 قبل مئة عام. حرب الاستقلال الوطني التركية في أوجها. الاجتياح اليوناني المواكَب بريطانياً للأناضول الغربي يتمدّد. من أزمير إلى بورصة، ومن كوتاهيا إلى إزنيق.

في الموازاة، يترنّح التحالف الفرنسي ـ الأرمني على جبهة كليكيا، المسمّاة أيضاً «أرمينيا الصغرى». لقد تخلّى الفرنسيّون بقيادة الجنرال غورو عن الأرمن في مرعش مطلع العام، في مقابل حصولهم على ممر آمن لانسحابهم. أنزلت بالأرمن مجازر جديدة إثر ذلك. باتت المواجهة في صيف 1920 تتركّز حول عنتاب. عشرات آلاف المهجرين من الأرمن ينزحون جنوباً مع كل انسحاب فرنسي. مخيمات اللجوء تتشكّل، بخاصة حول بيروت. «فوبيا» عابرة للطوائف في المدينة تتصاعد مع تزايد أعداد اللاجئين الأرمن. مطالبات بإبعادهم عن مركز المدينة (الأحياء التي دمّرها انفجار المرفأ مؤخراً)، إلى الشرق من نهر بيروت.

في ذلك الصيف استكمل الفرنسيون احتلالهم لسوريا، بالتزامن مع انكفائهم التدريجي من كيليكيا. يرمز مفوضهم في الشرق الجنرال هنري غورو إلى كلا الأمرين. هو الذي خسر ذراعه اليمنى في معركة الدردنيل، النصر الملحمي للعثمانيين في ذروة الحرب الكبرى، نجده يحمل خطابه باليسرى ليلقيه في الأول من أيلول من أمام قصر الصنوبر، مقرّ إقامته، في بيروت، وهذا القصر شيد في الأساس كنادي ميسر مغلق للطبقة العثمانية المحلية.

إلى يمين غورو في الصورة، يجلس البطريرك الماروني الياس الحويك، والى يساره مفتي بيروت وشيخ الطريقة الشاذلية فيها مصطفى نجا، المفتي الشافعي لولاية لم تعد موجودة في دولة عثمانية لم تكن قد فضّت بعد، ويلتزم إسلامها رسمياً، المذهب الحنفي.

حيّا غورو هذه الجمعة المتعدّدة حوله، لكنه شدّد في نفس الوقت على أنّ الكيان الوليد سيهيمن عليه جبل لبنان. بإعلانه هذا، كانت متصرفية «الجبل» ذات الغلبة المسيحية تتوسع على حساب ما كان سابقاً لولايتي الشام وبيروت. وفي حين جعل غورو من دمشق واحدة من الدول الإدارية المختلفة التي أعلنها في سوريا، كانت ولاية بيروت، نموذجية التحديث العثماني المتأخر، هي المفقود الأكبر.

ليس صحيحاً أنّ الفكرة (الجبل) لبنانية لم تكن موجودة قبل اعلان قصر الصنوبر هذا، فهي موجودة بشكل تراكمي منذ انسحاب جيوش ابراهيم باشا عن الجبل، وانتهاء أمد الإمارة الشهابية، ولو أنّ الأيديولوجيا التي واكبت الفكرة اللبنانية قامت أساساً على تصوير الإمارة الشهابية على أنّها تجسيد للوطنية اللبنانية، قبل أن تغالي هذه الأيديولوجيا أكثر فأكثر، وتمدّ جذورها إلى إمارة المعنيين (الدروز) قبل الشهابيين (السنّة)، بل إلى ما قبل المعنيين أكثر فأكثر.

لكن المشكلة بين «متصرفية الجبل» وبين «ولاية بيروت» سابقة على مجيء هنري غورو إلى الشرق. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، والولاية تتصرّف على أنّ الجبل سنجق له وضع خاص من بين سناجقها، هو الذي يفصل مركز هذه الولاية، أي نطاق مدينة بيروت، عن ألويتها الممتدة على طول الساحل الشرقي للمتوسط. أما الحركة «اللبنانوية» الناشئة في المتصرفية، كما بين جزء من مسيحيي بيروت، فكانت تمنّي النفس بتوسعة ذلك الكيان الذاتي ليشمل بيروت نفسها، أي مركز الولاية المجاورة.

بشكل أو بآخر، أسكت غورو حركة «الجيئة والذهاب» هذه بين كيانيتي «المتصرفية» و«الولاية» على الأمد الوجيز لصالح المتصرفية، ليتبين لاحقاً أنّ الأمور أكثر تركيباً، مع نمو وتوسّع مدينة بيروت على حساب الجبل.

بالتوازي، ومنذ الفترة العثمانية المتأخّرة كانت الجمهورية الثالثة الفرنسية تجاهر بأنّ «العلمانية ليست للتصدير» شرقاً ولا إلى المستعمرات، وتتكئ على الإرساليات في توسعة نفوذها في البلاد الشامية، نفس الإرساليات والرهبانيات التي قوّضت حرية عملها على الأرض الفرنسية.

أما مع الإنتداب، فكان الفرنسيون أكثر قلقاً من الموارنة أنفسهم على النسب الديموغرافية في الكيان اللبناني الموسّع، في حين تعامل الموارنة مع هذا الأمر على أنّه تحصيل حاصل، وأبدوا في السنوات الأولى للكيان قلقاً أكبر حيال نسبة المسيحيين من غير الموارنة في هذا الكيان (وحيال هجرة الأرمن)، قياساً على القلق من نسبة المسلمين فيه (رغم كثافة حضور هذه المسألة عند إميل إده، الذي ظلّ يطالب بمراجعة حدود الكيان، وبوضع خاص لمدينة طرابلس، بضمها مسلميها إلى سوريا، ومسيحييها إلى لبنان). وفي حين كان المرغوب عند الكنيسة المارونية أن يعود الموارنة الذين هاجروا في العصر العثماني إلى بلادهم الموسّعة، تبيّن أن نسبة الهجرة المسيحية تزداد ارتفاعاً في بداية العشرينيات باتجاه الأمريكيتين، ولم يعتدل الأمر إلا مع أزمة 1929 الاقتصادية الكبرى.

في الأول من أيلول 1920 أعلن الجنرال غورو توسعة كيان، متصرفية جبل لبنان، والغاء آخر، ولاية بيروت، بعد أن جعل من عاصمة الكيان الملغى عاصمة للكيان الموسّع، ممهّداً بشكل لاواعي السبيل لظهور كيان له رأس أكبر من جسمه، إنما هو رأس تتكثف فيه تناقضات كل «أجسامه».

في اليوم نفسه الذي أعلن فيه المستعمر ما أعلن، كان مفوضو الأممية الشيوعية يتوافدون على عاصمة أذربيجان. خمسة أيام استغرقتها رحلة القطار من موسكو إلى باكو، ولم تكن الحرب الأهلية الروسية قد وضعت أوزارها بعد. تقريباً في نفس الساعة التي أعلن فيها غورو ولادة لبنان الكبير، كان قيادي الأممية زينوفييف يفتتح أعمال «مؤتمر باكو لشعوب الشرق» في حضور 2850 مندوباً، القسم الأكبر منهم من مسلمي الإمبراطورية الروسية، مع وجود كتلتين بارزتين عددياً للأتراك من جهة، وللمندوبين الأرمن والجيورجيين من جهة ثانية.

بخلاف أذربيجان، التي كانت تحت سيطرة البلاشفة في ذلك العام، لم تكن أرمينيا وجيورجيا تحت السلطة السوفياتية بعد. ما سيحصل في الأشهر التالية.

في اليوم نفسه، وقف غورو يترجم سياسة الجمهورية الفرنسية القائمة على أن علمانيتها ليست للتصدير إلى المستعمرات، وأخذ زينوفييف يترجم فكرة موازية: البلشفية ليست بضاعة للتصدير كما هي إلى الشرق، ويلزم تهجينها مع الجهادية الإسلامية ضد الاستعمار.

المدهش في باكو يومها، كان حضور قيادي الاتحاد والترقي، ووزير الحربية العثماني أنور باشا إلى جانب البلاشفة، وبخطاب ألهب مشاعر المندوبين المسلمين في القاعة، وأغاظ المندوبين الأرمن. كان هذا قبل أن يدرك أنور بأنّ البلاشفة يفضلّون دعم حركة مصطفى كمال في الأناضول، ويلتزمون مساعدة كمال أيضاً بإبعاد أنور إلى بخارى بدلاً من السماح له باستعادة نفوذه داخل الأناضول. في بخارى، كان على أنور أن يساعد البلاشفة على حركة التمرّد، لكنه اختار بدلاً من ذلك قيادة حركة التمرّد التركستانية على البلاشفة بنفسه، ولقى حتفه عام 1922 على يد الجيش الأحمر (أما رفيقه جمال باشا «السفاح» في الذاكرة اللبنانية والسورية، فقد تحوّل بعد هزيمة تركيا الفتاة إلى مستشار للملك الأفغاني، وضابط ارتباط بين الأفغان والسوفيات إلى أن اغتيل في تفليسي عام 1922 أيضاً على يد ثوار أرمن).

لم يكن الأول من أيلول 1920 مجرد يوم جامع بين هذين الحدثين، مؤتمر باكو لشعوب الشرق ضد الاستعمار – انما تحت راية الإمبراطورية الروسية المتجددة، واعلان الاستقلال من قصر الصنوبر – انما تحت راية الاستعمار الفرنسي. قدّم البلاشفة باكو على أنّها همزة الوصل بين الإمبراطورية الروسية والشرق الإسلامي. وتكفّلت ولادة الكيان اللبناني سريعاً بسردية همزة وصل موازية بين الشرق والغرب. همزتا وصل، واحدة استعار فيها زينوفييف بعضاً من عنديّات الجهاد الإسلامي، تلويناً لمذهب البلاشفة في المسائل الشرقية، ان لم يكن تلبيساً لإعادة إحياء تقاليد الإمبراطورية القيصرية نفسها تجاه الشرق. وهمزة ثانية، أطلق فيها غورو العنان لنوستالجيا صليبية في لحظة متقطعة، قبل أن يدرك المستعمر الفرنسي قبل سواه أن أموره في المشرق تقتضي مسلكاً أكثر حنكة من ذلك: فإن كانت علمانيتهم غير معدّة للتصدير، فعواطفهم تجاه المسيحيين ليست هي أيضاً المعيار المركزي الأوحد لبناء سياسات المرحلة الاستعمارية، أو بمعنى آخر، هندسة المفارقات اللبنانيةـ والسوريةـ المتواصلة إلى يومنا هذا.

* كاتب لبناني

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.