معقل زهور عدي
في خطابه الإحتفالي بضم اقليم الدونباس بمقاطعاته الأربع، وبدلاً من التهديد، عرض بوتين بطريقة غير مباشرة صفقة على الغرب.
هو يقول: بالنسبة لي أعتبر أنني حققت هدف الحرب بفصل إقليم الدونباس عن أوكرانيا وضمه لروسيا, لم أعد أريد شيئاً آخر, بقية أوكرانيا لا تهمني, اتركوا لي اقليم الدونباس وتنتهي الحرب. فقط عليكم أن توقفوا إمداد أوكرانيا بالسلاح, وبدون سلاحكم سيحاربون لمدة قصيرة, ثم يكتشفون أنهم لا طاقة لهم بالجيش الروسي, وبعدها لا بد لهم من توقيع اتفاق سلام معنا أو التوقف عن القتال بموجب اتفاق هدنة يستمر عشرات السنين مثلما هو الحال بالنسبة لاتفاق الهدنة بين كوريا الشمالية والجنوبية, أو اتفاق الهدنة بين لبنان وسورية واسرائيل . هكذا لا يعود ضرورياً الخوف من الحرب النووية ولا من فقدان الغاز والنفط الروسي.
فقط الشيء بالشيء يذكر: فكيسنجر في تصريحاته الأخيرة حول روسيا وأوكرانيا، كان يرى أنه لا بد من منح روسيا شيئاً في النهاية, رغم أنه يتنبأ بفشل الحملة العسكرية الروسية وبخروج روسيا من الحرب أضعف مما كانت عليه.
لكن من الواضح أن عرض بوتين لا يدعمه الموقف الميداني للجيش الروسي, بالتالي لن يصادف عرضه القبول بالنسبة للغرب, مثلما لن يصادف طلب أوكرانيا الانضمام للناتو القبول باعتباره يعني الدخول في مواجهة مباشرة بين الناتو والجيش الروسي، في حين مازال ذلك الدخول في مواجهة مباشرة خطاً أحمر للغرب، وسيبقى كذلك مادامت روسيا لم تلجأ للسلاح النووي على الأقل. لكن ما يفعله الطلب الأوكراني بالانضمام للناتو أنه يُشعل الضوء البرتقالي لروسيا في أن أي استخدام للسلاح النووي ربما يستدعي سحب الطلب الأوكراني من درج الطاولة ووضعه في التنفيذ. روسيا ستجمع قواها العسكرية التقليدية لدفع الأوكرانيين خارج اقليم الدونباس الذي أصبح روسياً منذ اليوم . وسيستغرق ذلك وقتاً يطول أو يقصر, تستطيع روسيا خلاله تحمل الخسائر على أن لا تأخذ هيئة انهيارات تشبه ما حصل في خاركيف, وسيعطيها ذلك الوقت الفرصة لفتح أقنية مفاوضات تحت الطاولة مع الولايات المتحدة وأوربا للبحث في الصفقة السياسية التي ستُنهي الحرب والتي يعرف الجميع أن لا بد منها في النهاية.
صحيح أن خطاب بوتين أبعد مؤقتا شبح استخدام الأسلحة النووية, لكنه لم يشطب ذلك الاحتمال. مع ذلك فهناك المفاجئات التي لا بد من أخذها بالاعتبار, فالحروب لا تسير حسب ما يرسمه هذا الطرف أو الطرف الآخر, واحتمال سيرها بطريق ثالث يبدو في كثير من الأوقات الاحتمال الأكبر. وكما يقول فيلسوف الحرب الألماني “كارل فون كلاوتفيتز” فللحرب قوانينها الداخلية الخاصة, وتلك القوانين تبعدها باستمرار عن محاورها وأهدافها الأصلية .
لا شك أن الأشهر الماضية حملت معها معاناة أوربية ثقيلة, فبدائل الغاز الروسي رفعت سعر الغاز بشكل كبير جداً وصل إلى سبعة أضعاف سعره في الولايات المتحدة مما يهدد الاقتصاد الأوربي بالركود وهناك أعباء إيواء ما يقارب من أربعة ملايين لاجئ أوكراني نزحوا لمختلف البلدان الأوربية, كما أن هناك ما يقارب ستة ملايين أوكراني تركوا منازلهم وبلداتهم ونزحوا داخل أوكرانيا إلى أماكن أكثر أمناً وهم أيضاً بحاجة للمساعدة. وتفرض الحرب الأوكرانية على الاتحاد الأوربي تقديم مليارات من اليورو لدعم الاقتصاد وتقديم السلاح. وفضلاً عن ذلك فالمخاوف من امتداد الحرب لأوربا والتهديدات النووية وضعت الشعوب الأوربية بحالة من الذعر لم يعتادوا عليها منذ الحرب العالمية الثانية.
تشبه الحرب الأوكرانية سكيناً ذات حدين, فمثلما صار واضحاً أنها تفتقر في روسيا لتأييد قطاع واسع من الشعب الروسي, وتشكل طوابير السيارات على الحدود الروسية- الجورجية والتي وصل طولها لعشرين كيلومترا دليلاً دامغاً لنفور الروس من تلك الحرب وعدم استعداد الشباب الروسي للتضحية من أجلها, فهي ليست حربهم بمقدار ما هي حرب بوتين .ومثلما تؤلم العقوبات الاقتصادية الاقتصاد الروسي وتلتف كحبل حول رقبته, فهي تؤلم الاقتصاد الأوربي وتخلق رأياً عاماً مضاداً للحرب. بدون شك فإن تلك الضغوط من الجانبين ستدفع باتجاه إيجاد حل سياسي لإنهاء الحرب. لكن كل الدلائل تشير إلى أن الوقت ما يزال مبكراً للوصول لمثل ذلك الهدف, و حين يضم بوتين واحداً من أهم أقاليم أوكرانيا وأغناها بالفحم والمعادن والصناعة فهو لا يدفع باتجاه الحل السياسي بقدر ما يدفع باتجاه تصعيد الحرب ونقلها لأبعاد أكثر خطورة من أي وقت .
المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل
التعليقات مغلقة.