سلام مسافر
(1)
أبعد من واشنطن، يذهب حماس لندن للحرب في أوكرانيا الموصوفة روسيا لماذا تندفع بريطانيا طليقة الإتحاد الأوربي والسوق الأوربية المشتركة الى حد ان وزيرة الخارجية ليز تراس تجاهر القول” لن نتفاوض الا بعد هزيمة بوتين” في حين يغدق الانكليز ، الذين لم يعرف عنه الكرم، الأسلحة والأموال على كييف، وسط ممانعة وتردد دول القرار في القارة العجوز ؛ فرنسا والمانيا.
مع ان قمة السبعة الكبار في بافاريا الألمانية ؛ أظهرت صورا للوفاق والتفاهم بين المشاركين وأحاديث ونكات، بعضها يبز ما كان عضوا في المجموعة، فلاديمير بوتين، الا ان نتائج قمة بافاريا؛ عكست خلافا مزمنا حول الملف الاوكراني بين فرنسا والمانيا من جهة والجماعة الأنجلو سكسونية من جهة اخرى.
لندن وواشنطن واتاوا، ينتمون الى حزب” النصر” الداعي الى هزيمة روسيا والقضاء على بوتين واستبعاد كل احتمالات الحوار والتفاهم؛ فيما برلين وباريس تدعوان الى دفع كييف نحو تقديم تنازلات لموسكو والاعتراف بالأمر الواقع وعدم حشر الكرملين في الزاوية وتقدير خطورة وقوة الدولة النووية.
على مدى شهور الحرب الاربعة، أتقن شولز لعبة تمييع الوعود مع كييف: فيما برع المصرفي ماكرون في مداراة حوارات هاتفية أو عبر الدائرة المغلقة مع بوتين؛ تزيد احيانا لم تحمل لا المكالمات ولا الضغوط بوتين او زيلينيسكي على التراجع عن موقفين متعارضين تماما الى الان.
موسكو تواصل عمليتها العسكرية بريا في إقليم دونباس، محققة نتائج تدريجية، وكييف تصر على التصدي رغم الخسائر الكبيرة في العدة والعتاد، وترفض مجرد الحديث عن التفاوض.
لا يلتفت زيلينيسكي الى نصائح ماكرون وتنويهات شولز بضرورة التنازل ووقف القتال، ولا يهتم بوتين لمسلسل الحظر والعقوبات وقد تجاوزت الستة الاف؛ وتدك الصواريخ الروسية في اهدافا في كييف و خاركوف كل يوم تقريبا .
واذا صدقت الأرقام فان الخسائر البشرية لدى الطرفين تزداد يوما بعد يوم دون تحقيق مكاسب مهمة على الأرض تتناسب مع حجم التضحيات خاصة بين صفوف القوات الاوكرانية التي لا يخفي قادتها وفي مقدمتهم القائد الاعلى للقوات المسلحة فلاديمير زيلينيسكي،انها بلغت من ستين الى مئة عسكري في اليوم الواحد.بينما يحجم الناطق الروسي عن ذكر الخسائر.
الواضح ان الجهد العسكري الروسي يفوق القدرات الاوكرانية عشرات الأضعاف من حيث عديد القوات الروسية المشاركة في الحرب الطاحنة او لجهة العتاد والسلاح في بلدٍ يعد ثاني أكبر منتج و مصدر للسلاح في العالم ويمتلك ثروات ووفرة في المصانع الحربية لا تقل عن نظيراتها الأميركية، وتتفوق في بعض المجالات .
لا يمكن للصادرات الأوربية الشحيحة الى أوكرانيا معادلة القوة الروسية المتفوقة. في حين تتأخر إمدادات السلاح من وراء المحيط وفقا لبرنامج المساعدات الأميركية السخي شكلا، المقيد بإجراءات بيروقراطية ومشاكل لوجستية لا تضمن وصول المعدات الثقيلة الى الاراضي الاوكرانية ودخولها الخدمة قبل ان تعالجها الصواريخ الروسية الموجهة بالأقمار الصناعية.
ليس مصادفة ان ترتفع اصوات معروفة في الولايات المتحدة، تحذر من مغبة الاستغراق في وهم انتصار أوكرانيا على روسيا، بتناسق مع دعوات ماكرون وشولز ومعهما الرئيس الايطالي دراغو، الى كييف بالعودة الى المفاوضات وتقديم تنازلات على الأرض.
ويعكس السياسي الثعلب هنري كيسينغر، راي النخبة التي توصف بالواقعية في المؤسسة الاميركية حين يدعو كييف، الى الرضوخ والتنازل عن إقليم دونباس بجزئية لوغانسك ودانيتسك، والاعتراف بملكية روسيا لشبه جزيرة القرم والقبول بالهدنة .
تجدر الإشارة الى ان أراضي دونباس الزاخرة بالمعادن والثروات الزراعية والفحم، تمثل ربع مساحة أوكرانيا السوفيتية، وتعد أهم منطقة صناعية في الجمهورية التي يقول بوتين إنها دولة مرقعة لزّقها زعيم البلاشفة فلاديمير لينين من مقاطعات متناثرة.
في ضوء هذه المواقف المتباعدة بين دول القرار الأوربي والحليف الاطلسي، يبدو غريبا موقف لندن شديد الحماس لمبدا” النصر او الموت” ،لا سيما وان كييف تنصت لجونسون وليس لشولز وماكرون.
ماذا وراء الانكفاء الأوربي إزاء اوكرانيا والاندفاع الانكليزي الغريب ؟
يشيع تصور؛ تكرس أكثر بعد الغزو الأميركي للعراق، ان بريطانيا العظمى جرو في حضن الكلب الاميركي كما في الكاريكاتير الشهير على الصفحة الأولى لإحدى كبريات الصحف البريطانية يظهر الجرو توني بلير فاغرا فاه بوجه الكلب جورج بوش.
ان صورة البريطاني المهزوم في إمبراطورية ما كانت لتغيب عنها الشمس حتى أواسط القرن الماضي، يعكس الرؤية الراسخة للدور الأميركي المتعاظم في العالم على حساب تراجع بريطاني بدأ منذ فشل العدوان الثلاثي ( بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) على مصر عام 1956 وانسحاب بريطاني منتظم من شرق المتوسط تتوج بسقوط حلف بغداد وخروج العراق من منطقة الاسترليني على يد نظام الضباط الاحرار عام 1958.
بيد ان هذا الاعتقاد، لا يصمد كثيرا أمام تواتر الاحداث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار التحالف على ألمانيا النازية وكانت حكومة تشرشل عصبا رئيسا في تشكيل ذلك التحالف الذي ضم الاتحاد السوفيتي، الدولة الشيوعية الأولى في التاريخ التي دعمت حركات التحرير الوطني في المستعمرات البريطانية السابقة، وقدمت لها السلاح ووقفت مع البلدان حديثة الاستقلال في المحافل الدولية.
وعلى مدى سنوات الحرب العالمية الثانية وتحديدا بعد دخول بريطانيا وتصديها لزحف جيوش الفوهرر في اوروبا؛ برز الدور القيادي لحكومة صاحبة الجلالة التي حصلت على مساعدات غير محدودة من الولايات المتحدة وتقاسمتها مع العدو الأيديولوجي الاتحاد السوفيتي بزعامة المارشال ستالين الذي حين اجتمع مع نظيريه الأميركي والبريطاني في يالطا ومن ثم في طهران، لم يخف إعجابه برئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل رغم كل المناكفات ذات البعد الايديولوجي معه.
سر حماس لندن للحرب في أوكرانيا (2)
كان تشرشل قبل الاميركي روزفلت أول من أطلق العنان لرياح الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي في خطابه الشهير أمام مجلس العموم البريطاني، متهما موسكو بمحاولة الاستيلاء على الدول و نشر الشيوعية عبر منظمة(كومنفورم) للتنسيق بين الأحزاب الشيوعية في العالم، وقاد الرئيس الأميركي ترومان حملة عالمية لمكافحة الشيوعية؛ أنفقت عليها الولايات المتحدة ملايين الدولارات على الجبهات الإعلامية والسياسية والعسكرية.
وفي فترات الانفراج بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفيتي؛ حافظت لندن على مواقف متشددة مع موسكو امتدادا للمخاوف البريطانية القديمة ، من التوسع الروسي بغض النظر عن قرابة الدم بين الأسرة المالكة في باكنغهام وال رومانوف اخر القياصرة الروس الذين أطيح بهم عام 1917 وقتلوا ببشاعة، دون ان يهب الاخوال الانكليز لنجدتهم.
لم تجد سياسة الوفاق التي اختطتها القيادة السوفيتية بزعامة بريجنيف أصداء قوية في 10 داون ستريت، خلافا للبيت الأبيض.
وكانت لندن أول عاصمة قرار دولي يزورها عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، بعد صعوده الى قيادة الحزب متميزا بحيوية الشباب وسط رهط من عجائز الحزب،بامينه العام قسطنطين تشيرنينكو الذي أختار غورباتشوف مبعوثا الى السيدة الحديد وحظي بإعجاب مارغريت تاتشر ، فاطلقت تصريحها الشهير” مع ميخائيل يمكن التفاهم”.
لاح ان رئيسة الوزراء البريطانية، قامت بحملة علاقات عامة في أروقة البيت الأبيض تروج للزعيم السوفيتي القادم المرن.
وشهدت موسكو منذ انفراط عقد الاتحاد السوفيتي؛ نشاطا بريطانيا يوازي وفي بعض الاحيان يتفوق على الحركة الأميركية داخل أروقة الكرملين، وسارع الإنكليز لفتح مراكز ثقافية في موسكو وبطرسبورغ وعدد من مدن روسيا مترامية الأطراف.
تحولت لندن الى كعبة الاولغارشيين من روسيا، وحصلوا بقرارات من صاحبة الجلالة على الجنسية البريطانية.
باعت بريطانيا ليس فقط نواد رياضية لأثرياء روسيا، بل و بعض كبريات الصحف والقنوات التلفزيونية ، وفتحت البنوك البريطانية خزاناتها للاموال المنهوبة من روسيا، ووجد اللصوص في حكومة جلالة الملكة حضنا دافئا على الدوام.
صار توني بلير ” جرو بوش” ضيفا شبه دائم في موسكو. يروج لأكاذيب البيت الأبيض حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وبعد غزو التحالف الانكلواميركي العراق واحتلاله ،حصلت الشركات البريطانية على حصة الاسد من العقود في العراق المحتل، واستعادت شركة لوك أويل الروسية عقدا ضخما لحقول غرب القرنة، كانت بغداد سحبته من الشركة احتجاجا على لقاء مبعوثين من موسكو في لندن مع رئيس حركة الوفاق العراقية أياد علاوي المتهم بالعمالة .
والى مطلع الألفية الثالثة سارت العلاقات الروسية البريطانية على طريق الشراكة وصارت الاستثمارات البريطانية في روسيا البقرة الحلوب تدر على الاقتصاد البريطاني المليارات الى ان تعرضت الى هزة عنيفة حين لجآ أحد أخطر عرّابي الخصخصة ونهب ممتلكات الدولة السوفيتية، بوريس بيريزوفيسكي، الى عاصمة الضباب بعد ان شغل حقبة يلتسين منصب سكرتير مجلس الامن الروسي وكان يوصف بانه” صانع الرؤوساء “.
قبل وفاتة الغامضة عام 2013، قاد بيريزوفيسكي حامل الجنسيات المزدوجة، نشاطا محموما من لندن ضد السلطات الروسية الى حد اتهامها بتفجير مبان سكنية في موسكو والصاقها بمواطنين من جمهورية الشيشان لتبرير الحملة العسكرية على الانفصاليين في ما بات يعرف (حرب الشيشان الثانية 1999-2009).
وتدهورت العلاقات الروسية البريطانية الى شبه قطيعة اثر وفاة العميل المنشق عن الاستخبارات السوفيتية الكسندر ليتفينينكو ، الذي موّل بيريزوفيسكي نشاطاته المعادية في بريطانيا ، واتهمت لندن الأجهزة الروسية بتسميمه؛ بعد صدور مذاكرات يزعم فيها ان انفجارات موسكو عشية الحرب ضد انفصالي الشيشان تمت بعلم بوتين.
ثم توالت فضائح التجسس بين البلدين، كان اخرها اتهام السلطات البريطانية لعميلين روسيين دخلا بريطانيا باسما مستعارة ،حاولا اغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكيريبال وابنته.
وفي ضوء مسلسل الفضائح والاتهامات، تقلص الحضور الدبلوماسي المتبادل بين موسكو ولندن الى أدنى المستويات.
في زيارة تمت بعد انقطاع في الاتصالات زاد عن العامين؛ تحدثت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس بقساوة تخلو من الدبلوماسية عن ان لندن ستقف بقوة ضد روسيا اذا” قررت الاعتداء على أوكرانيا”.
كان ذلك قبل بدء العملية العسكرية بأسبوعين تقريبا.
ولم يقصر نظيرها الروسي سيرغي لافروف، فصاع لها الصاع صاعين .
وما ان بدأت روسيا عمليتها العسكرية، حتى كان صوت بوريس جونسون الأكثر صخبا بين الأوربيين.
فقد سارع الى الاتصال بزيلينيسكي، وعقد اتفاقا عسكريا وسياسيا ثلاثيا يضم بريطانيا وبولندا وأوكرانيا بما يشبه ناتو مصغر بعد ان اعلنت واشنطن زعيمة حلف شمال الاطلسي ان الجمهورية السوفيتية السابقة لن تنضم في المديات القريبة والمتوسطة الى الحلف مهما ألحت كييف في الطلب.
ووجد” ميني ناتو” ترحيبا من واشنطن، وأبدى الانكليز كرما غير معهود وسخاء غريبا مع أوكرانيا وصل الى حد فتح حدود المملكة أمام تدفق اللاجئين الاوكرانيين، فيما تغلقها بوجه كل عباد الله الا لصوص العراق ومن لف لفهم.
اذا، لماذا هذا الحماس منقطع النظير لدعم أوكرانيا التي تزيد مساحتها مرة ونصف عن مساحة الجزر البريطانية؟
تدرك المانيا ومثلها فرنسا ان انتصارًا اوكرانيا على روسيا؛ يعني قيام دولة منافسة قوية وسط اوروبا،الثانية من حيث المساحة بعد روسيا ، بثروات طبيعية زاخرة ، ومعادن نادرة اراضيها الزراعية الشاسعة خصبة ومثمرة، الامر الذي يعني بداية النهاية للدور القيادي لكل من برلين وباريس في القارة العجوز التي قررت لندن، التغريد لها عن بعد عقود من الشراكات على مختلف الأصعدة.
لندن، بدهاء انكليزي تقليدي، تسعى لاحتواء أوكرانيا الضخمة في حلف يضم كل أعداء روسيا القدامى والجدد وفي المقدمة بولندا التي صارت راس جسر لحلف الناتو، تنتقل منها الأسلحة الفتاكة الى أوكرانيا وبتنسيق استخباري شبه معلن مع لندن التي تحتل تقارير استخباراتها عن سير العمليات العسكرية الخبر الاول في نشرات الأخبار العالمية.
يندفع البريطانيون حيثما يجدون المصلحة، وليس عبثا ان مقولة السياسي الإنكليزي هنري جون تيمبل فيسكونت بالميرستون (1784-1865) المنسوبة عربيا بالخطأ الى تشرشل ” لا توجد عداوات دائمة ولا صداقات دائمة بل توجد مصالح دائمة” هي دليل عمل البراغماتية السياسية في العالم . سياسة يتقنها (أبو ناجي)* اكثر من غيره، وغالبا ما يختفي في الدهاليز على طريقة شارلوك هولمز .
وصف كارل ماركس رئيس الوزراء البريطاني الخامس والثلاثين في تأريخ بريطانيا الفكتورية وقبلها وزيرا للدفاع ومن ثم الخارجية؛؛
: “كونه محافظًا بالولادة ؛ ومع ذلك فقد تمكن من صناعة شبكة اكاذيب تشكل جوهر النزعة اليمينية في إدارة الشؤون الخارجية. إنه يعرف تمامًا كيف يجمع بين العبارات الديموقراطية ووجهات النظر الأوليغارشية ، يعرف كيف يخفي سياسة السلام التجاري للبرجوازية وراء اللغة المتغطرسة للرجل الإنجليزي الأرستقراطي في العصور القديمة ؛ يعرف كيف يظهر مهاجمًا عندما يكون في الحقيقة مدافعا ، انه يتمسكن كي يتمكن ؛ إنه يعرف كيف يخلق عدوًا وهميًا بمهارة كي يدفع حليفه الى اليأس. يعرف كيف يأخذ جانب الأقوى ضد الأضعف في اللحظة الحاسمة، يجيد فن الهروب من العدو ،ثم يسطر جملا جذابة بصوت عال وجريء”.
صاغ رئيس الوزراء البريطاني في العصر الذهبي الفيكتوري، بالميرستون ( دبلوماسية مدفع الاسطول)، قاوم الانتفاضات الفلاحية في دول الجوار وتحالف مع تركيا ضد روسيا في حرب القرم معتبرا استيلاء القيصر الروسي على شبه الجزيرة بداية الطريق نحو إحتلال روسيا للهند .
أدرك بالميرستون الذي بدأ حياته مصمم أزياء وممثلا كوميديا في مقاهي لندن ،الدور المفصلي الجيوسياسي لتركيا، وتعامل وفق مبدأ المصالح الدائمة مع ” المسألة الشرقية” وخلاصتها تقاسم ممتلكات الدولة العثمانية مستفيدا من ( الرجل المريض) في صياغة تحالفات متغيرة وفق حاجة التاج البريطاني وبقي في سدة الحكم حتى الممات عن 81 عاما في مكتبه، وبذلك كان آخر رئيس وزراء بريطاني غيبه الموت عن الحكم وليس البرلمان .
تملك لندن إرثا ضخما من التلاعب بمصائر الدول، صغيرها وكبيرها؛ خدمة لمصالحها الحيوية، وتفضل العمل في الظلام على ان تظهر نواياها الى العلن.
تدرك بريطانيا ان قيام روسيا قوية ذات طموحات جيوسياسية خارج الحدود، يعني اضمحلال الدور البريطاني في اوروبا أولا وفي العالم تبعا . ولا يوجد اليوم أفضل من أوكرانيا لاستنزاف روسيا ولو على حساب خسائر إقتصادية غير مسبوقة، وازمات متوقع ان تهز الشارع البريطاني رغم الحماس الشعبي العارم للمسألة الاوكرانية.
“ميني ناتو “واحياء العداوات التاريخية البولندية لروسيا على مدى قرون، واحقاد دول البلطيق المتراكمة على موسكو وتطلع دول اوروبا الشرقية للاندماج في ” الغرب المتحضر” ؛؛ تشكل في مجملها ( دبلوماسية مدفع الأسطول) الموجهة نحو روسيا.
سر حماس لندن للحرب في أوكرانيا (3)
دعا تشرشل قبل بدء الهجوم الهتلري على أوروبا، ستالين الى عقد تحالف ضد ألمانيا مؤكدا في رسائل سرية ان هتلر يستعد لحرب يثأر فيها من هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى التي أفضت الى تقاسم العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط بين المنتصرين، ولم تكن روسيا البلشفية من بينهم.
بيد ان الزعيم السوفيتي ظل يتعامل بحذر مع الإمبريالي البريطاني الذي دعم القوات المعادية للثورة البلشفية( حركة البيض) بزعامة القائد الاعلى لروسيا الجنرال الكسندر كولتشاك (1874-1920) رغم ان حكومة صاحبة الجلالة لم تهرع لإنقاذ ال رومانوف بعد ان عزلت حكومة ألكسندر كيرينسكي المؤقتة، نيكولاي الثاني عن العرش وسجنه مع أفراد أسرته إلى ان اعدمه البلاشفة عام 1918.
حين أدرك تشرشل ان قوات الثورة المضادة عاجزة عن دحر حكومة البلاشفة؛ تخلى عنها وصرح ان لينين وحده قادر على” إخراج روسيا من المستنقع الذي أوقعها فيه” ، وإن لندن جاهزة للاعتراف بالنظام الجديد وسط تجاهل الأسر الملكية الحاكمة في القارة العجوز لمصير آخر القياصرة الروس نيكولاي الثاني و التعتيم المطلق على ودائع روسيا من الذهب والعملات في البنوك الأوربية والتي لا يعرف لها أثر إلى اليوم.
على الرغم من استنكار قادة البلاشفة لتأريخ روسيا الإقطاعية والعبودية على يد القياصرة، إلا ان لينين وستالين، ناهيك عن تروتسكي قرأوا بإمعان تاريخ روسيا وتمثلوه بعمق.
وسادت بينهم نظرة مثلت الوعي الجيوسياسي للقيادات السوفيتية وبعدها الروسية، بان روسيا محاطة بغابة من الأعداء وأنها هدف لمطامع الدول وصارت مقولة القيصر الكسندر الثالث، الذي غالبا ما يتمثله فلاديمير بوتين في خطاباته ومقالاته، عند الحديث عن المخاطر المحدقة ببلاده “ان لروسيا حليفان فقط الجيش والأسطول”؛
العبارة المجنحة الاثيرة لدى القيادات الروسية حتى اليوم.
في القرن السابع عشر أفتتح القيصر بافل الاول، نجل الإمبراطورة كاترين الثانية عصر الشراكة السياسية والتجارية مع بريطانيا العظمى التي حرصت على سيادة ومركزية الدولة الروسية بوجه المطامع السويدية والبولندية، ووجدت لندن في بافل شريكا طيعا لتحقيق المصالح الانكليزية في العالم القديم. وكانت الشركة الروسية البريطانية عنوانا للتعاون متعدد الوجوه.
تضاعفت أهمية روسيا بالنسبة للتاج البريطاني مع زحف نابليون بونابرت وسعيه لاحتلال الممالك الأوربية وإقامة دولة اتحادية بزعامة فرنسا، وادركت لندن ان روسيا مترامية الاطراف وحدها قادرة على تحطيم أحلام الامبراطور مفتوح الشهية.
بالمقابل أدرك بافل الأول ان الحليف البريطاني يأخذ ولا يعطي؛ فقرر التحالف مع القوة الزاحفة لنابليون وادار ظهره للندن.
وتبادل الرسائل مع نابليون بونابرت على تجهيز حملة برية روسية فرنسية تتجاوز سيطرة الأساطيل البريطانية على البحار، تمر عبر آسيا الوسطى الخاضعة للتاج الروسي، لاحتلال الهند وتقاسمها بين الإمبراطوريتين الفرنسية والروسية.
وبذلك فقد تعدى بافل الأول على العجل الذهبي للتاج البريطاني وصار من حينها هدفا للتصفية.
تسربت نوايا القيصر المتأثر بمقولة والدته كاترين الثانية( لا تصدقوا الكلام المنمق للإنكليز وطالبوهم بوثائق) عبر عيون وآذان الملك جورج الثالث في البلاط الروسي، ولم يلبث طويلا في سدة الحكم بعد ان كشف عن نواياه الخطيرة من وجهة نظر لندن؛ حتى قام نجله الكسندر بقتله والاستيلاء على العرش.
ولجأت الدعاية البريطانية كالعادة الى تلفيق قصة ان بافل الأول مختل عقليا وان المصلحة الوطنية لروسيا تقضي عزله، وثبتت تلك الرواية في أوساط الجنرالات الناقمين على سياسات القيصر الإصلاحية وحرضت نجله الكسندر على الاشتراك في مؤامرة عزله ومن ثم قتله.
وظل حادث مقتل القيصر بافل الأول يدون في كتب التأريخ على أنه توفي بنوبة قلبية الى ان انفجرت ثورة 1905، التي افضت الى بعض الاصلاحات الدستورية، ومنحت الصحافة قدرا من الحرية؛ فتم كشف المستور عن دور السفير البريطاني و الوريث الكسندر نجل بافل في جريمة انقلاب القصر.
بعد ذلك بسنوات، اميط اللثام عن دور الاستخبارات الانكليزية في اغتيال الكاهن المشعوذ راسبوتين الذي كان شديد التأثير على القيصر نيكولاي الثاني وأسرته، ويشاع أنه كان ينصح بعدم تورط روسيا في الحرب مع ألمانيا لأنها ستعني نهاية الإمبراطورية الروسية.
فعاجله عملاء لندن بقنينة فودكا معفرة بسم قوي قاتل، لم يطرحه أرضا، فامطروا جسده الاسطوري بعشرات الطلقات وألقوا بجثته النازفة في نهر نيفا ولم يزل حيا!
سر حماس بريطانيا للحرب في اوكرانيا (4)
كشف استطلاع للرأي أجرته مجموعة دراسات مستقلة ان 72 بالمائة ممن شملهم البحث يؤمنون بأن الولايات المتحدة المسؤول الأول عن اندلاع الحرب العالمية الأولى التي مرت ذكرى نشوبها المئوية منتصف الشهر.
فاجأت النتيجة الباحثين، ليس فقط لأنها تنم عن جهل شبه مطلق بوقائع التاريخ في بلد قضى على الامية منذ عقود، بل لأن المستبشرين، يذهبون بصورة جماعية نحو الفكرة الراسخة لدى غالبية الروس بان واشنطن تقف وراء كل مصائب الكون.
المعروف ان الولايات المتحدة؛ النائية وراء المحيط، لم تلعب دورا يذكر في الحرب العالمية الأولى التي اندلعت بين الإمبراطوريات الأوربية القديمة ورسمت نتائجها خارطة القارة العجوز والشرق الأوسط واجزاء كبيرة من آسيا وافريقيا، وما يزال العرب يدفعون الى اليوم أثمانا باهظة لاتفاقيات سايكس بيكو وما تلاها.
ان روح العداوة الفطرية للولايات المتحدة ولبريطانيا، تولد مع مواطني روسيا وقبلها الاتحاد السوفيتي من خلال برامج التعليم التي سعت حكومة بوريس يلتسين الأولى الى تغييرها، واعتماد المناهج الأميركية في المدارس وبعض الجامعات.
ولم يستمر المشروع طويلا، بسبب تحول فلاديمير بوتين عن نهج الشراكة مع الولايات المتحدة والغرب؛ إثر خطابه المدوي عام 2007 في مؤتمر ميونيخ للتعاون الأوروبي وأعلن خلاله؛ فك الارتباط مع مشاريع الشراكة وإلغاء ما كان مجلس روسيا- الناتو الذي بلغ من قوة التنسيق عامي 2002-2003 درجة ان بوتين صرح يوما برغبة بلاده في الانضمام الى المنظومة السياسية للحلف.
فسر الكرملين بعد سنوات تلك الرغبة بأن الرئيس الروسي كان يخطط لاحتواء الحلف والحد من توسعه.
وهكذا فإن أيديولوجية العداوة للغرب وزعيمته الولايات المتحدة، لا تقتصر على البعد الشيوعي، بل تتجاوزه الى بعد شعبي ثقافي يمكن وصفه بأنه “فولكلوري” يمتد لعقود سحيقة اتسمت بمخاوف روسية متجذرة من الغرب الذي يتربص بروسيا ويسعى الى تقسيمها والاستيلاء على ثرواتها الضخمة.
ومع انه لم يعثر أحد على نص مكتوب او مقروء لوزيرة الخارجية الأميركية الراحلة مادلين اولبرايت ::
” على روسيا ان تتقاسم ثروات سيبيريا الهائلة مع العالم”؛ الا ان هذه المقولة تدور كدورة الأسطوانة في تصريحات ومقالات المسؤولين الروس بمن فيهم الرئيس بوتين الذي يرى في أولبرايت تجسيدا للمطامع الغربية الأميركية في روسيا.
فإذا كانت حقبة بوريس يلتسين، ازالت الغبار عن أطنان من الوثائق حول المساعدات الاميركية والبريطانية للاتحاد السوفيتي سنوات الحرب العالمية الثانية، فان فلاديمير بوتين كشف عن أطنان من وثائق المؤامرات التي حيكت وتحاك ضد روسيا خلال عقود الحرب الباردة وما تلاها، بل ان الرئيس الروسي أعلن في مقابلة جرت قبل عام ::
ان ضباط الاستخبارات الاميركية( سي اي ايه) كانوا يعملون في مكاتب الكرملين بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي وانهم كانوا يقودون حكومات ما بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي عمليا .
لم يتفاجأ الروس بهذا الكشف في ضوء تصاعد حملة العداء الغربية والاميركية ضد روسيا والتي تجلت في مسلسل العقوبات وبلغت بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا زهاء السبعة آلاف عقوبة تشمل مؤسسات وشركات وقيادات روسية ورجال أعمال وبنوك الخ…
ويحتل عملاء التاج البريطاني وحكوماته المتعاقبة موقع الصدارة في إدارة الصراع مع روسيا السوفيتية والاتحاد السوفيتي.
ففي ربيع العام 1940 وهتلر يسحق بجيوشه أوروبا العجوز، حلق من قاعدة الحبانية في العراق سرب من الطائرات لا تحمل علامات فارقة على ارتفاع منخفض، وطافت في أجواء باكو عاصمة اذربيجان السوفيتية، والتقطت صورا دقيقة لآبار النفط في الجمهورية الأكثر إنتاجًا للذهب الأسود ويعتمد عليها اقتصاد الاتحاد السوفيتي قبل اكتشاف منابع للنفط والغاز في الاراضي الشاسعة الاخرى للدولة السوفيتية.
ووفقا للوثائق فإن بريطانيا، كانت تتسابق مع المانيا الهتلرية للاستيلاء على منابع النفط السوفيتي. وفي حال تعذر ذلك، وضع البريطانيون خطة متكاملة لحرقها على مدى عدة شهور، وتم تدريب مئات الطيارين على طلعات متواصلة، تلقي الاف القنابل الحارقة على أبار النفط وصولا الى تدميرها بالكامل.
ويقول المؤرخون إن القصف كان كفيلا بإحداث دمار يعادل الخراب الذي اوقعته القنابل النووية الأمريكية على هيروشيما وناجازاكي.
الملفت ان الدفاعات الجوية السوفيتية الضعيفة لم ترصد طلعات الاستطلاع البريطانية الا بعد عدة أسابيع من تحليقات منتظمة ، ساعدت في وضع خطة الحرق المدمر لصناعة النفط السوفيتية.
وإذا كانت واشنطن على لسان الرئيس ترومان؛ قادت حملة أيديولوجية عالمية لشيطنة الاتحاد السوفيتي والشيوعية، فإن لندن كثفت من نشاطاتها التخريبية في الخاصرة الرخوة لروسيا؛ القوقاز وما وراء القوقاز، ومولت حركات قومية انفصالية ودعمت القوى الدينية المتطرفة، وقدم الإنكليز أنفسهم على انهم يدافعون عن حقوق المسلمين السوفييت؛ فيما كانوا يسومون مسلمي الشرق شتى صنوف الانتهاكات.
ركزت لجنة أمن الدولة السوفيتية نشاطاتها الخارجية على بريطانيا بالإضافة الى الولايات المتحدة، واستفادت من جاذبية الفكرة الشيوعية في الأوساط العمالية والجامعية البريطانية وتمكنت من تجنيد عدد من الجواسيس، تغلغلوا في عمق الاستخبارات البريطانية ، أبرزهم الجاسوس كيم فليبي الذي كان يرأس جهاز مكافحة التجسس في المخابرات البريطانية، وزود الكرملين على مدى سنوات بمعلومات لا تقدر بثمن مكنت الأجهزة السوفيتية من إحباط خطط تدمير الاتحاد السوفيتي من الداخل حقبة الحرب الباردة.
وقبل ان تكتشف لندن نشاطاته التجسسية لصالح السوفييت تمكن خريج جامعة كامبريدج من الهرب الى بيروت لتنقله باخرة سوفيتية الى أوديسا ومنها ألى موسكو؛ حتى مماته عام 1988 عن 78 عاما.
كيم الأسطوري كما تصفه الادبيات السوفيتية، هو نجل (الحاج) جون فليبي، المستعرب ومستشار الملك عبد العزيز آل سعود
المصدر: كتابات
التعليقات مغلقة.