ميشيل كيلو *
لا براءة لأحد من اعتراف الإمارات العربية المتحدة بـ “إسرائيل”. لا براءة لبشار الأسد ونظامه الذي دمر دولة سورية، ومزق مجتمعها، وأخرجهما من معادلات الواقع والصراع في المنطقة، لفائدة “إسرائيل” التي تعاظمت قوتها أيّما تعاظم، بتدمير دولتي المشرق العربي الرئيستين: سورية والعراق، وبخروج مصر من المواجهة معها. ولا براءة لإيران ومرتزقتها في لبنان والعراق، لأنها عملت قبل الثورة السورية لطيّ صفحة القضايا الجوهرية التي يواجهها المجتمع السوري خاصة، والمجتمع العربي عامة، ولاستبدالها تلك القضايا بقضايا تخرجهما من العصر الحاضر، وتعيدهما إلى زمن الحروب بين الفرق الإسلامية، وإلى الصراع بين السنة والشيعة، الذي دفع المشرق له ثمنًا فادحًا، أطاح بوجوده أو كاد. ولا براءة لروسيا بوتين، التي انقضّت على السوريين قتلًا وتدميرًا باسم الحفاظ على جيش الأسد ومخابراته، أداةِ الجريمة التي دمرت دولة ومجتمع سورية تنفيذًا لشعاري: الأسد أو نحرق البلد، والأسد أو لن يبق حيًا من السوريين أحد، وتعايشت منذ قرابة ستة عقود مع احتلال الجولان، لكنها كشرت عن أنيابها الطائفية، وفتكت أيّما فتك بالشعب السوري، وحين بان عجزها عن رده إلى بيت الطاعة الأسدي، أرسل بوتين جيشه ليقتل بنات وأبناء الشعب السوري، وليتدرب على إبادته بقصف قراه وبلداته ومدنه، ومحوها من الوجود. ولا براءة لواشنطن وفوضاها الخلاقة وصفقة عصرها، بقرارها تفكيك سورية وإعادة تركيبها في صيغ جديدة، نرى علاماتها الأولى في ما يقوم به تنظيم (pkk)، بحماية مباشرة من جيشها، ضمن منطقة تبلغ عشرين في المائة من إجمالي مساحة سورية، لم تعد تنتمي إلي هويته الوطنية، بل صار اسمها “شرق وشمال الفرات”، وغدا فجأة، ومن دون مقدمات، جزءًا من كيان له اسمه، وهو “غرب كردستان “. ولا براءة أخيرًا لمملكة آل سعود بصورة خاصة، لأن الإمارات ما كانت لتُقدم على ما قامت به -وهو يتعارض تعارضًا صارخًا مع مبادرة ملك السعودية الراحل عبد الله بن عبد العزيز- من دون تغاضيها عنه أو موافقتها عليه. أخيرًا، لا براءة للإرهابيين الذين شاركوا بفاعلية في تدمير سورية، وأعلنوا أنهم ضد دولتها ومجتمعها، وأنهم عازمون على إقامة “دولة إسلامية” فيها، انضوى “جهادهم” من أجلها كوهم في السياق الدولي والإقليمي العام، الذي قرر تقويض تلك الدولة وذلك المجتمع، والإبقاء على النظام الأسدي، مكافأة له على تدمير سورية.
لا براءة من دم أطفال ونساء وشبان وشيوخ فلسطين لأي كيان سياسي عربي يسوسه من لا يرون ولا يقاومون معادلة تفقأ العين – خصوصًا بعد أن تم تدمير سورية والعراق – وهي أن “إسرائيل” تزداد قوة بقدر ما يضعف العرب بأيديهم، أو بقدر ما تُضعفهم هي، وأن ضعفهم يخدم المشروع الصهيوني، ويساعده على ابتلاع فلسطين، وإلا، ماذا يعنى إعلان “إسرائيل” أن اعتراف الإمارات بها لا يعني تخليها عن ضم الضفة الغربية، بل يعني تأجيله. وما معنى اتفاق يُعقد مع عدو، لكنه يخلو من أي تنازل يقدمه مقابله، ويخلو من أي مكسب للإمارات أو للعرب، بما في ذلك تخلي “تل أبيب” عن ابتلاع أرض ليست لها، ويمثل ضمها عدوانًا على القانون الدولي والأمم المتحدة، وانتهاكًا لقراراتها وللحقوق التي اعترفت بها للفلسطينيين. يتخلى الاعتراف عن تلك الحقوق، مع الأسف، ويتركها لميزان قوى أُخرج العرب منه، بينما تغتال الانقسامات فلسطين، وتقوض قدراتها، وتجعلها خلافات إسلاميي غزة مع سلطتها، ونهبًا للتوسع الصهيوني الذي لم يوقف مشروعه التاريخي في ضفتها.
ولا براءة لمن لم يدرك بعدُ أن الانهيار العربي بلغ مدى قاتلًا بل انتحاريًا، وجعل دولة وربما منطقة عربية كاملة -وهي منطقة الخليج السعودي- توهم نفسها أن “إسرائيل” ستحميها من إيران، بينما يزيد الاعتراف وزن “إسرائيل” لدى طهران، وقدرتها على عقد صفقات معها من وراء ظهر الخليج وعلى حسابه، لأن “إسرائيل” لا ترى في تناقضاتها مع إيران ما يرتقى إلى مستوى عدائها للعرب، وهو الخطر الذي يبقى مصدر التهديد الرئيس لها، إن لم يكن الوحيد، وعليها إبقاؤه تحت سقف منخفض قدر الإمكان، بإبقاء تطور وعلاقات العرب وإدارة شؤونهم تحت رقابة دائمة، على الصعد الأمنية والعسكرية بصورة خاصة، وها هو الاعتراف الإماراتي بها يتيح لها فرصة لا نظير لها لإحكام رقابتها السياسية على منطقة تعج بثروات هائلة وموارد مالية لا تُجارى، وستعمل “إسرائيل” لإخضاع إيران بالإفادة مما تكنه طهران من عداء صارخ للعرب عامة وللخليج خاصة، فإن نجحت في جعل مصالحها تتقاطع مع مصالح الملالي في هذه النقطة، وأفضى تقاطعهما إلى مزيد من الانهيار العربي، فذلك إنجاز آخر من إنجازات الصهيونية ضد عدوها العربي. ومن لم يتعلّم من مواقف “تل أبيب” تجاه مصر -أول وأقوى دولة عربية عقدت معاهدة سلام معها- وآخرُ وقائعها حثّ إثيوبيا، منذ أواسط الستينيات، على خنق مصر مائيًا، لا بدّ أن يكون خارج التاريخ والواقع، ومن الذين يستجيرون من الرمضاء بالنار. لن ترحم “إسرائيل” دول الخليج ولن تدافع عنهم ولن تحميهم إلا إذا نسي حكامها اعتراضها التقليدي على تزويدهم بالسلاح، وعلى بناء قوى عسكرية خاصة بدولهم، ودعمها كلّ من استهدف الأمن الخليجي والعربي، وستفيد “إسرائيل” من الاعتراف لزيادة قدرتها على ابتزازهم وإضعافهم، ولتعزيز وزنها لدى طهران، ولحاجة ملالي إيران إلى التعاون معها ضدهم، مع ما سترتبه علاقاتهم معها من دور في بلدانهم التي ستجد نفسها عرضة لألاعيب شتى.
يُعتقد غالبًا أن العلاقات بين الدول تعبّر عن سيادتها. بعد انهيار عالمنا العربي تعبّر العلاقات مع “إسرائيل” عن ضياع سيادة ما نسميه “دولة”. إن الذي يمتلك سيادته لا يتحامى بمن يناصبه العداء، ولا يتجاهل أن عدوه لن يغدو صديقه بين ليلة وضحاها، لمجرد أنه اعترف بشرعية وجوده في فلسطين، ومن يفعل ذلك فهو مكره أو ضعيف أو ضحية أوهام سياسية، وسيدفع هو أيضًا ثمنها القاتل.
* كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري
المصدر: مركز حرمون
التعليقات مغلقة.