حزب الاتحاد الاشتراكي العربي حرية ☼ اشتراكية ☼ وحدة
في سورية
1983
نشرة داخلية
المثقفون الديمقراطيون وثورة الشعب الثقافية
الدكتور جمال الأتاسي
إن مشروع نهوض أمتنا وتحررها ووحدتها، أي مشروع ثورتنا القومية العربية التقدمية، الذي تقدمت به قوى وطلائع نضالية في الخمسينات والستينات وتفاعلت معه جماهير الأمة ودفعت به خطوات الى الأمام، قد عصفت به قوة الثورة المضادة وتمكنت منه حركة الردة لتسجل عليه الفشل… وإن النظم العربية، وهي كلها نظم ديكتاتورية استبدادية، قد احتلت مواقعها بالقوة والقسر، واخذت طريق السيطرة الشمولية على الدولة والمجتمع، وهي تجسد سلطة طبقة بورجوازية جديدة، قوامها الأساسي البيروقراطية السلطوية من عسكرية ومدنية، والتي تمتد وتتسع باضطراد بمقدار ما تتسع وتمتد سلطات الدولة ومصالحها ومؤسساتها ومجالات هيمنتها، آخذة تسلسلها اليومي من القمة إلى القاعدة ممسكة بكل المؤسسات والتنظيمات بما فيها السياسية والشعبية. ويقوم في تحالف معها تشكل بورجوازي طفيلي وسيط تفسده ويفسدها، مشدود إليها ليحمي مصالحه ويشهدها وينشّد معها بعلاقات التابعية للرأسمالية العالمية في طورها الإمبريالي الراهن. كما تلحق بها تلك الفلول المتعددة المنابت والمذاهب من البرجوازيات الصغيرة التي سلكت سبيل الانتهاز والتبرجز، بعد ان انقطعت كل صلة عضوية تربطها سياسياً وثقافياً بالمجتمع الشعبي وقواه العاملة وأخذت بها نوازعها المصلحية الفردية وتطلعاتها الوصولية. لتمحور ايديولوجياتها ومصالحها على محور السلطة وايديولوجيتها. ولتمد تلك السلطة واجهزتها بأدوات هيمنتها وقسرها وتوجيهها واعلامها, ولتتسلق مراتب السلطة والنفوذ وتثري عن طريق السلطة وتتغير لتصبح مقوماً اساسياً من مقومات الطبقة السائدة.. إنه تحالف سلطوي أخذ تشكله طوراً بعد طور. وهو يقع تحت هيمنة فئوية كحكم للأقلية, مفروض بالقوة على الشعب, وضد إرادة معظم الشعب, الغالبية التي سُحقت وشتت ووضعت على هامش الحياة السياسيـــة.
أقامت سلطة الاستبداد كما فرضت ديكتاتورية الأقلية وهيمنتها السياسية على الدولة والمجتمع فهي قد عملت في هذا السبيل أيضاً على مذهبة الدولة بأيديولوجية مفروضة فرضاً, تعلنها شعارات ومقولات, وتعممها طقوساً وتعاليم وتوجهات, في كل مواقع سيطرتها وتأثيرها, وفي كل مراكز التربية والتوجيه والتثقيف والاعلام, بما في ذلك المدارس والجامعات ومنابر المساجد والكنائس, وهي ايديولوجية إذا ما أعلنت عن نفسها بمقولات تقدمية وقومية وحدودية وعربية وإسلامية, وملأت بها أعمده الصحف والدراسات الصادرة عن مراكز بحوثها ونشرها, فإنها تبقى ايديولوجية طوباوية وصورية, تجافي الواقع وتغطي عليه, وتزوّر التاريخ وتشوهه, وتستخف بوعي الناس وقناعاتهم, وهي في النهاية إنما تصب في خدمة قوى السيطرة والتسلط وتنتهي عند تقديس الفرد وتقديس هيمنة الأسرة الحاكمة أو الفئة أو ” الحزب العظيم “, وعند تمجيد سلطة الدولة ومنجزاتها الهائلة, فدولتها هي دولة الحق والقوة, وما هذه إلا ايديولوجية الفاشية بعينها في طرازها الشرقي, فهي تزرع كل أنواع التمييز والتمايز العنصري والطائفي والعشائري والعائلي وتحرك كل أشكال العصبية والتعصب وتتعامل مع الغرائز البدائية للبشر.
تلك هي نظم الاستبداد أمامنا بكل وسائلها في التسلط والسيطرة والاستغلال, وبكل تحالفاتها وامتداداتها الداخلية والخارجية, وقد وصلت بنا إلى ما وصلت إليه من تضييع هوية الأمة ومقومات تلاحمها الوطني ووحدتها ومن تبديدٍ لقضيتها؛ فماذا يقوم في معارضتها وفي مقابلتها, ويحمل وعداً بالتغيير وأملاً بالمستقبل ويعزز إيماناً بالمبادئ والقيم والمعاني الإنسانية والأخلاقية وبالأهداف التي نسجتها أجيال من النضال في تطلعات جماهير أمتنا؟ وأي تحالف جديد يمكن أن ينهض من تلك القاعدة الشعبية العريضة التي طُعنت في أهدافها وآمالها, وتعاني كل هذه الألوان من الظلم والاستغلال والإذلال, وأن يفرض إرادة الشعب, في التغيير؟
الردة عصفت بمرحلة عبدالناصر:
ولقد قلنا سابقاً إن حركة الردة قد عصفت بكل مرحلة النهوض العربي, مرحلة عبدالناصر, وبكل مقوماتها الاستراتيجية ومنجزاتها الشعبية الوطنية والقومية, وأمسكت بما شابها من قصورات وسلبيات, لتدفع بها إلى أقصى الحــدود.
وإذا كانت هذه الحالة التي وصلت إليها أمتنا تدعو لكثير من التشاؤم, يدفع بالبعض إلى الاستعفاء والعزوف, ويدفع بالكثير ممن ضعف إيمانهم بشعبهم وقضية أمتهم, إلى ركوب مركب الانتهاز الصرف واللحاق بركب النظم, تسليماً بـ ” الأمر الواقع “, أو تذرعاً بتبريرات منها العمل الاصلاحي المتدرج من الدخل, ومن خلال طواعيتهم للنظم وتعاملهم الإيجابي معها, فإن حوافز الثورة لم ينضب معينها لدى شعوب أمتنا. وهناك معالم معارضة وطنية واسعة لواقع الظلم والفساد, ولنظم الردة والاستبداد, في مجتمعاتنا الشعبية على مدى الوطن العربي, ولكنها ما زالت معارضة عفوية, ويسمونها أيضاً بالغالبية الصامتة, وأحياناً بالثورة السلبية, وما عفويتها إلا لأنها ملتصقة بمواقفها الاجتماعية التي اوجدتها فيها شروط حرياتها وعملها وثقافتها, وهي تمارس على طريقتها رفضها لواقع الظلم الذي يحيط بها, أو تتفجر أحياناً في انتفاضات عفوية أيضاً من الغضب والنقمة, وما وصفها بالعفوية إلا لأنها لم تستطع الانتقال إلى طور المعارضة الايجابية الفاعلية, أي إلى حركة وعي وتنظيم تقودها طلائع ثقافية وسياسية عضوية, أي نابعة من صفوفها ومتحالفة معها تحالفاً ملتزماً ومصيرياً. ولكن هذه الصفة العفوية, يمكن أن توصف بها أيضاً تلك العناصر والمجموعات والقوى السياسية والثقافية المشتتة في أرجاء الوطن العربي, والتي مزقتها وهمشتها أو شتتها في المنافي وهجرتها عن أوطانها, ظروف القهر والاستبداد.
فهي إذاً وقفت في معارضة النظم وأعلنت رفضها بشكل أو بآخر لواقع الظلم وتطلعت للتغيير, ونقدت الواقع وأخذت تنظر للتغيير, فهذه أيضاً ما زالت في نقدها وعملها وتنظيرها في طورها العفوي, ولم تتحول الى إرادة تغيير, من حيث أنها لم تكتشف بعد طريقها إلى إيجاد صيغة لتوحيد قواها على المستويين الوطني والقومي وإلى إيجاد برنامج سياسي استراتيجي يؤلف بينهما, ولم تجد سبيلها إلى الالتحام بالمعارضة الشعبية للخروج بها معها, من هذا الطور العفوي الذي ما زالت تدور في إطــاره.
الدور الإيجابي للمثقفين الديمقراطيين:
إن نقد الواقع المتعثر الذي يغرقنا في خضمه, والمسار الذي أادى إليه, ونقد النظم والهيمنات القسرية القائمة عليه, والضياع الذي يسود علاقاته ونزاعاته, مارسته وتمارسه اليوم طلائع ثقافية ورجال فكر, منهم المستقل ومنهم الملتزم بمجموعات تؤدي, أو تطمح إلى أن تؤدي دوراً سياسياً أو تلتزم بتنظيم حزبي, والتي تحاول في مواجهة ” الانتلجنسيا ” السلطوية أو الزمر الثقافية الملتصقة بنظم الاستبداد والتي تصوغ لها مبرراتها الايديولوجية ودعايتها الإعلامية والتوجيهية, أن تؤدي دوراً معارضاً ومناقضاً يكشف الظلم والاستغلال ويدعو للتغيير, ونسميها ” الانتلجنسيا ” أو الطلائع الثقافية الثوريــة.
وتبسيطاً للأمور, نقول إن رجل الفكر أو المثقف الثوري هنا, هو ذلك الذي يعذبه واقع أمته ويوظف فكره لنقده ووعيه, ويجند نفسه داعية بين أوساط الجماهير ويعمل على الالتحام بحياتها وحاجاتها. إنه نفسه داعية للحرية, وضد الظلم والاستغلال والاستبداد, وضد السيطرة الخارجية وضد هذا الاستعمار الداخلي للنظم الفئوية المسيطرة سياسياً واقتصادياً وايديولوجياً, والراية التي في يده هي راية الديمقراطية, وهو يبشر بها ويريدها ديمقراطية شعبية مباشرة وملتصقة بحياة الجماهير وإرادتها, ولكنه لا يسميها كذلك, أي بالشعبية, لما أصاب تعبير ” الديمقراطية الشعبية “, من تشويه كبير على يد نظم تتسمى بها بينما تمارس التسلط والقهر والهيمنة الشمولية, إنه يسميها ديمقراطية فحسب, ولكنها تجمع في تطلعاته ومنظوره, بين معطيات الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية, والانتقال بالشعب وعياً وتنظيماً إلى مواقع ممارستها, وإلى أن يعيشها في علاقاته وقناعاته, ويصنع من خلالها الاندماج الوطني لفئاته الاجتماعية, وليجعل منها إرادة تغيير ويصل بها إلى صياغة نظام حكمه ودولته القوميـــة.
ولكن مثل هذا الدور الإيجابي في تحريض مخاض التغيير, ما زال مجرد تصور, ولم تنتقل بعد إلى مواقع ممارسته والالتزام به, تلك الطلائع الثقافية العربية المشتتة, إلا أن هناك بداية, وهي أنها؛ وهي في مواقعها العفوية التي أوجدتها فيها ظروفها الخاصة والظرف العام, أخذت تلتقي من خلال مطلب الديمقراطية ولكن بين المطالبة بالديمقراطية وطرح منظورها وتصوراتها, وبين العمل لها والنضال من أجلها جسر لا بد من عبوره. فالعمل من أجل الديمقراطية هو عملٌ من أجل الحرية.
مع أن السؤال الذي أخذت تطرحه على نفسها تلك المجموعات من المثقفين العرب, المستقلون منهم عن النظم والمعارضون لها, ممن لم تأخذ بهم الانتهازية الرخوة وشهوات التبرجز, ولم تُلحقهم نظم الاستبداد في أطرها ليكونوا وسائل لهيمنتها وأدوات لتبرير نهجها ونشر ايديولوجيتها, أو ” كلاب حراسة ” للفئة الحاكمة في أجهزة سيطرتها واعلامها, أولئك المثقفون المنفيون داخل أوطانهم أو المشتتون في العالم, هروباً من تلك الهيمنة أو خروجاً عليها, والذين يعذبهم واقع أقطارهم والواقع الذي تتخبط فيه قضية أمتهم وتلزمهم قضية الحرية, حريتهم الفكرية التي لا معنى لوجودهم وحياتهم بدونها, وحرية أوطانهم وشعوبهم.. سؤالهم ما هو السبيل إلى التحويل الديمقراطي للمجتمعات العربية ونظم الحكم فيها, على اعتبار أن الديمقراطية هي وسيلة الحرية وهي السبيل لإيجاد مناخ مؤات لوضع تلك الحريات في حياة البشر وعلاقاتهـــم؟.
ولكن هذا السؤال يطرح من نفسه سؤالاً آخر, ويطالب مثقفينا هؤلاء بإجابات يتوضح على أساسها تحديد الموقف والإلتزام, وهو: لماذا كان هذا التطور الاستبدادي الذي تعمم أكثر فأكثر في بلادنا العربية؟ ولماذا جاء كل هذا التعثر والضياع؟. والسؤال الذي يستتبعه أيضاً: كيف يصبح من الممكن بعد كل الذي صار وتراكم من سلبيات, عبر مراحل تطور تاريخنا القومي, منذ خروجنا من تحت نير الاستعمار الكولونيالي، حتى تاريخ عودتنا المجددة إليه في ظل النظام العالمي الجديد، أن يتغير المسار, وأن نجد سبيلنا إلى تصور نظري ونهج عملي يضعاننا على طريق صياغة جديدة لتحررنا الوطني والقومي, ويصلان بنا إلى نظام سياسي وديمقراطي يضمن للمواطن العربي حقوق المواطنة وحقوق الإنسان ويُشيع جواً من التسامح ومن حرية الرأي والمعتقد, ومن القبول بالتعددية ( تعددية الآراء والمعتقدات والتيارات السياسية والايديولوجية) في إطار إرادة للحياة المشتركة, تصنع هوية الأمة ووحدة المستقبل والمصـــير؟.
ونبقى الآن عند طرح السؤال, لأن الجواب عليه لا يطالب بموقف نظري وإبداء رأي بمقدار ما يطالبها بالتزام سياسي وعملي.. فبين المطلب الديمقراطي والسعي لتحقيقه, ثمة نقلة نوعية مطلوبة من مثقفينا الوطنيين, وهذا أيضاً جانب من جوانب الثورة الثقافية وهناك بوارق أمل تتلمس طريقهــا.
فمما يدفع للأمل , أن أولئك المثقفين, من مستقلين أو متحزبين على اختلاف مناهلهم الايديولوجية من قومية عربية ( سواء كانت ذات أصول ناصرية أو بعثية أو غيرها), أو من ماركسية أو متمركسة, أو الذين ينطلقون من منظور ديني وإسلامي مستنير, إنهم على تفرقهم واختلافهم, يلتقون اليوم على أرض مشتركة وهي المطلب الديمقراطي, فلقد أخذو يدركون جميعاً, وبعد كل التجارب المريرة التي مروا بها, وبعد كل الإخفاقات التي منيت بها مجهوداتهم السياسية والحزبية السابقة لتحقيق أهدافهم, أن غياب الديمقراطية كانت العثرة الكبرى على طريقهم وكانت الثغرة الأساسية في نهج التقدم بأمتهم وتحقيق الاندماج الوطني لشعوبها وحريتها ووحدتها, كما أخذو جميعاً يدركون أن الديمقراطية ليست صفة إضافية تلتصق بتسمياتهم الايديولوجية أو تأتي نتيجة لممارسة تلك الايديولوجية أو تأتي نتيجة لممارسة الايديولوجية والاستدلال بها, ديمقراطية شعبية أو ديمقراطية اشتراكية, أو ديمقراطية إسلامية أو غير ذلك. فالديمقراطية ليست إيديولوجية أصلاً, ومبدؤها سابق لكل إيديولوجية, يستمد قواعده من فلسفة الحرية, حرية الإنسان وكرامته, وهي بالتالي الأرض المشتركة لتعايش أو تنافس أو صراع مختلف المذاهب والإيديولوجيات, أو ما تعبر عنه من قوى اجتماعية وسياسية وطبقات, لتبقى في النهاية وهي التي تحكم على مقدار مطابقة هذه الإيديولوجية أو تلك, وهذا المذهب أو ذاك, أو مقدار وفائها لقضية تحرير الإنسان من الاستلاب والضياع, ومقدار استجابتها لمسألة حرية الانسان وكرامته وسعادته. كما وأنها تضع الضوابط والحدود التي تقف عندها الصراعات الطبقية والسياسية, بحيث لا تهدد وجود الأمة وكيان الوطن, فالديمقراطية ولو أن مبدأها إنساني وعام فإن إطار تحقيقها كان وما زال الوطن والأمة, والشعور بالمواطنية هو الركيزة الأساسية لإشادة الديمقراطية ودولة الأمــة.
إلا أن بين هذه القطاعات المشتركة التي تلتقي عليها تلك المجموعات المشتتة من رجال الثقافة ورجال الفكر السياسي, وبين أن يكون لها فعل وتأثير في تغيير الواقع المعاكس كل المعاكسة لهذه القناعات, أي أن تتحول القناعات إلى فعل وعمل, ما زالت عوامل العجز والتردد أوفر مما توحي به القناعات من تفاؤل وأمل, فهذه المجموعات ما زالت على هامش الحياة السياسية التي تهيمن عليها النظم وتصنع سلباً تاريخنا, وهي لم تكتشف بعد سبيلها إلى الالتزام بمشروع مشترك للنضال السياسي الديمقراطي لا على المستوى القطري ولا على المستوى القومي, والكثير منها يلتمس حريته أو الحفاظ على بقائه في الابتعاد عن مثل ذلك الالتزام.. وهكذا يتحول في أحسن الظروف إلى مجرد شاهد ناقد. والأنكى أن تعادي الإرهاب بكل أشكاله, السياسي والفكري, إرهاب النظم ( وهو قد أصبح اليوم أقدر وأرهب إرهاب )؛ وإرهاب القوى اللاديمقراطية المعادية لهذا النظام أو ذاك ( والتي تعتمد أساليب التنظيم الإرهابي والتعصب الفئوي والوسائل الفوضوية في الاغتيال والقسر سبيلاً لتحقيق أغراضها ), قد أدى من حيث المناخ العام الذي أشاعه, إلى تسرب روادع القسر والإرهاب إلى وجدان الكثير من المفكرين والمثقفين وانعكس على طرائقهم في البحث والنقد والتعبير. فهو قد تحول عن وعي أو لا وعي إلى كابت داخلي يأخذ من وضوح الفكرة قوة الحقيقة, في الحكم على ما يجري وفي تحليل وتقييم ما هو واقع, فالمخابرات لم تعد من حولنا ترصد مواقفنا وتراقب ما نقول ونكتب وما نتهامس به بل هي تسرّبت أيضاً إلى داخلنا ونفوسنا ولتتحكم في تعبيرنا عن قناعاتنا ومواقفنا وفي مقدار ما نجهر به من حق وحقيقة ومقدار ما نعلنه من مواقف. فلا غرابة بعدها إذا ما وجدنا رجل السياسة الوطني أو رجل الفكر, يحجم عن إعلان رأي أو اتخاذ موقف من نهج ومواقف نظام مستبد يعلن ” الصمود والتصدي ” لئلا يُتهم بخدمة التآمر الإمبريالي, ويُحجم عن نقد حركات الإرهاب والتعصب, لئلا يُتهم باللادينية أو بالانحياز لفئة أو بالكفر. وهذه حالة من حالات القمع الذاتي والتي لا يكفي لتبريرها كثرة من تناولهم القتل أو التشريد والنفي, أو العزل من الوظيفة والعمل وقطع أبواب الرزق, بسبب ما جهروا به من مواقف وأفكار, ولا آلاف المثقفين والسياسيين القابعين في غياهب السجون منذ سنوات بسبب افكارهم المعلنة ومواقفهم السياسية المعارضة, بل إن من عواملها الأساسية, ذلك الجو العام من التفتت الاجتماعي ومن التقهقر السياسي والثقافي والأخلاقي, الذي أوصلتنا إليه نُظم الردة والاستبداد في عقد من الزمن, كما يرجع إلى تراجع التضامن النضالي, وعزوف حركة الجماهير وتبعثرها بعوامل السحق والخيبة معاً, وانقطاع الصلة العضوية بين القوى الثقافية والسياسية الديمقراطية وفئات شعبها المسحوقة. وتجدر الإشارة هنا بعد تكرار الحديث عن العناصر والطلائع الثقافية الديمقراطية، إلى أننا لا نعني بها العناصر التي تكتب وتفكر في هذا المنحى وتنتقد واقع الاستبداد فحسب, بل وكل المجموعات التي تمارس نشاطاً سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو أدبياً وفنياً, وترفض هذا الارتداد وهيمنة الاستبداد, وتحاول بالوسائل المختلفة المتاحة لها, التعبير عن ذلك الرفض. وتسعى بشكل أو بآخر إلى طرح تصوراتها للتغيير ووسائله وللنظام السياسي والاجتماعي الذي تتطلع إليه. ويدخل في إطار هذه المجموعات الأحزاب السياسية الوطنية المعارضة, فهي أيضاً إلا في قطرين عربيين أو ثلاثة, لم تعد إلا مجموعات صغيرة أو بقايا أحزاب أو جنرالات بلا جنود, بعد كل ما أصابها من تشتيت وتفتيت… إنها تتحرك في مواقعها العفوية التي حاصرتها فيها الظروف, ولكنها وهي تلعب دور النخبة والطلائع, فإن بقاءها في هذه المواقف يوقف ذلك الدور, فعفويتها غير عفوية الجماهير الشعبية. إنها تشكل حصاراً عليها وتحول بينها وبين أن تشكل حركة وتيار. إن القسر الذي يقعدها ويقيم عازلاً بينها وبين القاعدة الشعبية يُفقد نضاليتها الكثير من الحوافز اللازمة لها, كما يسلبها المصادر التي تحرض قدرتها على ابتكار وسائل جديدة للتجمع والعمل المشترك, وتعطيها وزناً وقدرة على التأثير, لبُعد ما بينها وبين القاعدة الشعبية, التي تبتكر بعفويتها طرائق أخرى في معارضة الواقع ورفضــه.
إن تلك الطلائع الثقافية والسياسية الباقية, تقف على أطلال مشروع كان للنهضة العربية والثورة, لتسجل توقفه أو فشله من غير أن يكون أمامها إمكانية لتجديده أو مشروعاً بديلاً؛ وكثيراً ما تغطي على قصوراتها بالانقضاض على ذلك المشروع السالف وقصوراته تبريراً لما تتخبط به فلا ترى فيه إلا السلبيات وبالمقابل فإن أكثرها لم يفقد الإيمان بالأهداف التي عبرت عنها تلك المرحلة, ولكن طريقها إليها أصبحت مقطوعة بعد هذه الحواجز الهائلة التي أقامتها نظم الردة دونها, ولكن أياً ما اختلفت تقييماتها فهي تلتقي على أن الثغرة الكبرى في مشروع الثورة القومية, والتي نفذت منها الردة, أن الديمقراطية لم تكن قاعدته الأساسية التي تحكم مساره في خطواته المتلاحقة, وأن تلك الثغرة تحولت اليوم إلى هوة سحيقة بين الحاكمين والمحكومين, وإذا كانت المراجعة النقدية تبدأ من مواجهة تلك الثغرة في حياتنا السياسية, فإن الهوة الراهنة لا يمكن العبور من فوقها إلا بحركة تغيير كبرى وثورة سياسية. والتغيير الثوري لا يكون بغير الشعب, والشعب لا يأتي لعِندك بل تذهب إليه وتعيشُ معاناته, والطلائع لا تكون طلائع تغيير ما لم تجد طريقها إلى الشعب والنخبة أو الطليعة, وتبقى مجرد نخبة بذاتها, ما لم تكن نخبة شعب وتعبيراً عنه, والطليعة تتقدم أمام حركة الشعب وتستطلعُ طريقه. وإذا لم نذهب بعيداً وعدنا إلى التجربة الوطنية لشعوبنا وأقطارنا, لوجدنا أن القيادات السياسية الوطنية, لم تحقق أياً من إنجازات التحرر الأساسية إلا عندما كانت هناك حركة شعب تدفع بمبادرتها وتلتحم بها, سواء في انجازات التحرر الوطني, أو في ذلك الانجاز الوحدوي الذي جاء بوحدة سوريا ومصر عام 1958, ثم إن عبد الناصر ما ملك رصيده الكبير في إنجازاته الوطنية والقومية والاجتماعية, إلا بحركة الشعب, وعندما ذهب إلى الشعب وتعلم من معاناته وعاش قضاياه قبل أن يأتي إليه الشعب, وما أصبح عبدالناصر ثورياً ورائد ثورة قومية إلا بمقدار ما أنشدَّ بفكره إلى الشعب وشدَّ إليه الشعب، وهذا ما عبر عنه بقوله ” الشعب هو المُعلم وهو القائد “، ومن الشعب تبدأ الديمقراطية وبحضوره وتحرير إرادته؛ وبعزوفه واستلاب إرادته لا تكـون.
ولكن مثقفينا الديمقراطيين، المقيمون منهم والمهجرون، مازال أمامهم الكثير للربط بين تلك الحلقات المتناثرة، وللربط بينها وبين حركة الجماهير، وليكون لها حلفها أو جبهتها الموحدة، ولتتشكل كتلة تاريخية ذات قدرة على الفعل والتغيير، في مواجهة هذا الواقع المتأزم.. إن هذا الواقع يطالب بثورة ثقافية، ولكنها لا تأتي عفواً ومن تلك المواقع المحاصرة، وإنما بالتصميم والمبادرة، وأن تجد صلة الوصل بينها وبين الممارسة الشعبية، والعفوية بطبيعتها؛ في معارضة الواقــع.
المظاهر الدينية نزوعاً لمقاومة الاستبداد:
والواقع أن الشعب في قطاعاته المسحوقة الواسعة، والتي همشتها النظم أيضاً وسلبتها كل حرية سياسية، وحالت بينها وبين أن تعبر عن روابطها ومصالحها المشتركة، في أية روابط أو تجمعات نقابية أو مهنية أو جمعيات وأحزاب سياسية, خارج أطر سيطرة نظم الاستبداد الفئوي وسيطرة أجهزتها السلطوية, راح يمارس أنماطاً من الثورة الثقافية على طريقته العفوية وفي مواقعه الطبيعية, إنها ثورة سلبية, أي ثورة يعبر بها عن رفضه الانصياع للهيمنة التي تحاول إخضاعه لها نظم التسلط الفئوي والاستبداد, وليقيم حدوداً فاصلة بينه وبين هذه النظم التي أصبحت تشكل بالنسبة له نمطاً استعمارياً في السيطرة وشيئاً خارجاً عنه وغازياً.
إن المجتمع الشعبي, في رفضه للظلم والاستبداد وما حمله معه من فساد, وفي رفضه للأيديولوجية التي تحاول الطبقة المسيطرة وأنظمة الحكم أن تفرضها عليه بأساليب الهيمنة الشمولية, بدءاً من المدرسة والتعليم إلى الصحافة والإعلام ودور النشر, وإلى النوادي والجمعيات والمنظمات النقابية و” الشعبية ” التي تسيطر عليها بأجهزتها المختلفة, بل وحتى عبر المؤسسات الدينية الرسمية التي تسيطر عليها الدولة. إن هذا المجتمع الشعبي في مواجهة الفساد المستشري وقيم الترف والأنانية والجري وراء المال وسيطرة المجتمع الاستهلاكي وما يعممه من قيم مادية وفردية, وما يرافق ذلك من سوء إدارة ومن تلويث للبيئة وتشويه للحياة, ومن فُحش وتبذل ووشاية واستخفاف بقيم الشرف والأمانة والصدق..
وفي مواجهة ذلك الغزو الثقافي المنظم الذي لا يرى فيه الشعب إلا طابعه الغريب عنه والمستورد والمفروض من قبل الطبقة المسيطرة وبتعميم أنماط حياتها, باسم الحداثة والتحديث والتقدم التكنولوجي والذي لا يُعمّم في الواقع إلا الزيف والجهالة بما ذلك تزوير الشهادات الدراسية والرتب العلميــة..
في مواجهة هذا كله, فإن المجتمع الشعبي وجد سبيله الى التمرد على ما يُفرض عليه من صياغات لحياته وعلاقاته وثقافته, وعبّر عن رفضه ومعارضته لتلك الهيمنة وذلك الغزو, بالاحتماء بقيمة الأخلاقية العريقة وتقاليده الاجتماعية الموروثة وثقافته الدينيــة.
إن ظاهرة الرجوع إلى الدين ( في شعائره وتعابيره الثقافية المختلفة وفي ممارسته اليومية بل والأزياء التي يُقبل عليها الناس ) في السنوات الاخيرة, وامتدادها لتنتقل من مجتمع الحي ومجتمع القرية إلى طلبة المدارس والجامعات والمعاهد, هي نمط عفوي في التعبير عن ثورة الشعب الثقافية ضد الهيمنة الشمولية التي تحاول فرضها نظم الاستبداد الفئوي وضد الإذابة وتضييع الهوية, فعودة الشعب إلى تلك القيم والتقاليد التي صنعت ترابطه ووحدته في الماضي والتي أثبتت جدواها عبر مراحل عدة من تاريخه, في الحفاظ على بقائه, وعلى صموده في وجه الغزو المغولي والحكم المملوكي والسيطرة العثمانية ومحاولات التمثل والتتريك, وفي وجه الغزو الثقافي للاستعمار الغربي الكولونيالي, والتي تقدم له صيغاً حياتية في التضامن والتراحم والتكافل الاجتماعي, إنما يقف بها في وجع عمليات التفتيت والتضييع والإخضاع التي تفرضها نظم الاستبداد, في نمطها الاستعماري الداخلي لشعبها وفي تابعيتها الخارجية وأنماط حياتها المستوردة مثل استيراد أفكارها وبضائعها الاستهلاكية.. هذه العودة , لا بد أن نفهم حقيقتها وأبعادها ونتعامل معها, أي أن نفهم شعبنا ونعرف كيف ننتقل معه من هذه المعارضة السلبية إلى طورٍ ثوريٍ جديد. ويكفي أن نُذكّر هنا بالتجربة الوطنية لشعبنا العربي في الجزائر, فاعتصام الشعب بثقافته الدينية كانت عدته خلال مدة طويلة من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني للصمود في وجه التمثل والدمج وإضاعة هويته الوطنية, والثورة الثقافية الدينية التي قادتها في البداية طلائع مثقفة دينية, في وجه هيمنة الثقافة الاستعمارية, كانت المدخل لثورة الجزائر التحررية الكبرى, ومن خلال الالتحام العضوي بين طلائع تلك الثورة الوطنية بحركة الجماهير ومجتمعها الشعبي, استطاعت أن تتقدم على طريق اقتلاع الهيمنة الاستعمارية وإنجاز مهماتها الثوريــة.
إن عودة الناس بكثرة إلى المساجد والكنائس وازدحامها بهم في السنوات الأخيرة, ليس تعبيراً عن ردة رجعية, كما يصوّر لنا المثقفون الملتصقون بنظم الاستبداد, بل عن رفض للاستبداد ومفاسده ( وليس بعدَ رجعية الاستبداد من رجعية ) بل هي بحق نمط من الممارسة الشعبية لصيغة عفوية في الثورة الثقافية تقف بها ضد الهيمنة الايديولوجية لنظم الاستبداد, وهي تحمل تشبثاً بالقيم الأخلاقية والانسانية الأصلية التي تعمقت في النفوس عبر مراحل التاريخ. وهي تحمل في الوقت ذاته تطلعاً إلى تجسيد هذه القيم في روابط وعلاقات اجتماعية جديدة, هذا بعد أن دمرت نظم الردة والفئات البورجوازية الجديدة الحاكمة, كل ما عملت مرحلة النهوض القومي, مرحلة عبدالناصر, على تعميقه من روابط اجتماعية متقدمة وقيم اخلاقية جديدة, في تثقيفها القومي والوطني وفي تحويلاتها الاشتراكية, وما شدته من أواصر بين الأصالة والتجديد وبين الحوافز الأخلاقية والروحية الثورية التي يجعلها الدين في جوهره كتطلع للخير والعدالة والمساواة, وروح العصر. لقد أنجزت حركة الردة مهمتها في قطع تلك الأواصر والروابط, وأفسدت وشوهت كل انجازات مرحلة النهوض الناصري وكل شعاراتها ومقولاتها, من خلال تبنيها الكاذب لكثير من تلك الشعارات والمقولات, بحيث لم يعد يرى الشعب فيها من معانٍ, إلا ما هو ماثل أمامه من استغلال فاحش ومن قسر وظلم وتشويه للمبادئ والقيم, مما يضعها في موضع الريبة والشك.
إن هذا الرجوع للدين والتدين في معارضة ما هو قائم وما يُفرض من فوق, وتحصناً ضده إذا ما أخذ جانب التشدد في ممارسة الشعائر الدينية والتمسك بشكليات في الزي والحجاب الشرعي والجلباب، بالإضافة إلى الأجواء التي أخذت تحيط بها الأوساط الشعبية اعيادها الدينية ومناسبات افراحها وأتراحها ومآتمها وأعراسها حيث يتاح لها أن تلتقي وتجتمع وتعبر.. لا بد أن ننّفذ إلى ما وراء مظاهره وشكلياته من تعابير الاحتجاجات على المظاهر الاحتفالية التي تفرضها السلطات على الناس في مناسبات السلطة ومهرجاناتها الاستفزازية وأعيادها, ومن الوقوف ضد الهيمنة الإيديولوجية لنظم الهيمنة الشمولية. فهي في رفضها, إنما تحمل ايضاً تطلعاً للتغيير وإن لم تكن ترسم معالم هذا التغيير, فهي إذا لم تكن تعرف بعد بوعيها الجماعي ماذا تريد بالتحديد, فإنها تعرف ماذا ترفض, وهذا ما جعلنا نسميها بالثورة الثقافية السلبية للشعب.
وإذا ما شاب المعارضة الشعبية, في الأوساط المتخلفة فيها, شوائب من التعصب المعطِل ومن التفكير الغيبي والأسطوري, وإذا ما دلل ذلك على التخلف المقيم, فلا بد أن ندرك أيضاً ما لنظم الاستبداد من دور في تحريضه أو الإبقاء عليه, فتعطيل أجواء الحرية الفكرية والسياسية التي تنير العقول وتكنس مثل تلك الشوائب, وظروف القهر والتفتيت الاجتماعي التي أخذت بها قوى الردة, من العوامل التي تنكص بالمجتمع الشعبي إلى الوراء وتحرك العقليات البدائية والغيبية. إنها شوائب تشد إلى الوراء وهي ولا شك معوق من معوقات التجديد التي يتطلبها الاندماج الوطني لفئات الشعب وتفتُح وعيها السياسي كما تعيق حوافز الإصلاح الديني والتكيف مع روح العصر واستيعاب معطيات التقدم العلمي، كما تحرض أيضاً أنماطاً من الإرهاب الفكري لدعاة الإصلاح والتجديد. إن التصدي لهذه الظواهر لا يكون إلا بتعميم القيم الديمقراطية والتمسك بما تحملها الثقافة الدينية ذاتها من حض على التسامح والتآخي الوطني والتراحم الإنساني وتحكيم العقل في مواجهة أمور دنيانا ومستجداتهــا.
ولا بد أيضاً من أن نميز هنا بين المعارضة الشعبية الجماعية والعفوية والتي تتحصن بعاداتها وثقافتها وأخلاقيتها الدينية، وبين الحركات السياسية الفئوية المعارضة، والتي تتسلح بالإيديولوجية الدينية، والتي تحرك مثلما تحرك النظم الفئوية، حوافز الانقسام الطائفي في المجتمع، وتجنح إلى الوسائل الإرهابية في ممارسة نشاطاتها، إنها أنماط من الطائفية السياسية تعبر بدورها أيضاً، كما تعبر نظم الاستبداد، عن مصالح فئوية وعن نزوع للاستيلاء على السلطة ومذهبة الدولة والمجتمع بصورة قسرية. فهي لا قومية ولا ديمقراطية، وهي في نهجها الإيديولوجي تقفز مما هو دون الأمة ( أي الطائفة )، إلى ما هو أوسع من الأمة، وإلى الشمولية الكونية، وبذلك تتجاوز البناء الوطني والبناء الديمقراطي للأمة، وتتطلع هي أيضاً إلى دولة سلطوية بلا أمة، كما أن نهجها ذاته يشد بها على التابعية وإلى ولاءات غير وطنية، ويجعل منها رصيداً لحركة الردة وقوى الثورة المضادة، في معارضتها لأي نهجٍ جديد للنهوض القومي وأيةِ صياغةٍ ديمقراطية للوحدة الوطنية لجماهير الشعب.
ثم لننظر بهذا المعرض إلى الأدوار المتناوبة التي أخذتها تلك الفئات السياسية التي تتسلح بإيديولوجية دينية وتُحرض عصبية طائفية، وسلطات النظم الفئوية التي تعلن عن إيديولوجية وتتسلح بعصبيات طائفية، في محاولة الهيمنة على الأوساط الشعبية المتدينة والاستيلاء على المنابر والمؤسسات والجمعيات الدينية. بل كثيراً ما فسحت نظم الاستبداد في البداية لتلك الحركات السياسية الدينية مجال النشاط والحركة أو حاولت التحالف معها، لتسد الطريق في وجه قوى المعارضة الديمقراطية وتخلي الساحة الشعبية منها، ثم ما لبثت أن سلكت سبيل القمع والعنف ضدها عندما أخذت تشكل خطراً أمنياً بالنسبة لها، وامتدت بقمعها وعنفها لتشمل كل المعارضة ولتتناول أيضاً جميع الأوساط الشعبية. هذا ما جرت عليه الأمور في مصر مثلاً أيام حكم السادات، وهذا ما جرت عليه أيضاً وتجري في دول عربية أخرى في مشرق ومغرب الوطن العربي، فباسم مقاومة إرهاب ” القوى الرجعية ” عززت السلطة وسائلها وأجهزتها القمعية وأطلقتها في وجه المعارضة الشعبية بكل أشكالها، وضد أي رأي حر أو موقف مستقل، كما وجدت سبيلها لتمد تدابير هيمنتها إلى كل المنابر والمؤسسات الدينية، كما نظمت تحت سيطرة أجهزتها جمعيات وحركات دينية تعمل بأمرتها ومُسخّرة لدعايتها، ومدت سيطرتها إلى كل المعاهد الدينية، بل أقام بعضها معاهد لتخريج رجال يحملون العمائم، مخبرون ومخابراتيـون.
ومع ذلك كله، يظل لدى الشعب في مواقعه العفوية، معين لا ينضب للتعبير عن معارضته ورفضه، ولا تقوى عليها نظم الاستبداد بكل أساليبها وممارساتها، وهي تبتكر دائماً من خلال روابطها الجماعية القائمة، أساليب جديدة في التعبير الفردي والجماعي عن معارضتها للقهر والظلم والفساد. وإذا كانت النظم تحاول التغطية على ذلك التحدي الشعبي، بالديماغوجية والمناورة وتقريبها لرجال الدين ورصفهم في الصفوف الأمامية الأولى لاحتفالاتها ومهرجاناتها، ومدهم بالمنح والعطايا، فإنها تدرك ما تحمله تلك المعارضة الشعبية الدينية من مقاومة لهيمنتها وما يمكن أن تهيئ له من مخاض ثوري ضدهــا.
هذه المعارضة الشعبية العفوية، لا بد للقوى السياسية الوطنية الديمقراطية من أن تفهمها لتفهم طبيعة شعبها ونوازعه وحاجاته، وأن تعرف كيف تتعامل معها ومع ما تحمله من حوافز أخلاقية وإنسانية وروحية للتضحية والبذل، لتعرف كيف تتعامل معها ومع ما تحمله من حوافز أخلاقية وإنسانية وروحية للتضحية والبذل، لتعرف كيف تلتحم بشعبها وكيف تنتقل بها من مواقع المحافظة والمعارضة السلبية، إلى مواقع التجديد والتطلع بآمالها وأهدافها إلى المستقبل، ولتحرك ما في أعماقها من حوافز تغيير وثورة. وإلا كيف تكون تلك القوى ديمقراطية، إذا لم تُحرك إرادة شعب ولم تلتحم مع الإرادة الجماعية لهذا الشعب في غالبيته المظلومة والمسحوقـة؟.
إن نظم الاستبداد قد عملت دائماً، في ممارستها القمعية والتفتيتية ضد القوى الوطنية الديمقراطية، على تهميش تلك القوى وقطع سبل التلاقي وسبل التفاعل بينها وبين المجتمعات الشعبية، بما فيها القواعد العمالية والفلاحية المشدودة من جذورها إلى تلك المعارضة الشعبية، أياً ما كانت محاولات النظم للسيطرة عليها من فوق ووضعها في أطر هيمنتها وتنظيماتها “الشعبية والنقابية والحزبية”. ولكن تلك القوى الوطنية الديمقراطية تظل تُهمش نفسها اكثر وتعزل نفسها عن أوساط شعبية جماهيرية واسعة هي بالأساس مادة كل نضال وينبوع كل ثورة، عندما لا تجد سبيلاً إلى التأليف بين فكرها القومي الديمقراطي وفكرها الاشتراكي، وبين ثقافة الشباب الدينية وما تحمله من قيم أخلاقية وإنسانية، وأن تجد نقاط اللقاء والتكامل بين معارضتها الديمقراطية وبين المعارضة الشعبية العفوية، لتلتقي معها على القيم الانسانية والأخلاقية الواحدة قيم الحرية والمساواة والعدالة والتسامح والتضامن الاجتماعي والإخاء الانساني، وعلى النضال ضد الظلم والتسلط والاستغلال والفساد. ثم لماذا لا نتعلم من تجاربنا الوطنية في الماضي؟ فأيام النضال ضد الاستعمار وضد السلطات التي تحكم بإرادته ولبسط سيطرته، كانت الجماهير تخرج مظاهرات طلبة الجامعات والمدارس، لتذهب أول ما تذهب إلى المساجد الكبرى، كانت تذهب إلى الأزهر في القاهرة والى الجامع الأموي في دمشق، لتتجمع هناك مع الشعب ومع جموع المصلين، وتخرج في مظاهرة موحدة وشعارات موحدة ضد السلطات الاستعماريــة.
هذه هي الهجرة إلى الجماهير، جماهير شعبنا، ولا يجوز أن يصدنا عنها تحفظ من فقدان هوية التقدمية والتقدم، فلا تقدمية إلا بتقدم جموع الشعب وإلا بتقدم الوعي الجماعي للشعب ولا يجوز أن يُحرجنا فيها اتهامات لنا بالرجعية، فالرجعية هي الرجوع عن أهداف الأمة والارتداد بالأمة إلى الوراء، وإلى مواقع الطائفية والرجعية, ثم هذا الإقطاع السياسي المسيطر, ولا رجعية فوق رجعية الاستبداد والحكم الفاشي. ثم إن ذك التأليف والترابط لا يجوز أن يأتي تكتيكاً ديماغوجياً لمجرد كسب الشعب في موقف. بل لا بد ان يأتي كعملية ربط فعلي وعضوي بين الأصالة والتجديد, في الفكر والممارسة وهذا أيضاً موضوع من مواضيع الثورة الثقافية, تدخل في إطار عملية المرابطة والنقد التي تقع مهمة القيام بها, على العناصر والمجموعات السياسية والثقافية الديمقراطيـة.
إنها ليست صيغة تحالف بين تيار أيديولوجي علماني وآخر ديني نطالب بها, إنما يقوم بين قوى سياسية واجتماعية تجمع بينها مصالح مشتركة في مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي للوطن, وتؤلفها أهداف سياسية موحدة وصيغة مشتركة لنظام الحكم الذي تطالب به و تريده. ولكن النهج الديمقراطي في التفكير والممارسة, هو الذي يضع أمامنا بين أولى مهماته التي لا بديل عنها, صياغة الوحدة الوطنية لجماهير الشعب وبناء مقومات وحدة الأمة, لتكون هناك ديمقراطية في الحكم ودولة للأمة تعبر عن مصالحها وتطلعات شعبها. ومن أولى مقومات وحدة الأمة, الثقافة المشتركة لشعبها أو شعوبها وهذا ما يطالب الفكر القومي الديمقراطي أن يستلهم ثقافة الشعب الدينية لتأصيل قوميته وإغنائها بمضامينها الأخلاقية والروحية, كما تطالب حملة لواء الثقافة الدينية أن يكونوا وطنيين وديمقراطيين أولاً, أي أن يضعوا ثقافتهم وتطلعاتهم الإنسانية الشمولية والكونية, في إطار الوحدة القومية للأمة, وبروح الوطنية والمواطنة, أي بروح المساواة بين فئات الأمة كلها, على تعدد مذاهبها ومعتقداتها, أياً ما صغرت تلك الفئات وقل عددها, وبذلك وليس بغيره يقوم الإندماج الوطني للأمة. وعبر الأمة ووحدة كيان هذه الأمة, يكون التطلع إلى علاقات وروابط إنسانية وعالمية أوسع وأشمل, وعبر شكل الأمة ووحدتها أولاً يأتي تجاوز الأمة إلى نظام عالمي جديد وثقافة إنسانية مشتركة, وبغير ذلك لا يكون إلا ضياعاً بين الأمم.
العودة الى الجماهير:
إنه مطلوب إذن تبديد تلك الغربة القائمة بين القوى القومية الديمقراطية وبين الأوساط الشعبية المتدينة, حتى لكأنها من عصرين مختلفين ومن ثقافتين متباينتين بل ومن أمتين متفرقتين, وثمة مبادرات في هذا الاتجاه قامت وتقوم بها طلائع ثقافية من الجانبين, أي من جانب الآخذين بنهج الثقافة الدينية أو من المفكرين الديمقراطيين, تعطي تعبيراتها في الكثير من الكتابات والندوات واللقاءات الثقافية, والتي تتناول مواضيع العروبة والإسلام, والديمقراطية والوحدة, والدولة والمجتمع, والثقافة والحريات, والأمة وتاريخها… تلك في الواقع تمهيدات وخطوات إلى الأمام, ولكنها مازالت تشير إلى وجود أزمة في العلاقات بين الطرفين, أكثر مما تضعنا على طريق تجاوزها, لأن الحل والتجاوز لا يأتيان في النهاية إلا عبر عمل سياسي مشترك للتغيير, يصبح نهج نضال وعمل, ومنطلقاً إلى إقامة روابط وعلاقات جديدة, تضع القوى الديمقراطية في خضم حركة الجماهير لا على هامشها, وتُحوّل المعارضة السلبية للشعب, إلى معارضة إيجابية تدفع على طريق الثورة وعلى طريق أهداف الأمــة.
إن تجربة عبدالناصر في هذا المجال أيضاً, أي مجال التعامل مع عفوية الجماهير وتسييسها وتحريض نضاليتها والتقدم بها على طريق أهداف الأمة, هي تجربة مُعلمة ورائـدة.
إن التلاقي بين ثورة عبدالناصر الوطنية التقدمية وبين الثقافة الشعبية الدينية وقيمها الروحية والأخلاقية لم يكن تلاقياً ديماغوجيا أو عارضاً كما جرت الأمور بالنسبة لكثير من النظم والأحزاب, بل كان تعبيراً عن تلاحم عضوي بين قيادة عبدالناصر وجماهير الشعب, وعن تفاعل جدلي بينهما أعطى حوافز تقدم ونقل الشعب إلى مواقع جديدة في روابطه الاجتماعية وعلاقاته الاقتصادية والإنتاجية. ولم يكن هناك غرابة بالأصل بين ثقافة عبدالناصر السياسية وثقافة شعبه الدينية, فثقافة الشعب هذه كانت مصدراً أساسياً من مصادر, ثقافته, وكان لها دورها الكبير في تكوين أخلاقيته وإيمانه, وبالتقدم منها وعبر استيعاب حاجات الشعب ومعطيات العصر, كان التقدم نحو الاشتراكية, ونحو العمل على صياغة ثقافة قومية جديدة.
فما أمسكت به قيادة عبدالناصر, كقيادة وطنية تحررية، أن الأديان السماوية, عدا ما لها من جذور عميقة في وجدان شعبنا وفي حياة أمتنا وثقافتنا وتاريخها, وما حملته من قيم ومعان انسانية وروحية مُثلى, فإنها بالأصل كانت حوافز تغيير وثورة, ثورة ضد الظلم والطغيان وضد العبودية واستغلال الإنسان للإنسان, وضد التفرقة والتمييز العنصري والعشائري بين البشر… هكذا أخذ عبدالناصر بدين الشعب كما كافح في الوقت ذاته ضد الرجعية والتخلف وضد التعصب والفكر الغيبي وضد العصبيات الطائفية بكل أشكالها, وهكذا فتح ثقافة الشعب ودين الشعب على التقدم والتحرر والمستقبل. فالجماهير المتدينة اندفعت عام 1958 إلى الوحدة في المقدمة وناضلت ضد الانفصال والردة بكل قوة، والجماهير المتدينة اندفعت قبل غيرها مع التحويلات الاشتراكية وناضلت بكل إصرار ضد الارتداد عنها. هذا عندما أصبحت الوحدة, وأصبحت الاشتراكية, تعبيراً عن إرادتها الجماعية ومرتبطة بمنظورها الأخلاقي والإنساني الذي رسخته في وجدانها ثقافتها الدينية, ليصبح الإسلام عندها صنواً للاشتراكية والتحرر والديمقراطية وليس قيداً عليها أو يقف في معارضتها أو يحض للرجوع عنها. إن قوى الاستغلال الاقطاعي والرأسمالي ونظام التبرجز والردة, هي التي عملت وتعمل على استغلال الدين لتشد إلى الوراء وإلى النكوص والتراجع ولتبرير سيطرتها واستغلالهــا.
ولكن القوى الوطنية الديمقراطية, التي تقول بالتقدمية وبسيادة الشعب, إنما تنهج نهجاً لا ديمقراطياً ولا شعبياً, أي نهجاً خاطئاً, عندما تُحول إيديولوجياتها السياسية, من دليل عمل مطابق لواقعنا وحاجاتنا, وتكيفه بالممارسة, إلى مذاهب ونظريات شمولية تقوم على مقاولات قاطعة يراد فرضها على الواقع, فهي لا تزيد هنا عن أن تجعل من إيديولوجيتها السياسية ديناً آخر, وتنزل بمعتقداته في معارضة معتقدات الشعب الدينية, أو هكذا تعطي مقولاتها وشعاراتها انعكاساتها على المستوى الشعبي.
فالتبشير الديمقراطي بين أوساط الشعب, والعمل على إقامة تحالف عريض بين جميع قوى الشعب العاملة التي يسحقها الظلم والاستغلال والقمع والإذلال ضد نظام الردة والتابعية والاستبداد, لا يأتي عبر التقدم بنظرية فلسفية أو مذهب, بل هي عملية سياسية نضالية, وهي في الوقت ذاته عملية توعية وتنظيم, توعية سياسية تكشف طبيعة الاستبداد وعوامل هيمنته ومصادر سيطرته كما تكشف واقع الشعب وحاجاته ومواقع طبقاته الاجتماعية وفئاته العاملة, وهي عملية تنظيم أيضاً لتحالف هذه القوى, التي تمثل غالبية الشعب حيث تتقاطع مصالحها وتتلاقى أهدافها, في مواجهة حلف النظم الفئوية. فنحن لا نتقدم أية خطوة في هذا الاتجاه إذا قدمنا للشعب نظرية عن الصراع الطبقي عبر مراحل التاريخ, وحشرناه اليوم في واحدة من هذه المراحل حسب التصنيف النظري وحكمنا على تطوره من خلالها, بل المهم بديلاً عن ذلك أن نستوعب واقع هذا الصراع كما يجري في ساحتنا, وأن نخوضه في صف الشعب ضد طبقة واحدة هي الطبقة السائدة والمتسلطة في إطار نظام الاستبداد.
إن مثل ذلك الحشر والتطبيق الإيديولوجي الجامد, هو الذي جعل الأحزاب الشيوعية الرسمية في بعض الأقطار العربية, تبرر تحالفاتها مع نظم الردة والاستبداد, عن طريق تطبيق قوالبها الإيديولوجية الجاهزة عليها, وقد أدّى بها الأمر في النهاية إلى الوقوف مع هذه النظم ضد غالبية الشعب وطبقاته الكادحة. فهي قد وقفت مع حركة الانفصال ونظام الانفصال عام 1961 في سورية, وضد العمال والفلاحين بعد قرارات عبدالناصر الأولى في التحويل الاشتراكي مبررة ذلك بمقولاتها الإيديولوجية في تشخيص المرحلة وتصنيفها, إذ هي مرحلة تطور رأسمالي للمجتمع بقيادة البورجوازية. كما تحالفت بعد ذلك مع نظام للتسلط الفئوي, من خلال تطبيق قوالب إيديولوجية جاهزة عليها, لتجد فيها “نظم” بقيادة “ديمقراطيين ثوريين” , بل وقالت بالتحالف معها “لبناء الاشتراكية”، ومن حقنا اليوم أن نسألها أي تقدم تمضي إليه وأية اشتراكية تبني؟.
إن الإيديولوجية هي التي يجب أن توضع على محك الممارسة والواقع لا العكس وهذا ما يطالب بمراجعة نقدية لكل الإيديولوجيات السياسية الجاهزة, سواء التي تشكلت في مرحلة مضت, أو التي استعارتها فئة أو حزب لتلبية حاجتها, لأن تكون لها إيديولوجية ونظرية, كما يطالبنا بمزيد من المعرفة للإحاطة بالأزمة التي نعيشها, وللتعرف إلى حاجات شعبنا الفعلية وما يتمخض في أعماقه ويطالبنا أيضاً بمزيد من التحديد والتوضيح, لمضامين المقولات التي نطلقها تعبيراً عن توجهاتنا السياسية, كمقولات التقدم والاشتراكية بل ومقولة الديمقراطية نفسها وما تقول به من حريات وتعددية ومن علمنة للدولة وعلمانية, وأن نعرف كيف نضعها في متناول الوعي الشعبي وقناعات الشعب, وكيف نُدخلها في صلب ثقافته الشعبية وكيف نُغنيها أيضاً بحرارة إيمان الشعب ونضاليتـه.
إن كثيراً من تلك المقولات مازال يعطي لدى الشعب أصداء مختلفة ومعايير متضاربة, كيف لا وجميع النظم والأحزاب تقول بأنها ديمقراطية وتعمل لسيادة الشعب بما فيها تلك التي أخضعت البشر لشريعة الغاب وتلك التي أوغلت في الاستبداد والديكتاتورية. ثم إن تلك المقولات كثيراً ما تأتي للشعب في صيغ مجردة أو أشكال مستعارة وغريبة عن ثقافته وحياته, وكأنها شيء يحاول غزوه وأتٍ من الخارج, فيغلق عقله في وجهها ويردها عنه ويسميها بالأفكار والمقولات المستوردة, وتراكمات ردود الأفعال هذه, أعطتها مضامين ليست منها في شيء, بحيث أصبحت وكأنما المقصود منها تجريد الشعب من ثقافته وأخلاقيته ومحاربة دينه وإيمانــه .
لنأخذ مقولة كمقولة العلمانية مثلاً, وما تواجهه من تحفظات وردود أفعال لدى جماهير شعبنا بما فيها الكثير من القواعد الناصرية وبخاصة عندما تترجَم في تعابير الدهرية واللادينية وفصل الدين عن الدولة. والعلمانية ليست مسألة دين ولا دين ولا تأتي كمعتقد في مواجهة المعتقدات الدينية بل العلمانية مسألة سياسية وهي من مضامين الديمقراطية وتفاصيلها, وهي تعني أول ما تعني حرية المعتقد وعدم مذهبة الدولة وجعلها حكراً لطائفة دينية معينة أو مذهب, وأن لا تسخَر الدولة كأداة بيد فئة تفرض معتقدها على الناس بالقسر, فهي دولة لكل المواطنين على اختلاف طوائفهم وأديانهم, وهي ترفض التعصب وتحض على التسامح, وتقول بالتعددية, تعددية المعتقدات السياسية كانت أم دينية أم مذاهب فكرية أو فلسفية, وتقول بالتعايش فيما بينها في إطار المواطنية والمساواة بين المواطنين..
إننا بهذا لا نكون قد اعطينـا لهذه المقولات مضامينها كلها ولا وفنياهـا حقهـا وأبعدنا عنها الالتباسات الكثيرة, ولا بد من العودة إليهما, لتكون مفاهيمنـا واضحة ومباشرة ومنسجمة مع تطلعـات جماهير شعبنـا وحياتـه وحاجاتـه, تبدّد الأوهـام, وتحـرّك حافــز الوحـدة والتـلاحم الوطني.
* * *
التعليقات مغلقة.