الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عائلة الأسد: أصول غامضة. وصراع وحشي على السلطة

محمد شهاب الدين *

يمثل هذا البحث، محاولة لفهم المنبت الاجتماعي لعائلة الأسد، ليس من أجل إثارة فضول عرقي أو انتسابي عابر، بل من أجل فهم المنبت الطبقي المحمل بالأحقاد وعقد النقص التي مكنت حافظ الأسد بعد صعوده من ارتكاب كل هذه المجازر، وجيشت قسماً كبيراً من طائفته حوله، كي تسهم في بناء وتحصين مملكته الوراثية، التي هزت الثورة السورية أركانها. إضافة لقراءة في سيرة حافظ الأسد الشخصية والسياسية، واستعراض للكثير من الأسماء العائلية التي تكالبت على إذلال الشعب السوري في ظل سلطته، وعلى صراعه مع أخيه رفعت، ثم محاولات التوريت لباسل أولاً وبشار تالياً… وشكل المقارنة بين بشار وأبيه المؤسس لمملكة الاستبداد!، وإنها محاولة- كذلك- لتأمل طبيعة القيم والأعراف والسلم الأخلاقي التي شكلت معياراً من معايير الشر السياسي والاستبدادي، الذي رافق أداء هذه العائلة القمعي في التاريخ السوري، وجسد عبثها المدمر في البنية الاجتماعية والأخلاقية للشعب السوري طيلة عقود حكم الأسد الأب ثم الابن!

تناولت العديد من الدراسات والأبحاث العلمية تاريخ الطائفة النصيرية (العلوية) إلا أنها تضاربت في معلوماتها وتفسيراتها من حيث الجذور والأصول العقائدية لهذه الطائفة والتي لسنا بصدد الحديث عنها وتفنيدها الآن؛ إلا أن مجمل هذه الدراسات قد أجمعت على أن النصيرية (العلوية) هم “فرقة من الشيعة الإمامية نفسها تماماً لكنهم انشقوا عنها بعد اتخاذهم طريقاً آخر بعد الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن)، وآية ذلك أن لكل إمام وفق المذهب الاثني عشري الإمامي باب خاص به… وقد كان سلمان الفارسي باب الإمام علي بن أبي طالب، وأما آخر باب في نظر العلويين هو (أبو شعيب محمد بن نصير) البصري النميري”- ومن هذا الاسم استمدت هذه الطائفة اسمها- وربما لهذا السبب كانت تكفرها العديد من الفرق الشيعية إلى أن أقرت إيران بأن النصيرية (العلوية) تنضوي تحت المذهب الشيعي، وذلك لأسباب سياسية من شأنها أن تخدم مشروع الهلال الفارسي (الشيعي) في منطقة الشرق الأوسط، وأما تسميتهم بالعلويين فقد كانت على يد فرنسا أثناء الاحتلال الفرنسي لسورية كما تشير الدراسات.

من بغداد وحلب إلى جبال الساحل السوري!

لقد كان للطائفة النصيرية (العلوية) عبر التاريخ مركزان الأول في بغداد والثاني في حلب ومن ثم انتقل إلى اللاذقية، أما مركز بغداد فقد اندثر مع دخول المغول إليها وأما مركز اللاذقية فقد استقر وبقي إلى يومنا والتي تشكل إحدى مكونات المجتمع السوري.

تضم الطائفة النصيرية (العلوية) عدداً من القبائل والعشائر أهمها: (القبيلة الكلبية) التي تقطن حالياً في القرداحة، و(الرشاونة)، و(المتاورة)، و(القراحلة) نسبة إلى منطقتهم حمام القراحلة الموجودة في محيط محافظة اللاذقية. ومن أشهر عشائرها (بنو رسلان) أو (الرسالنة) نسبة إلى جدهم رسلان، وهم من العرب الذين أتوا مع الأمير (حسن المكزون)، إضافة إلى (بنو حداد) نسبة للشيخ (محمد الحداد) ابن الأمير محمد السنجاري شقيق الأمير حسن مكزون، وكذلك (بنو الخياط) نسبة إلى الشيخ علي الخياط- وهم عرب الغساسنة- إضافة إلى آل (الخيّر) هذه العائلة الدينية التي طّلب منها المجيئ إلى القرداحة من قبل القبيلة الكلبية لإقامة الشعائر الدينية في القرداحة” بحسب عدد من المصادر التي تناولت أصول الطائفة النصيرية (العلوية) وغيرها الكثير من العشائر، إلا أن عشيرة “بنو الأسد” والتي عرفت بانتمائها للطائفة النصيرية فلم تأت أيٌ من المصادر والمراجع على تاريخ أصول هذه العشيرة التي حكمت سورية لأكثر من خمسين عاماً بالحديد والنار.. فمن هم “بنوا الأسد” وكيف هي نشأتهم وما هي الظروف التي أدت إلى وصولهم للسطلة يا ترى؟

ضمن هذه الدراسة سنتناول الجذور الواقعية لعشيرة “بنو الأسد” والظروف الموضوعية التي هيأت لها الوصول إلى السلطة في سورية ضمن إطار حكم الأب “حافظ الأسد” وتوريث الحكم لابنه “بشار الأسد” .

روايات باترك سيل: ماض بلا تـاريخ!

في أواخر القرن التاسع عشر “نزل مصارع تركي مجهول الهوية لقرية (القرداحة) وراح يصدح صوته متحدياً الناس فيها فتجمهر القرويون للمشاهدة والتمتع ولكنهم ما لبثوا أن أخذوا يتأوهون لمشاهدة أقرانهم يتساقطون واحداً تلو الآخر بين يدي هذا المصارع، وفجأة برز إليه رجل قوي البنية في الأربعينيات من عمره، وأمسك به من وسطه ورفعه في الهواء ثم طرحه أرضاً، فصاح القرويون: يا له من وحش! إنه وحش!! وكان اسم هذا البطل سليمان ولكنه منذ ذلك الحين أصبح يُعرف بـ سليمان الوحش”.

هكذا اختصر لنا باتريك سيل نسب عائلة “الأسد” التي ظهرت بعد هذه القصة وكان بطلها سليمان الوحش جدّ حافظ علي الأسد حاكم سورية السابق والد ولي العهد بشار الأسد. كان هذا في كتاب “الصراع على الشرق الأوسط” للكاتب البريطاني المقرب من عائلة الأسد. ولكن ماذا قبل سليمان الوحش يا ترى؟ أين كان يقطن وما هو موطنه؟ وبماذا كان يكنّى قبل ذلك ومن هو والده؟ أهكذا العرب تُعدد أنسابها!! ولمن.. لعشيرة حاكمة!!

لقد تعددت المعلومات حول حقيقة أصول عائلة الأسد فكان منها أن أصل هذه العائلة من أصفهان ثم انحدرت إلى كيليكية وانتهت بمجيئ سليمان إلى القرداحة واستقراره بها، ومنها ما تشير إلى أن سليمان يدعى بسليمان البهرزي نسبة لمدينته “بهرز” وهي منطقة عراقية تتبع إدارياً لمحافظة ديالي شرق العراق وأنه من أصل يهودي وتم زرعه بين الطائفة العلوية لتهيئة عائلته للحكم والسيطرة على سورية.. وغيرها الكثير من المعلومات المتضاربة والتي لا تسند إلى دعائم وركائز موضوعية حول هذا الأمر ولكن تضارب المعلومات يؤكد على الشكوك الكثيرة فيما يخص أصول هذه العائلة.

يزعم باترك سيل أن عائلة علي سليمان تترأس عشيرة (العيلة) الفرعية من قبيلة (الكلبية)، بينما يقول (نيقولاوس فان دام) أنهم فرع من عشيرة المتاورة.. وهو مركز متواضع ولكنه حقيقي، كما يرى باحثين آخرين… بينما يقول (دانيال لوغاك) في كتابه (سورية الجنرال الأسد) عن انتماءات حافظ العائلية:

“كان حافظ الأسد ابناً لأحد صغار الأعيان في القرداحة، وكان ينتمي إلى عائلة ذات نفوذ كبير، من قبيلة (الكلبية) التي كانت تسكن منطقة الجبال الساحلية. وكان جده سليمان علي قد عمل في خدمة عائلات ثرية من السنة والمسيحيين الذين كانوا يريدون السيطرة على المزارعين العلويين، بينما كان والده (علي الأسد) مزارعاً يحظى بالاحترام في قريته، ومعروفاً بشجاعته وقوة شخصيته”.

نظرة على تحقيق الأنساب!

ولكي نصل لنتيجة منطقية حول هذا الموضوع فلا بد أن نعرف في بادئ الأمر أن النسابين العرب يعتمدون على عدة طرق في تحصيل نسب القبائل والعشائر والعائلات، أولها هي:

1- وجود اسم العشيرة أو العائلة المراد تفنيد أنسابها للتمكن من البحث عنها في شروحات العرب القديمة وأمهاتها وبإسقاط ذلك على “بنو الأسد” نجد أنه بالأساس لم يُعرف أي اسم عائلة للجد سليمان قبل وقوع قصة “المصارع” وعلى الرغم من أن باترك سيل نسّبهُ للقبيلة “الكلبية” إلا أنه لم يجرؤ على ذكر اسم عائلته التي تتبع لهذه القبيلة في أي موضع من مواضع كتابه خوفاً من تبعات انكشاف هذه الكذبة في حال وقوع هذا الأمر إضافة لذلك فإن ما يؤكد تضارب المعلومات في هذا المضمار هي رسالة الدكتوراة لـ “نيقولاوس فان دام” بعنوان “الصراع على السلطة في سورية” فقد نسب فيها “بنو الأسد” إلى قبيلة المتاورة ولكنه أيضاً لم يذكر أسم العائلة التي ينتمي إليها سليمان الوحش فهذا التضارب في المعلومات كفيل بإسقاط كلتا النظريتان.

2- تدوين المعلومات المتواترة عن كبار السن التابعين للعشيرة والعائلة المراد تحصيل أنسابها أومن قبل كبار يتبعون لعشائر أخرى محيطين بها جغرافياً وفي هذا السياق أظن أنه لو كان هناك أي ثغرة تمكن “بنو الأسد” من إثبات نسب لهم من إحدى القبائل المكونة للطائفة النصيرية (العلوية) لما توانت عن فعل ذلك قيد انملة، لما في ذلك من تعزيز الولاءات الطائفية لعشيرتها وتوطيد حكمها أكثر فأكثر، وعلى الجانب الآخر وفق هذا المضمار فلابد من الاستشهاد بما قالته الأستاذة “سلمى الخير” ابنت الشيخ “عبد الرحمن الخير”- كبير مشايخ الطائفة النصيرية (العلوية)- للدكتور “محمود سيد الدغيم” عندما كانت مدرّسة (فلسفة) في دار المعلمين بالجزائر أن “حافظ علي الأسد ليس من أهل القرداحة، وإنما جاء جده إليها وقد سكن في البداية عند مدخلها أي خارج القرية، وقد أطلق عليهم لقب بيت (الحسنة) أي الصدقة، لأن أهل القرية كانوا يتصدقون عليهم بسبب تدني ظروفهم المعيشية.. فقد كانوا فقراء ولم تكن لديهم أية أملاك في القرية، إلا أنه وأولاده كانوا أشداء في أجسامهم فأطلِق عليهم أيضاً لقب (الوحش) ومع وجود الانتداب الفرنسي في سورية قد تم تسميتهم من قبلهم بعائلة (الأسد) وقام مجلس الطائفة بتعميم لقبهم هذا في القرية وباتوا يُعرفون بعائلة الأسد”.

تمثل هذه الشهادة إحدى شروط الطرق الرئيسية في تأصيل الأنساب فآل الخيّر هم من كبار عائلات الطائفة النصيرية (العلوية) الدينية وأحد أهم أعضاء مجلس الطائفة وبالتالي هم من الوجهاء المعروفين والمحيطين بالظروف المادية والموضوعية لـ”بنو الأسد” وهذه المعلومات التي قدمتها الأستاذة ‘سلمى’ تتقاطع في العديد من الظروف التي بيّنها (باتريك سيل) فيما يخص اللقب بغض النظر عما إذا كان سببه قصة المصارع التركي، أم القوة البدنية، فكلاهما يعبران عن نتيجة واحدة.. إلا أن الأهم في كلام ‘الخيّر’ أنه لم يكن لـ”بنو الأسد” أية أملاك في القرية، وهذا الأمر يشكل نتيجة منطقية، لمسألة قدوم (سليمان الوحش) للقرية، وأنه ليس من أبنائها.. فحتى الفقراء نجد لديهم أملاكاً، تعود لآبائهم وأجدادهم في مناطق النشأة الأولى.

تجنب الحديث عن الأصل العائلي!

ومما سبق يتبين لنا بأن عشيرة “بنو الأسد” لا تعود أصولها لمناطق الطائفة النصيرية (العلوية) وربما لا تنتمي لأي منطقة سورية، والذي يؤكد هذه الشكوك هو التجنب الدائم في الحديث عن أصول عائلة الأسد من قبل أطراف النظام السوري مجتمعةً حتى يومنا هذا، فضلاً عن أن هذه المهمة تُركت لباحثين أجانب كـ”باترك سيل” و”فان دام” و”دانيال لوغاك”، وسواهم ممن كتبوا عن صعود الأسد لحكم سورية، في لعبة الصراع السياسي والعسكري والطائفي.

والحقيقة إن ما يهمنا كشعب سوري، ليس معرفة الموطن الأصلي لعائلة الأسد من أجل التغني به أو لعنه، بقدر ما يهمنا معرفة حقيقة مفادها: أن هذه العشيرة التي حكمت سورية باسم الطائفة النصيرية (العلوية) هي في حقيقة الأمر لا تمت لها بصلة، ولا حتى للشعب السوري بأسره؛ إلا أنه وللأسف الشديد فإن جزءاً كبيراً من الطائفة النصيرية لم تعِ هذا الأمر، وعلى الرغم من انكشافه بشكل جلي منذ قيام الثورة السورية عام 2011م، حيث أدى اصطفاف قسم كبير من الطائفة وراء هذه العائلة المجهولة الأصول والنسب، إلى التصاق سمة القتل والتدمير باسم هذه الطائفة، وهذا ما سعى له (بنو الأسد) ومن كان من خلفهم دعماً وتأصيلاً.

ظروف تكوين المملكة…

مما لا شك فيه أن لمملكة (بنو الأسد) كما لكل الممالك وأنظمة الحكم الشمولية، ظروف وأسباب شكلت الركائز الأساسية لقيامها واستمراريتها كلاعب فاعل ضمن “لعبة الأمم”، وقد تناولت معظم أدبيات العلاقات الدولية في هذا المضمار عدة مستويات لتحليل الظاهرة السياسية تحليلاً منطقياً، بهدف الوصول لتفسيرات واقعية وموضوعية تجاه الظاهرة.. وعليه يمكن القول بأنه كان لمملكة “بنو الأسد” عدة أبعاد ومستويات… فكان منها المستوى الدولي، والمستوى المجتمعي، ومن ثم المستوى الفردي.. وكل منها شكل إطاراً ولبنة جسدت قيام هذه المملكة القهرية، التي حكمت سورية لعقود مأساوية طويلة.

لقد مارس “سليمان الوحش” السلطة بطرق سلمية من خلال قوته الجسدية حيث عمل كقاضِ يحل النزاعات التي تقوم بين العائلات في القرية وهذا ما أكسبه مكانة خاصة قربته من مجلس وجهاء الطائفة النصيرية (العلوية) وهذا ما أخذه عنه ابنه (علي)، والد حافظ الأسد الذي لم يكن يتصور ربما أن هناك ما سيمهد الطريق لابنه في الوصول إلى رأس هرم السلطة في سورية عام 1970م.

أوصياء الماضي وأصدقاء الحاضر!

لقد تمكنت فرنسا أثناء الانتداب على سورية 1920م من تقطيع أوصالها، فكان من نتاج ذلك إعلان حلب ودمشق عاصمتين لدولتين منفصلتين إضافة إلى فصل جبل العلويين والدروز عن دمشق وإعلانهما دولتين منفصلتين عام 1922م، وهذا ليس بغريب عن سياستها المعتمدة آنذاك “فرّق تسد” وبحجة أنها نصبت نفسها حامية الأقليات في سورية فقد تمكنت من الدخول فيهم واستخدامهم كأداة للسيطرة على الحكم وقمع الاحتجاجات والاضطرابات القائمة من قبل السوريين في تلك الفترة وذلك من خلال انشاء “قوات المشرق الخاصة” عام 1921م تحت إمرة ضباط فرنسيين ليخدم فيها أهل الطائفة النصيرية (العلوية) والأرمنية والشراكس وغيرهم مستغلين بذلك عدم توافر فرص العمل لأفراد هذه الطوائف أثناء تلك المرحلة العصيبة.

ويمكن القول أن هذه القوات كانت بمثابة جسر عبور لفكرة تكتلات عسكرية ذات بعد طائفي (نصيري) كان بطلها الموعود للفترة اللاحقة “حافظ علي الأسد” خُدعت بها الطائفة النصيرية (العلوية) كما هو حال حكومات ما قبلها بعدم وعيها تبعات ذلك وعلى ما يبدو أن طور التأسيس قد بدأ عندما شب علي الأسد وأصبح برفقة أبيه في كل أمر وهذا ما بدا جلياً في علاقاتهم الجيدة مع الفرنسيين التي تجلت من خلال الوثيقة المعروفة التي خطها الممثلون النصيريون وكان من ضمنهم “سليمان الأسد” برفقة ابنه “علي الأسد” المطالبة بعدم رحيل الانتداب عن سورية أو إقامة حكم ذاتي للمناطق النصيرية (العلوية) والتي تعتبر نقطة تحول هامة في كشف النوايا الحقيقية في نفوس الموقعين وعلى رأسهم “سليمان الأسد” وفي هذا السياق فقد قال باتريك سيل: ” في العام 1936م أرسلت دمشق وفداً إلى باريس يحاول التفاوض معها على معاهدة فرنسا لتكون خطوة على طريق الاستقلال وكان من بين المواضيع الهامة بين فرنسا والوطنيين مصير الدولتين العلوية والدرزية، وكان الوطنيون يريدون توحيدهما مع سورية عكس النوايا الفرنسية وعندما شكلت الكتلة الوطنية السورية في دمشق عقب اتفاقية تأخرت طويلاً مع حكومة الجبهة الشعبية التي كان يترأسها ليون بلوم فقد حاولت تلك الكتلة أن تكبح مد النزعة الانفصالية فكوفئ “عزيز الهواش” (الذي كان أبرز علوي وقف في صف الوطنيين السوريين) بتعينه محافظاً لدمشق ولكن المندوب السامي الفرنسي لم يصادق عليها وفي سنة 1939م عين “شوكت عباس” حاكماً للدويلة العلوية، وكما أن جدّ الأسد ‘سليمان’ لم يتفق مع الانتداب قط ولم يذعن للمتعاونين الذين كانوا مدنيين ببروزهم للفرنسيين”!! إلّا أن الوثيقة التي وقعها النصيريون (العلويون) المطالبة بعدم رحيل الانتداب الفرنسي عن سورية الآنفة الذكر تقول عكس ذلك فقد كان من ضمن الأسماء الخمسة الموقعة عليها هم: “عزيز آغا الهواش” و”سليمان الأسد” وهذا يؤكد نفي المعلومات التي أوردها “باترك سيل” عن عدم تورط “سليمان الأسد” مع الفرنسيين في خيانة الوطنيين السوريين.

ويؤكد بعض الباحثين في هذا المجال بأن هذه الوثيقة الموجودة حالياً في أرشيف الخارجية الفرنسية والمحفوظة تحت رقم 3547 بتاريخ 1936/6/15- والتي أصبحت مُتاحة على الصفحات الالكترونية الآن- بأن النص الجوابي على هذه الوثيقة من قبل الحكومة الفرنسية، قد أثنى على التعاون النصيري (العلوي) طوال فترة الانتداب مع الفرنسيين، وتمت طمأنتهم بأنهم لن يتخلوا عن مستقبل الطائفة. فحتى لو تم إنهاء الانتداب الفرنسي ستبقى فرنسا حامية للأقليات، وأنه سوف يأتي يوم لن يحكموا فيه الجبل فقط وإنما سورية بأسرها!

يعتبر ذلك بمثابة تأكيد على نوايا لاحقة قد تجسدت فعلياً في وصول “حافظ الأسد” لسدة الحكم وليس المقصود هنا الطائفة النصيرية (العلوية) وإنما من نصبوا أنفسهم ممثلين عنها.. فلا يمكن- بالضرورة- إهمال المذكرات العديدة التي أصدرتها رجالات الدين النصيرية المؤيدة للوحدة السورية في ذلك الحين إلا أن الإرادة الخارجية قد هيمنت على الموقف في الفترات اللاحقة بنجاح عائلة الأسد بالسيطرة على مصير الطائفة النصيرية ومن ثم مصير سورية بأسرها وقد نجح في ذلك.

مما سبق يمكن تفهم الوضع الجيد والاستثنائي لـ”علي سليمان الأسد” سواء فيما يتعلق بتقديم التعليم الجيد لابنه “حافظ الأسد” في وقت لم يكن لأحد فيه من أبناء القرية يستطيع أن يحظى بتعلم فك الحروف، إضافة إلى تحليل الظروف التي سمحت لـ”علي الأسد” من وصول الجرائد الرسمية له لمتابعة مجريات الحرب العالمية في وقت لم تكن فيه هناك أي وسيلة إعلامية تذكر في المنطقة، فكيف تمكنت من كل ذلك عائلة شديدة الفقر كما عرف عنها يا ترى؟!!

ويقال أن “علي سليمان” استطاع أن يتحول من فلاح بسيط إلى أحد الوجهاء، وقد كافأه أهل القرداحة بأن طلبوا منه تغيير اللقب من الوحش إلى الأسـد في عام (1927).. وإذا صح هذا الكلام فربما يفسر شيئاً من التحول في أوضاع العائلة.

إلّا أن ما يثير السخرية في نفوس الكثيرين من الشعب السوري الآن هو أن الراعي الأول وواضع الحجر الأساس لحكم (بنو الأسد) وهي فرنسا، قد أصبحت اليوم (صديقة للشعب السوري).. وعلى ضوء ما يجري من أحداث منذ قيام الثورة السورية عام 2011م باتت تدين نظام بشار الأسد على الانتهاكات التي مارسها ضد حقوق الإنسان في سورية.. والأكثر مدعاة للسخرية، عندما واجه مندوب فرنسا الدائم في الأمم المتحدة (فابيوس) مندوب النظام (بشار الجعفري) بخيانة “سليمان الأسد” لوحدة سورية من خلال عرضه الوثيقة المعروفة!!

كابوس سوري يعلن حكماً أسدياً..

في السادس من تشرين من العام 1930م ولد من كان مقدراً له، أن يُدخل ذِكرْ (عائلة الأسد) المجهولة إلى هوامش التاريخ، فيكون بهذا المعنى: أمير (بنو الأسد) ولو بأثر رجعي.. حين انتشل عائلته من غياهب المبني للمجهول.. وقلد العديد من أفرادها مناصباً، من دون أن يورثها مجداً، او احتراماً حقيقياً في نفوس السوريين، الذين لا ينسون تشبيح، وسوء أخلاق معظم أفرادها معهم.

ولد حافظ الأسد في أول شتاء عرفته ثلاثينيات القرن العشرين.. ليغدو في مسيرته العسكرية المغامرة والغامضة والمليئة بالتقلبات والغدر بأصحاب الفضل (الطائفي) عليه، حاكماً مطلقاً على سورية بأسرها كما وعد الفرنسيون في ردهم التطميني على رسالة أعيان الطائفة العلوية المطالبة بدويلة علوية.

درس حافظ علي الأسد، الابتدائية في القرية، ومن ثم استكمل الثانوية في مدرسة (جول جمال) بمحافظة اللاذقية عام 1944م وسط أجواء سياسية محتدمة في نقاشاتها ما بين التيارات القومية والشيوعية والإسلامية، لينتهي به الأمر إلى انضمامه لحزب البعث العربي.

عند انتهاءه من الدراسة الثانوية دخل الأسد الكلية الجوية في حمص عام 1951م فكان ذلك بداية الطريق نحو تحقيق أحلام السلطة، إذ تخرج من الكلية الجوية برتبة ملازم طيار عام 1955م، وهذه كانت مرحلة التهيئة لقيام الجمهورية العربية المتحدة فغدت فترة كفيلة لتفكير استراتيجي يرسم طريق الأسد المستقبلي .

لا أحد يستطيع أن ينكر دهاء ومكر هذا الرجل وخاصة أمام نظرائه في المنطقة لتلك الفترة الذي نجح بتحقيق طموحاته الديكتاتورية وبصورة شرعية وقومية ثورية، لقد أدرك الأسد منذ دخوله الجناح العسكري الأهمية الاستراتيجية للمنظور الواقعي داخل الحلبة السياسية أي أهمية القوة العسكرية التي من خلالها يمكن تحقيق النصر والاستقرار السياسي الداخلي للحاكم- وهذا ما عمل عليه حافظ الأسد طيلة فترات حكمه التي مكنته من توطيد الحكم وتوريثه لابنه بشار الأسد- ويمكن القول أن استراتيجيته هذه بدأت برسم خطواتها الأولى منذ إعادة تشكل اللجنة العسكرية لحزب البعث عام 1957م بسيطرة من قبل ما عرف بالمثلث (العلوي) محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد ولعب الدور الأبرز في الانفصال عن مصر عام 1961م ومن ثم حركة 23 شباط/ فبراير 1963م التي مثلت جسر العبور نحو سدة الحكم إذ شكل هذا الانقلاب الإطار العام لاستراتيجية الأسد الساعية لاحتكار السلطة، واضعاً نصب عينيه التجارب الانقلابية السابقة في الداخل السوري والإقليمي فبدأ يعمل على جانبين اثنين الأول العسكري وذلك بإعادة ترتيب العلاقات وتبدلها مع حلفاء عسكريين بما يتناسب مع الانقلاب اللاحق أما الثاني فهو الجانب الحزبي (البعثي) لضمان عدم انتصار منافسين داخليين على مستوى القيادات المدنية من جهة وتوفير الغطاء السياسي اللازم لشرعنة الانقلاب العسكري وتوطيده من جهة أخرى وهذا ما حصل عام 1970م.

تحالفات عائلية وطائفية وصراع وحشي على السلطة!

قبل أن نتابع في سيرة حافظ الأسد العسكرية كوزير دفاع الموسومة بشبهات بيع الجولان، ثم كرئيس ارتكب المجازر بحق أبناء شعبه في جسر الشغور وحماه وحلب في الثمانينيات، لا بد من متابعة شكل الحضور العائلي لأقربائه في مشروع الاستيلاء على السلطة في سورية، وحكمها بقوة الحديد والنار، ولا بد من التوقف عند تحالفاته العائلية والطائفية، وأبرزها استخدامه لأخيه سيء الصيت والسمعة رفعت الأسد.. وأقرباء زوجته أنيسة مخلوف.

(رفعت) الذراع اليمنى!

فبعد المؤتمر الإقليمي الرابع لحزب البعث في (أيلول/ سبتمبر- تشرين الأول/ أكتوبر 1968) سيطر أنصار حافظ الأسد على المكتب العسكري للحزب، ومُنعت الاتصالات بين المسؤولين المدنيين والعسكريين البعثيين. وأصبح “رفعت الأسد” بمثابة الذراع اليمنى “المسلحة” لأخيه حافظ في هذا الصعود نحو السلطة. وبدءاً من عام 1964 تقلد قيادة قوة خاصة أنشئت في الأصل لدعم أنصار المجلس العسكري داخل الحزب، وتكونت كتائب الدفاع من عناصر مخلصة لعائلة الأسد، هذه القوة- كما ترى “كارولين دوناتي” في كتابها (الاستثناء السوري) هي التي شكلت نواة الحرس العسكري لحافظ الأسد، وقد استعان بها رفعت للتخلص من أنصار “صلاح جديد” في الجهازين العسكري والمدني للحزب، ولا سيما في المناطق العلوية كاللاذقية وطرطوس.. وبذلك وُضِع حدٌ لازدواجية السلطة بين الجناحين المدني والعسكري للبعث، وهي ازدواجية كانت قد سببت العديد من الخلافات الداخلية بين الضباط، وانعدام استقرار دام لعقود.

منذ ذلك التاريخ لم يعد هناك سوى سلطة واحدة هي سلطة حافظ الأسد، قائد الجيش والأمين العام للحزب والذي أصبح بعدها رئيساً.

وزير الدفاع يعلن السقوط المفاجئ للجولان

في يوم السبت الواقع 10 حزيران/ يونيو 1967م صدر البيان (66) عن إذاعة حزب البعث في دمشق ويحمل توقيع وزير الدفاع السوري اللواء حافظ الأسد معلناً سقوط القنيطرة بيد القوات الإسرائيلية واحتلت إسرائيل الجولان السوري. وكانت الشكوك مثارة بخيانة معينة يُعتقد أن الأسد كان طرفاً فيها كأضعف تقدير، هذا بدا جلياً من خلال الاجتماع الذي عقده البعث لعزل الأسد من منصبه والانتقادات الموجهة إليه من شركائه السابقين ونخص بالذكر “صلاح جديد”.

هذه الواقعة دفعت بالشعب السوري حين اندلعت ثورته لاستعادتها إرثاً مُراً من الهزيمة المتلبسة بشبهة الخيانة والتفريط، مطلقين تسميات عدة على “القائد الخالد” كما سمي حافظ الأسد لاحقاً.. فكان في المظاهرات التي تلعن روحه: “بائع الجولان” و”حامي حمى إسرائيل” وغير ذلك من المسميات.

ولكن هل فعلاً حافظ الأسد قد باع الجولان لإسرائيل؟ ومقابل ماذا يا ترى؟ أم أنها هزيمة شأنها شأن المعارك بين الأمم يدخل فيها خطأ الحسابات وسوء التقدير؟!

إن توافر المعلومات لأي واقعة في ضمن “لعبة الأمم” وإخضاعها للتحليل المنطقي يؤدي إلى استنتاجات واقعية ذات بعد موضوعي، غالباً ما يكون أقرب ما يمكن للحقيقة.. وضمن هذا السياق لا بد من إدراج حقائق موضوعية تخص الجولان وهي:

1- لقد أكد معظم المفكرين والمحللين الاستراتيجيين العسكريين منهم العرب والأجانب بأن هضبة الجولان ذات طبيعة جغرافية شديدة الوعورة، جعلتها من أهم الحصون الدفاعية ومن أصعب المناطق الاستراتيجية للتكتيك العسكري؛ ومن الصعب جداً أن تسقط بيد عدو خارجي طالما تسيطر فيها قواتها المحلية.. فكيف تمكن الجنود الإسرائيليين من أخذها إذا كانت فيها التحصينات الدفاعية السورية؟

2- قيام المثلث (العلوي) “عمران وجديد والأسد” بتسريح العديد من الضباط وقادة الألوية في الجيش السوري بعد انقلاب 1963م وهذا أدى بدوره إلى فقدان الجيش السوري العناصر النوعية كونها مدربة وذات خبرات سابقة بطبيعة الحال فدخل الجيش السوري بقيادات ميدانية غير مؤهلة وعلى أساس طائفي فكان مصير التكتيكات العسكرية فاشلاً.. طبعاً هذا إن أخذنا أمر السقوط من باب (حسن الظن) كالخطأ في الحسابات واتخاذ قرارات غير عقلانية.

3- لقد كانت هناك اتصالات سرية بين نظام البعث والولايات المتحدة للبت في مجريات الأمور فهذا ما أكد علية الوزير السوري المفوض في مدريد أثناء حرب حزيران الدكتور “دريد المفتي” حين قال : استدعاني وزير خارجية إسبانيا لمقابلته صباح يوم 28/7/1967 وأعلمني، ووجهه يطفح حبوراً، أن مساعيه الطيبة قد أثمرت لدى أصدقائه الأمريكان، بناء على تكليف السيد (ماخوس) وزير خارجية سورية للسفير الإسباني في دمشق.. ثم سلمني مذكرة مؤرخة في 27/7/1967.. ومد إليّ يده بصورة المذكرة، فقرأتها عجلاً ثم أعدتها إليه شاكراً.. وسجلت في مفكرتي ما بقي في الذاكرة من نص المذكرة: “تُهدي وزارة خارجية الحكومة الإسبانية تحياتها إلى السفارة السورية بمدريد، وترجو أن تعلمها أنها قامت بناءً على رغبة الحكومة السورية بالاتصال بالجهات الأمريكية المختصة لإعلامها برغبة سورية في المحافظة على الحالة الراهنة الناجمة عن حرب حزيران/ يونيو سنة 1967.. وتود إعلامها أنها نتيجة لتلك الاتصالات، تؤكد الحكومة الأمريكية أن ما تطلبهُ الحكومة السورية ممكن، إذا حافظت سورية على هدوء المنطقة، وسمحت لسكان الجولان بالهجرة للاستيطان في بقية أجزاء الوطن السوري، وتعهدت بعدم قيام نشاطات تخريبية من ناحيتها تعكر الوضع الراهن”، ومن ثم تم ملاحقة ‘المفتي’ بعد ذلك من قبل النظام السوري إلى استدعي وتم اعتقاله في سجن الشيخ حسن التابع للأمن السياسي وبعدها اغتيل في لبنان لإفشائه هذا الأمر وهذه الحقيقية تؤكد الارتباطات السرية بين نظام “بنو الأسد” مع الولايات المتحدة الذي طالما افتخر به أزلامه بأنه الرئيس الأوحد الذي لم يزر الولايات المتحدة الأمريكية ويقف تحت قبة بيتها الأبيض (لا داعي للبروتوكولات الرسمية بين الحلفاء) من جهة، وتنفيذها الأوامر فيما يخص النازحين الجولانيين عندما أعطى النظام أمر الانسحاب قبل دخول الجيش الإسرائيلي لها.

4- عند قيام الدبلوماسي الأمريكي الشهير “هنري كسينجر” بمفاوضاته “المكوكية” ما بين العرب والإسرائيليين في السبعينيات، كان الموساد الإسرائيلي يتعمد عند مجيئه من دمشق إلى القدس أن يفاجئه باطلاعه على ما دار بينه وبين الأسد في دمشق كما تطلعه على مضمون الرسائل المتبادلة بين الأسد وبين الملوك والرؤساء العرب الآخرين، هذا ما قاله “إدوارد شهيان” في كتابه “كيسنجر والإسرائيليين والعرب” ويجب أن ننتبه في هذا السياق إلى أن معظم اللقاءات التي كانت تتم بين كيسنجر والأسد هي لقاءات مغلقة أي بينهما فقط!! وبالنظر حول معرفتهم برسائل الأسد مع بقية القادة العرب فيكون الأسد هو القاسم المشترك في هذه المعادلة!!

5- يقول الدكتور “عبد الرحمن الأكتع” وزير الصحة السوري آنذاك : “كنت في جولة تفقدية في الجبهة وفي مدينة القنيطرة بالذات عند إذاعة بيان سقوط القنيطرة، وظننت أن خطأً قد حدث، فاتصلت بوزير الدفاع حافظ أسد وأخبرته أن القنيطرة لم تسقط ولم يقترب منها جندي واحد من العدو وأنا أتحدث من القنيطرة، ودهشتُ حقاً حين راح وزير الدفاع يشتمني شتائم مقذعة ويهددني إن تحدثت بمثلها وتدخلت فيما لا يعنيني . فاعتذرت منه وعلمتُ أنها مؤامرة وعدت إلى دمشق في اليوم الثاني وقدمت استقالتي”.

إن هذه المعلومات وقائع تم تأكيدها مراراً داخل الساحة السورية، ولا يمكن لأحد أن ينكرها ولا أظن بأن هذه المعطيات من الممكن أن تجسد نوع من خطأ الحسابات في المعارك أو تكتيك مخفق على الوجه العسكري والسياسي للمعركة؛ فهذا استصغار للعقل والفكر.. وإذا ما أمعنا النظر في البندين الأول والأخير من تلك المعطيات نجد التفسير المنطقي لانسحاب القوات السورية من هضبة الجولان ودخول القوات الإسرائيلية لها (أرض ذات تحصين طبيعي استراتيجي لا تقهر إلا إذا أخليت من القوات المتمترسة فيها)، وعندما نمعن بالبندين الثالث والرابع بتحليل بسيط، نجد أن سقوط الجولان كان ضمن رعاية دولية صكها في مدريد وبطلها الأسد بارتباطاته الدولية السرية؛ فقد جعل الأسد من الجولان درعاً مزدوجاً وجهه الأول يتجلى في حماية البنية الأولية لحكمه المنتظر “المؤسسة العسكرية” من خلال الضمانات الدولية التي تعلقت بالاستقرار الداخلي وشرعنة حكم البطل الثوري الأوحد داخلياً وإقليمياً، وأما الوجه الثاني فهو حصن استراتيجي منيع يحمي صدر إسرائيل من أي هجوم مستقبلي للمنطقة من جهة ويعزز أمنها المائي- نقطة ضعف إسرائيل- من خلال حوض اليرموك الموجودة ضمن هذا الدرع المزدوج والذي أصبح ملكها!

الأسد الانقلابي: طموح الزعامة العربية!

كانت نتائج سقوط الجولان أو بيعه كارثية على نظام البعث، الذي كان الأسد وزير دفاعه. إذ دُمر سلاح الجو بالكامل، وقتل (600) جندي، على الجبهة بسبب أوامر حافظ الأسد بالانسحاب الكيفي من هضبة الجولان قبل سقوطها، واحتلت إسرائيل جبل الشيخ، وهو موقع يمكن من خلاله مراقبة كل التحركات في سهل دمشق . كما دُمرت مدينة القنيطرة بالكامل لاحقاً، ولجأ (120) ألف نازح إلى العاصمة المحاصرة، وبدا نظام البعث مكروهاً أكثر من أي وقت مضى، فقد اتهمته النخب السورية بإهمال المعركة العسكرية وعدم بقائه إلا بالسلطة، ذلك أن عددا من القوات الخاصة ظل يحيط بالعاصمة من أجل حماية النظام من أي انقلاب، عوضا عن التوجه للجبهة.. ونشطت آلة البعث وإعلامه الدعائي المضجر في ترديد مقولة أن إسرائيل كانت تريد إسقاط (ثورة البعث) لكنها فشلت، لأن نظام البعث باقٍ!

كانت إسرائيل في واقع الحال فرحة بنظام البعث هذا أكثر من فرحة أنصاره به.. فقد اكتشفوا عدواً كرتونياً يحاربهم بالشعارات والأغاني، وحين يخسر أرضاً محتلة، يعتبر أنه انتصر لأنه مازال باق في الحكم!

وخلال سنتين اتسعت الهوة بين أقطاب السلطة، ما انتهى إلى نشوب نزاع حقيقي بين معسكرين، فقام صلاح جديد بتجنيد الحزب لمصلحته، أما حافظ الأسد فقد عزز- كما أسلفنا- موقعه داخل صفوف الجيش . وفي 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1970 استغل الأسد أزمة إقليمية جديدة مع قمع الأردن لحرب الشوارع الفلسطينية فيما عرف بـأحداث (أيلول الأسود)، وكذلك وفاة جمال عبد الناصر، لينقلب على نظام صلاح جديد.. وقد شاركه شقيقه رفعت في محاصرة مقر قيادة البعث والقبض على أعضاء القيادة أثناء اجتماع لهم، وزجهم في السجون.

أشعلت وفاة عبد الناصر طموحاً لدى حافظ الأسد وغيره بملء مقعد الزعامة العربية الشاغر.. لكن قراءة معمقة في شخصيته ومسار وصوله إلى سدة الحكم التي كانت حديثة العهد آنذاك توضح أن الهدف كان بالغ الصعوبة، ولعل أبلغ اختزال لصورة الأسد حينذاك قدمه الكاتب حازم صاغية في كتابه (البعث السوري) حين قال:

” إن حافظ الأسد بعيد جداً عن أين يكون جمال عبد الناصر، فهو بعزوفه عن الناس وبطلتهِ قليلة الهيبة، وخطاباته العادية والضئيلة التأثير، وعجزه عن استنطاق الأحاسيس وتحريكها، لا يملك شيئاً من الكاريزما التي توافرت لـ “زعيم الأمة العربية” والأسد فوق ذلك. لم يخض معارك مصيرية كحرب السويس في 1956، ولم يصنع وحدة كوحدة 1958، أما المعركة الوحيدة التي خاضها في 1967 بوصفه وزير دفاع، فخسرها، وخسر معها هضبة الجولان. وإذا كان عبد الناصر قد حوصر في الفلوجة في حرب 1948، فإنه ما لبث أن رد بانقلاب غيّرَ فيه وجه مصر والمنطقة، بينما انصرف هم الأسد، بعد هزيمته الكبرى، إلى مؤامرات داخلية لتصفية رفاقه، حيكت في الغرف المغلقة وفي الزنازين والأقبية”.

الأسد المتآمر: شحذ الولاءات العائلية والطائفية!

وفي متابعة لمؤامرات حافظ الأسد الداخلية وتصفيته لرفاقه، يمكننا أن نلاحظ أن الفِرَق العسكرية وشبه العسكرية المكلفة حماية النظام، كلها كانت تحت قيادة أشخاص مقربين من الرئيس، وهم علويون من عائلته أو قبيلته أو عشيرته، أو منطقته في محيط جبلة. إضافة إلى رفعت الأسد الذي كان يقود خمسين ألف عنصر من (سرايا الدفاع)، هناك “عدنان مخلوف” ابن شقيق زوجة حافظ الأسد، الذي كان على رأس عشرة آلاف عنصر في الحرس الجمهوري، إضافة إلى “علي حيدر” العلوي من جبلة الذي كان يترأس القوات الخاصة. أما بالنسبة إلى المخابرات الجوية والمخابرات العسكرية المكلفتين منع حدوث أي انشقاق في القوات المسلحة، فقد كانت الأولى تحت قيادة العقيد “محمد الخولي” الذين عين عام 1963، والثانية تحت قيادة اللواء “علي دوبا” الذي كان بمثابة الرجل الثاني في النظام حتى صيف عام 1990، وأخيراً هناك “محمد ناصيف” على رأس أمن الدولة، من نفس منطقة الأسد.

تقول “كارولين دوناتي” في كتابها (الاستثناء السوري) عن تشابك البنية الطائفية مع العائلية في نظام حافظ الأسد: ” كثيراً ما لوّح الأسد باحتمال حدوث حمام دم جديد في معركة الطوائف إذا تخلى عن السلطة. وبذلك ربط حافظ الأسد إنقاذ الطائفة العلوية بمصيره الشخصي. وأكد للعلويين أن دعمهم للأسد هو حماية لهم بصفتهم أقلية”. فكان يقول: “أنت مع الأسد، أنت مع نفسك” وأعطى للطائفة دور حماية النظام. وحظي الأسد بولاء بني طائفته، ما جعله يختار من بينهم رجال الأمن والقوات الخاصة، وغيرهم ممن كلفوا حفظ الأمن بين العلويين”.

عندما وصل حافظ الأسد إلى السلطة، حاول تسوية الخلافات التاريخية بين العلويين لبسط سيطرة عشيرته، ويقول الصحفي الفرنسي “ميشيل سورا” في كتابه الهجائي المبكر عن حكم الأسد الأب والذي أسماه (دولة البربرية) إن قبيلة (الكلبية) أصبحت المركز السياسي للطائفة العلوية، وأصبحت مكانة الفرد العلوي، لا تقاس بانتمائه إلى هذه العشيرة أو تلك، بل بدرجة اقترابه من عائلة الرئيس. هذه الدرجة من الاقتراب هي مصدر السلطة الحقيقي. فمن أجل الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها، استند حافظ الأسد إلى العصبية القبلية. كما تأثر الحقل السياسي كثيراً بعوامل أخرى، منها الانتماء إلى الريف مقابل الانتماء للمدن، والانتماء إلى القوات المسلحة أو البعث. وقد شكل العلويون في القوات المسلحة والأمن الداخلي قلب عصبية السلطة. بفضل صلتهم العائلية، أو اقترابهم الجغرافي من حافظ الأسد، وأحيانا من دون الانتماء إلى العشيرة أو القبيلة نفسها.

وقد سمح زواج حافظ الأسد بامرأة من عائلة مخلوف (أنيسة مخلوف) بتوسيع نطاق هذه العصبية، فيما بين العلويين، كانت عائلة مخلوف أكثر نفوذا من عائلة الأسد، وكانت مقربة من القوميين السوريين، الذين كانوا يحظون بشعبية كبيرة بين بعض الأقليات، والمقربين من أوساط الأعمال. وقد تكامل دور الحزب مع دور الجيش من أجل تشكيل شبكة واسعة من الأنصار والأعوان، وبالتالي انضم أبناء هذه العصبية إلى حزب البعث منذ سنواته الأولى.

تقول دوناتي في (الاستثناء السوري) ص 125: ” معظم هؤلاء التقوا الأسد في مدرسة اللاذقية، قبل الالتحاق بالأكاديمية العسكرية في حمص. غير أن التضامن الطائفي ليس أمراُ بديهياً دائماً. ما اضطر الأسد إلى اللجوء إلى المحسوبية التقليدية ذات الأساس المادي، فأصبح يوفر وظائف القطاع العام، ويساعد في الحصول على قروض زراعية، وفي الالتحاق بكليات الشرطة (… ) وبالتالي فبدءاً من حراس المباني، ووصولاً إلى كبار المديرين، كانت الإدارة المركزية مليئة بالعناصر العلوية “.

الأسد المكيافيللي: عاشق نصائح (الأمير)!

يقال أن لكل طاغية شيطان يُعلِمه ولكل عالم حكمة تُسيّره، ولكن إذا ما كان الحاكم هو الشيطان نفسه فماذا يكون يا ترى؟

تجربة الزمان تقول ربما وجدناه عند أمير بني الأسد؛ فقد عُرف عن حافظ الأسد كما هو حال بقية القادة، شغفه الشديد بقراءة كتاب “الأمير” للمفكر الإيطالي “مكيافيللي” الذي كان حالماً بتوحيد إيطاليا عن طريق القوة العسكرية والدهاء، فألف هذا الكتاب لهذا السبب ولإرشاد عائلة (مديتشي) حكام فلورنسا لتحقيق ذلك!

إلا أن الفرق بين أمير “بنو الأسد” والأمير الإيطالي هو الهدف الأسمى فبينما هذا الأخير يسعى من وراء وصوله إلى السلطة بالقوة لتوحيد البلاد ضد الخطر الخارجي نجد أمير بني الأسد، يسعى للسلطة لأجل اغتصابها والاحتفاظ بها للأبد وتوريثها لعائلته وهو ما من شأنه أن يهدد وحدة البلاد وقيام النزاعات وهذا ما تجلى في قضية الجولان وإعادة الهيكلة الجديدة لتشكيلات القوة العسكرية على أساس طائفي وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية لما تشهده سورية في عهد وريث “بنو الأسد”.

مما لا شك فيه بأن حافظ الأسد كان من أكثر الحكام العرب تطبيقاً للوصايا التي يحتاجها (الأمير) في طريقه للوصل إلى السلطة وممارستها، إلا أن هذا التطبيق فاق العمل به، إلى درجة التكيّف حسب كل زمان ومكان… وربما هذا ما يفسر استدامة عرش مملكة “بنو الأسد” لفترة سابقة قبل قيام الثورة السورية عام 2011م، لقد طرح “مكيافيللي” للأمير عدة أساليب تمكنه من الوصول للسلطان وكان يغلب على تلك الأساليب إضافة لاستخدام سطوة سلاحه أو سلاح الآخرين هو وجود الحظ الذي يحتاجه الأمير ليكون في هذا الموضع. ويمكن القول أن عامل الحظ عند حافظ الأسد قد تجلى في العلاقات الجيدة لجده ‘سليمان’ ومن ثم أبيه “علي الأسد” مع الفرنسيين التي فصلناها في الجزء الأول، والتي شكلت بداية الطريق لحافظ الأسد بشكل أو بآخر. على الأقل حصوله على التعليم اللازم، للالتحاق بسلاح الطيران في الكلية الحربية.

أما فيما يتعلق بالقوة العسكرية فقد زاوج الأسد بين الأسلوبين فهو في بداية طريقه لم يكن يحتكم على سلطة قبلية أو جاه أو مال ليمتلك من خلالها السلاح، وإنما دخل لأوساط القوة العسكرية في الجيش السوري ودرس طبيعة عناصره ونقاط قوته وضعفه ليستطيع فيما بعد حشد سلاح الآخرين ومن ثم بناء القوة التي سينطلق بها للإحكام على السلطة وهذا ما بدا واضحاً في سياساته الأولية عندما أعيد تشكيل اللجنة العسكرية لحزب البعث وما سبق ذكره.

أما فيما يتعلق بمرحلة توطيد الحكم فحسب (مكيافيللي) يجب على الأمير في المراحل الأولى لتقلده الحكم التخلص من الأشخاص الذين ساعدوه للوصل إليه فهم أشد خطراً عليه من الأعداء، وهذا ما قام به أمير “بنو الأسد” بانقلابه عام 1970م الذي أطاح بـ”جديد” ومجموعته والذي لعب دوراً رئيسياً فيما وصل إليه حافظ الأسد، كما يضيف قائلاً أنه يجب على الأمير تشكيل ترسانته العسكرية على أساس الانتماء الوطني لضمان الولاءات حين اشتداد الخطر والابتعاد عن القوات المأجورة لأن ليس لها ولاء سوى حبّ المال، وضمن هذه الجانب المهم نجد مكر حافظ الأسد في تكييف العمل لصالحه فمن جهة أفرغ التشكيلات الوطنية للجيش السوري على ضوء إعادة تشكيل اللجنة العسكرية ثم قام بمساعدة أستاذه “صلاح جديد” بتسريح العديد من الضباط العسكريين المحسوبين على الطائفة السنيّة واستبدالهم بتشكيل جديد جوهره من ضباط الطائفة (العلوية) التي زعم أنه منها إضافة لمجموعات أخرى هلامية من ضباط الطائفة السنيّة وترافق ذلك مع بثه لأفكار تتعلق بالخطر الدائم للأقلية العلوية ضامناً بذلك ولائهم الشديد في حال حدوث أي أمر طارئ من شأنه أن يهدد عرشه، وكانت تجربة الإخوان المسلمين عام 1982م خير دليل على ذلك فكان الولاء العسكري هو الحاسم الأول والأخير لذلك.

الأسد الموّرث: ينهي الصراع مع أخيه!

في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 1983 دخل حافظ الأسد مشفى الشامي بدمشق. رسمياً قيل إن رئيس الدولة كان يعاني من التهاب في الزائدة الدودية، بينما في الواقع الأمر يتعلق بأزمة قلبية. أدى مرض حافظ الأسد إلى نشوب أزمة فراغ السلطة في نظام كان يقوم فيه الحكم على شخص الرئيس وعلى الولاء العائلي ثم الطائفي. لكن الولاء العائلي لم يعد له معنى، عندما اقترح رفعت الأسد المهووس بالسلطة الطائفية المتوحشة في أحط صورها، أن يخلف أخاه في منصب الرئاسة، ما أظهر طموحاً كبيراً أدى إلى نشوب خلافات غير مسبوقة في معسكر الأسد.

فيما يذكر “مصطفى طلاس” في كتاب طبع في السنوات الأولى من عهد بشار ثم أمر بسحبه من الأسواق، أن “رفعت” أثناء مرض أخيه، كان ينوي قصف دمشق من جبل قاسيون، واستباحتها لجنوده وسرايا الدفاع إذا ما قاوم أحد استيلائه على السلطة ويقول “باتريك سيل” إن (اللواءات) الأكثر نفوذاً في البلاد كانوا يحيطون برفعت الأسد، ويرفضون لجنة من ستة مسؤولين في الحزب كلفهم حافظ الأسد تسيير شؤون البلاد في غيابه، غير أن الأوضاع تعافت فور تعافي حافظ الأسد، فجدد الضباط ولاءهم ومبايعتهم له،، وبدأوا يخططون ضد شقيقه رفعت. واستغل حافظ الأسد تنوع الأجهزة الأمنية لإعادة بسط سيطرته على البلاد.. كما تمكن من تفكيك (الدولة داخل الدولة) التي كونها رفعت الأسد!

من خلال تلك الاستراتيجيات العديدة تمكن الأسد الأب من الإبقاء على ركائز عرشه قوية ومستقرة جاهداً في تجهيز ابنه “باسل الأسد” لتسلم العرش ولكنه موته في حادث سير غامض على طريق مطار دمشق الدولي عام (1994) أحبط كل مخططاته وأحلامه، وأذاقه لوعة فقدان الابن التي جرَّعها لآلاف السوريين من الذين قتل أبناءهم في سجونه وهم في ريعان الشباب.. فاتجه إلى أخيه الأصغر “بشار الأسد” وفي 10 حزيران عام 2000م توفي حافظ الأسد وتم توجيه ضربة مهينة جداً للدستور السوري (الشكلي في الأصل)، بتنصيب بشار الأسد الأمير الثالث في مملكة “بنو الأسد” بعد تعديل بند (سن الرئيس) ليناسب سنه في غضون دقائق في مجلس الشعب الصوري الهزيل!

الأسد الوارث: الصعود إلى الأسفل!

على الرغم من الطريقة التي أتى بها بشار الأسد إلى الحكم كوريث عن حكم أبيه وما رافق ذلك من حساسيات سياسية وخاصة أن نظام الحكم في سورية هو نظام جمهوري إلا أن مملكة “بنو الأسد” لازلت باقية… وقد تأمّلَ الناس خيراً في مقولة أن هذا الابن قد تعلم في بلاد أجنبية ذات حضارة وعراقة، ولم يكن عسكرياً قاسياً كأبيه، أتى من حزب مدرسة البعث القمعية، وزج كل رفاقه في السجن حتى الموت ودمر حماه فوق رؤوس أهلها.. وأنه آتٍ ضمن حملة تطوير وتحديث هدفها نقل البلاد إلى عهد جديد، بغض النظر عن الخرق الدستوري الذي حدث.. إلا أن الواقع سرعان ما أثبت لهم أن الولد هو ابن أبيه، وابن قيم هذه العائلة المجهولة الأصول، المتهافتة الأخلاق!

قال بشار الأسد في إحدى خطاباته الأولى من فترة حكمه أنه “يريد إعلان بدء مسيرة الإصلاح إلا أنه لا يملك عصى سحرية ليحول كل شيء في الدولة كما يجب أن يكون وإنما تحتاج المسألة إلى وقت وجهد مشترك مبني على أسس محددة من شأنها أن تحقق هذا الأمر”.. لكن كلمة العصا السحرية، تكررت في كل خطاباته اللاحقة وتحولت إلى لازمة لتبرير نكوصه وتخاذله في تحويل أقواله إلى أفعال!

قام بإطلاق سراح أعداد محدودة من المعتقلين السياسيين في عهد أبيه وافتتح بعض المنتديات للحوار وللنقاشات الديموقراطية كان من ضمنها منتدى “أبو زلام” في حي البرامكة بالعاصمة دمشق الذي كان يجمع بعض المفكرين الاقتصاديين والسياسيين وقد اعتقل منه أستاذ جامعي في أواخر العام 2003م!!، يبدو أن السلطات الاستخباراتية لم ترضَ عن هذه السياسات للأسد الابن، وأن (الحرس القديم) مازال يحيط بالرئيس الشاب، ولكن قيام الثورة السورية بيّنت الكثير من الحقائق.. وأكدت مقولة (فرخ البط عوام) فقد بزَّ بشار الأسد أباه في الحسابات الطائفية وفي القتل والتعذيب الممنهج، واستراتيجية الاغتيالات السياسة لشخصيات الفاعلة في المنطقة. وإن لم يبلغ مرتبة والده في التخطيط المؤامراتي الاستراتيجي، وفن التكتيك الدبلوماسي، واللعب على الحبال.. فشتان ما بين الإثنين من ناحية الدهاء والمكر والتصرف الدقيق إلا أن الثوابت قد بقيت على حالها في القمع والقتل وارتكاب المجازر.

فعلى صعيد العلاقات الخارجية لم يستطيع الأسد الابن أن يكون فاعلاً ضمن الساحة الإقليمية كما كان أباه وإنما أصبح تابعاً لبعض الدول الإقليمية؛ وقد تجلى هذا الأمر في عام 2005م عندما بدأت تظهر المزارات الفارسية (الشيعية) في مناطق من دمشق والتي هي غريبة عن سورية حتى في عهد الأسد الأب، الذي كان واضحاً في تلك الأمور، وانكشفت هذه التبعية بشكل جليّ عند قيام الثورة السورية ضد حكم الأسد الابن فعلى الصعيد الدولي بتنا نشهد وزير خارجية روسيا مدافعاً عن النظام ويشرح وجهة نظره على شاشات التلفزة أكثر مما نرى وزير الخارجية وليد المعلم الملقب بـ “فخر الدبلوماسية السورية” ومع تطور الأحداث في سورية بات التدخل الإيراني شديد الوضوح عسكرياً وسياسياً فاليوم الفصائل الفارسية (الشيعية) التي تقاتل ضد الثوّار، والضباط الإيرانيون هم المخططون الحقيقيون لإدارة الأزمة السورية مع نظرائهم من المستشارين الروس، ومن هم في مصافهم على الساحة الإقليمية

في هذا السياق فإن كتاب (مكيافيللي) يحذر الأمير مما يلي:

“يجب على الأمير الانتباه من الاعتماد على المرتزقة المأجورين فيما يخص قوته العسكرية التي يحارب بها فمهما بقيت تقاتل فإن ولائها زائف إما عند زوال المال أو زيادة في المال من قبل خصومك فيتركوك وحيداً مهيأً للخسارة الحتمية مهما فعلت وأينما ذهبت”.

ة والخوف من الأمير) يقول:

“تبقى سيداً ما دمت الأمير الذي يهابك الناس ويخافوك ويحترموك ويخافون سطوة غضبك فبهذا تبقى حاكما إلى ما تشاء ولكن لتعلم أيها الأمير إن تمت إهانتك وشتمك الناس وأهينت رسومات صورك وباتت تحت مداسهم فاعلم أنك ساقط عن عرشك تحت رحمتهم لا محالة ولا مفرّ من ذل

إن “مكيافيللي” صاحب نظرة تحليلية في دراسة الظاهرة السياسية بواقعية صرفة، وقد برع ونجح باستخراج قوانين عامة من وراء المنهج التحليلي التاريخي؛ وفي هذا السياق أظن أن الشعب السوري قد فعل أكثر من ذلك بكثير ثأراً لكرامته، لا لطعام ولا لملبس، وإنما ثأر الكرامة والديموقراطية السورية التي اغتصبتها مملكة “بنو الأسد” لأكثر من خمسين عام وهو ماضٍ في ثورته مهما جرت من محاولات لإجهاضها فإنها تلد من جديد.

بعد هذا الماضي المرير لا نستطيع القول بأن الثورة السورية قد قامت كردة فعل طبيعية مع قيام ثورات “الربيع العربي” وحسب، فصحيح أن جميع أنظمة البلاد العربية ذات طابع ديكتاتوري بنسب أو بأخرى، إلا أن فهم الظروف التي تكلمنا عنها وإخضاعها لتحليل منطقي يبين أن هناك أسباباً موضوعية وجيهة للقيام بالثورة على مملكة بني الأسد، التي فاقت جميع الديكتاتوريات في العالم في إجرامها وتسلطها، بل وتصارعها من أجل السلطة.. إلا أن الحالة العامة التي مرت بها المنطقة قد أشعلت فتيلها المتقد.. وهكذا قامت الثورة السورية لدحر ماض أسود وبناء حاضر ومستقبل جديد.. ولكن متى يكون الانتصار ومتى تطفئ نارها، فالأيام القادمة ستخبرنا بذلك، وعندها ستكون عائلة الأسد برمتها، ذكرى من ماضٍ يجاهد السوريون كي ينسون وقائعه الدامية في تاريخهم.

* كاتب وباحث سوري في العلوم السياسية

المصدر: أورينت

 في 01 أيلول/ سبتمبر 2014

التعليقات مغلقة.